أَقْرَأُ لِأقْتَنِي زَادَ الْوَرْدِ مِنَ الرَّذَاذِ

أرى أن العلاقة بالكتاب طقس روحي تعبدي صرف، ومتعة غير مُضاهاة، سفرٌ غني راق، حاضن لكل عناصر الفرح والابتهاج، وانتزاع ذرات الوعي الفردي، والرُّقي به، خاصة ذاك المرتبط بمغامرتَيْ البحث والكشف.
وعلى مسار الحياة، تترسخ بالذاكرة ظلال هذه العلاقة النورانية، وقد لا تنفك أبدا.
لأول علاقةٍ بالكتاب في ذاكرتي منزلة حية حفرَت أخاديدَها عميقا، وأطيافها تعود إلى سنوات عمري الطفولية. كنت أحظى بمحبة خاصة قوية من جَدِّي. كان يَنْقُدُنِي بين الفينة و الأخرى قِطَعاً مختلفة القيمة، أجمعها وأحتفظ بها في علبة ذات جسم معدني من قصدير فِضي.
أذكر وأنا مارٌّ بإحدى الأزقة غير المألوفة لدي، حيث كِشْكٌ صغير مُنزوٍ، لفت انتباهي وسط ركام من المبيعات المختلفة المعروضة، كتاب صغير الحجم (مقارنة مع ما اعتدت رؤيته) تعلوه صورة رجل ذي وجه مضيء، وعينين بارقتين، بشارب ظاهر. في نصف جِلسة، يقتعد كرسيا خشبيا، مستديرا إلى الجنْب. أذكر أن ما شدني هو العنوان:» دمعة وابتسامة «… لم يكن لي سابق عهد بذلك، ولا بصاحبه المؤلف!! أدركت بحسي الصغير معنى اللفظتين بشكل عام، وفهمته تقريبا، لكني طبعا، جهلت المقاصد والمرامي. استفسرتُ صاحب الكشك عن الكتاب المعروض، فأخبرني أنه للبيع بثمن ثلاثة دراهم (أتحدث هنا عن سنة 1976 ربما!!) ، أمددته إياها وانصرفت محملا بالذخيرة. كان الكتاب أول مقتنياتي الشخصية من عالم الكتب، و كم سعدت لحظتها. شعرت أنني تحوَّزتُ على ملك عظيم، يخصني. صار (دمعة وابتسامة) مؤلَّفا ملكي أنا، كما صار (جبران خليل جبران) حاجة من حاجاتي القليلة ومن كنوزي البسيطة. لا أعرف الرجل! لم يرد هذا الاسم الثلاثي على مسمعي قَط قبْلاً، حتى أنني لم أستسغ غربته البنائية ! و لا أعرف ما المكتوب بين أوراقه. اكتفيت بالتصفح دون غاية، و لم أطلع على المحتوى، إلا بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات! لسبب عجيب…
فَفَوْرَ دخولي الدار، لقيت والدي الذي انتبه لما أتأبط. سألني فأجبته، ناولته الكتاب واسترسلتُ شارحا، أخبرته بسعره. طفق ينظر فيه ويُقَلِّبُ صفحاته ثم أمرني بالذهاب لمراجعة دروسي و إنجاز المطلوب مني. لا أدري هل قرأه في ما بعد أم لا؟! لكن خليل جبران مع (دمعته وابتسامته) ظلَّا عند والدي (لا أعلم أين احتفظ بهما !) … نسيتهما صراحة، كما أنني تحاشيت السؤال عنهما، حتى جاء يوم، وبدون مقدمات، كنا جميعا متحلقين حول مائدة الغذاء، دفع فيه أبي بالكتاب أمامي و لم يزِد شيئا، وضعه وانصرف!
كانت تلك أولى حكاياتي مع الكتاب، ولم تكن الأخيرة. استرسلت اللقاءات المباشرة وبأوضاع مختلفة وحالات متفردة.
قَبل وفاته بِسنتَين ونَيّف، أوْصاني جَدّي -مِن والدي- الحاج عبد الكريم بن الحاج إدريس المومني؛باستقبال جَبَروت المعاني عبر رِياضة التَّكرار. وأخبرني بأن محبة أي كِتابٍ هي مِن مَحبة أهله،وهو يُهديني كتابَ «نهج البلاغة» الذي هو مجموعُ ما ٱختاره الشريف الرضي مِن كلام علي بن أبي طالب، والذي شرحَه الشيخ محمد عبده و الواقع في جزئين من 677 صفحة، بمناسبة حصولي على شهادة الباكلوريا سنة 1985، رغِب في التأكيد على أن لغة المُؤلَّف صعبة للغاية، و أن محاولتي في ٱستيعاب المُتَضَمَّن، لن تكون هَيّنةً، كما أن الاحاطة بالتفاصيل، قد تَتيه بي صوب الصُّدود.
كلامُ جدي، وهو الإنسان العادي، البسيط، لكن الرجل الحِرْفِيّ، المُتفقّه في عقيدته، المداوم على أركانها و الساعي إلى الخَيرات ب»دَلائلِها»، قراءةً ومنهاجا، سُلوكا و نُسُكا، زاويةً و لَيالٍ. كلامُه شَكّل لي دائرة مُنغلقة مِن الأسئلة والدَّهَشِ. والحقيقةَ أقول، إني ما قدرتُ على رفع التحدي إلا بعد مرور أكثر مِن ثلاثين عاما، أو لِنَقُل حاولتُ على الأقل. قد يكون التهاون سببا، مثلما قد يكون الانشغال عن الكتاب بما هو أهمّ و أجدَى.
وبِعودتي إلى (نهجِ بلاغةِ) علي بن أبي طالب، أكاد أجزم أن هيبة وُلوج قِلاع الكِتاب ما غادرَتني قَط، و أنّ نَفَسَ الحرائقِ و بَطشَها، بَعدُ مُقيمانِ، ما بَرِحا عقلي. أقرأ، أطالع، أكرر، أستفهم، أتقصّى… لِتظَل لغةُ «علي» مُتَمنِّعةً مُمانعةً؛ لا تُحرر معانيها بسُهولة و لُيونة. ويبدو أنني ذاهب رَأساً بٱتجاه قولِ الروائي الكبير واسيني الأعرج (في سيرةِ مُنتهاه): « الاكتشاف السريع والمُتَسرع، يُقَلل مِن عُمر الدهشة.»
ثم إن التعالُق مع الكتاب، أو التعلُّق به، هو فتحٌ قَصي للدواخل؛ يَغور في الأعماق، مثل الحنين، خصوصا إذا كان إهداءً، إذ تظل أطياف الذكريات لصيقة، جاذبة إليها لحظات المنح والتمكين؛ فيعظم الموقف ويكبر.
وقد حصل أن مكنني جاري في السكن (عبد الرحمان) والذي هو مهاجر مقيم بفرنسا، لا يحل بمنزله في الوطن إلا فترة الصيف مع عائلته، من هدية رمزية، بطعم العتاقة والقِدم.
لا يمكن أن أُقَدرَ حجمَ الفرح الذي غمرني و أنا أتلقى هديةً منْ عيار ثقيل؛ حُمِلتْ إلى مَضارِبي مُتجاوزةً كل الحدود. هديةٌ لا تعترف بالجغرافيا ولا تنصاع لها. حَضرتْ ممهورةً بعبق التاريخ، مُضمّخةً بصُفرة الزمن و فواعله، نسخة فريدة و مميزة منْ مجموعِ الأعمال الشعرية لڤيكتور هوجو، صدرت بداية القرن العشرين، و بالضبط سنة 1905عن « المطبعة الوطنية « بباريس.
خلال فحصي بعناية للكتاب ذي المُجلّدَين الضخمين، لاحظت أن الأول مشتمل على سبعة أعمال شعرية، مؤرخة سنة 1853م، في 760 صفحة. أما الثاني، المتضمن لثمانية دواوين شعرية، فجاء في 660 صفحة.
هذه الهدية/ الكتاب، بحمولاتها القوية، وبنكهاتها الخاصة، من النوع الذي يَسُلُّ سَخِيمَةَ القلب ويُذهِبُ غَوائل الصدر، إن حَضَرَت!! وهذا الكتاب/الهدية، بصيغته تلك، في لغته الأم لشاعر كوني، يرمم جسور الصداقة الخالصة، مُقصيا كلَّ شائبة.
كنت أحسِبُني، وأنا أفتح الصفحات و أقَلِّبُها، قُبالةَ نافذةٍ للمحبة، عبرها يُطل جاري عبد الرحمان. حضرتُ بذهنه وأنا غائب، وجعلتُ طيفي بقربِه. لا يَهم الثمن الذي دفعه قَل أو كثُر، الأهم أنه رأى في شخصي، الكائنَ الوحيد المُستحقَّ لامتلاك الكتاب ذاك، واعتبرني الأجدر به. هو كتاب هدية، نازل من أرض أخرى وسماء غير التي تغطيني، مضمخ بالأبعاد الإنسانية الشاهقة.
لطالما تساءلت: إذا كان الكتاب عامة كائنا حيا، فائضا بالنبض، فما يمكن أن نمنحه إياه نحن؟
ولطالما تساءلت أيضا: هل يمكننا أن نَضُرَّ بالكتاب من جهتنا، نحن اللاهثين وراء أنواره؟
العلاقة بالكتاب ـأي كتاب ـ صراع ضارٍ مع الظلام؛ وقد ترتبك وتضطرب حينا، بالقدْر الذي تُحيل ذاك الوصلَ معه إلى خطو دامٍ بأقدامٍ حافية فوق طريق مُتربَة شائكة، إذَّاك يغدو الفعل قتلا متعمدا عن سبق إصرار وترصد !!
وقد حدث؛ حين همَمتُ بالعودة إلى أرض الوطن، بعد قضاء سبع سنوات في فرنسا، وأنا أحزم حقائبي وأغراضي، أنِ انتبهتُ إلى الكم الهائل من الكتب التي تراكمت لديَّ، وعن صعوبة حملها كلِّها معي. فعلاقتي بها اتخذت أبعادا غاية في المحبة والوصل والشوق المتبادل. لكل واحد منها ذكرى مكان أو عبق عطر، أو نغمةٌ حالمة مرَّت في زمان ما… وكُلٌّ يحمل بداخله ورقة أو أكثر، مخطوطةً بيدي، وبأقلام حبر مختلفة اللون، في خضم حواراتي المتشابكة مع المضامين، وتلك عادتي أثناء القراءة ومحاولة الكشف.
بقلب مشروخ وجوارحَ مُتصدِّعةٍ، أمسكتُ الكمَّ الضخم من الكتب، رصصتها أمامي، وبدأت أقلِّب مصيرها ؟! فكرت في إرسالها عبر البريد أو عبر الحافلات المختصة، لكن الأمر سيتطلب مجهودا ماليا كبيرا، وقد لا يَفِي جَيبي بذلك. فكرتُ في رصها وسط صناديق كرتونية ووضعها قرب حاويات النفايات، لكني تراجعت بسرعة؛ فالمكان لا يليق بمَقامها، لأن مَنْ خُلق للتنوير و التوعية، أبدا لا يجب أن يكون قدَرُه تلك المنزلة الرثة.
اِتَّقدَت بذهني فكرة «جهنمية» : إحراق الكتب !! وسرعان ما عَدلت. كيف يصح أن تتبادر إلى مخيلتي مجزرة من هذا القبيل؟ إن أسوأ فِعل عبر تاريخ البشرية سجلتْه الأحداثُ، كان إحراق الكتب !! فزعت، وهالني التفكير في مصير من يهدي إلى النور، كيف أن يُعْرَجَ به صوب لهيب النار !؟ تلك صنيعة إرهابية، لا شك في ذلك.
قفز إلى ذهني اسم «إيزابيل»، الصديقة التي عرَّفتني بها شعاراتُ الشارع ضد هشاشة المهاجرين، ونضالات « عصبة الدفاع عن حقوق الإنسان « . سارعت في الاتصال بها. شرحتُ لها النازلة. صَمْتُها لِبُرهة الِاستشارة ربما، خِلتُه دهرا، لكنَّ قبولها و ترحيبها بمقترح الاحتفاظ بالكتب، سرَّني كثيرا و أسعدني، إلى درجة أنني تخيلت الكتب، وأنا أخبرها بقدَرها اللاحق الجديد، أنها شرعَتْ في رقصة جماعية على إيقاع إحدى نغمات شارل أزنفور:
(Emmenez-moi…)
من يدري، قد تشفع لي هذه المخلوقات يوما، حرجا أقع فيه !!
لكل ذلك، لأجل كل هذا، وبغاية استطالة وإدامة العلاقة بالكتاب، أجدني أحرص على القراءة في دهشتها الأولى. أقرأ بتأن شديد تبجيلا للمكتوب، وتثمينا للمجهود المبذول… أقرأ بكل حواسي، بعيني، بقلبي، بلساني، بمسامي. أقرأ السطر ولا أدع المعنى ينفلت أو ينسحب… أقرأ مبتسما، وقد أغدو بشفتين مَزْمُومَتَيْن حين أتفاعل سَلبا…أقرأ الكتاب على ضوء مُشِع، ولا أقرأ في عتَمة… أقرأ لأشهق وأَزفِرَمثل الكاتب… أقرأ لتنتظم أنفاسي… أقرأ لأستعيد لحظات الكتابة، هي ميلاد وخلق جديدان في الكون، فأسعد بذلك… أقرأ لِلسؤال… أقرأ لأبصِرَ الحُفر أمامي… أقرأ لأقتني زادَ الوَردِ من الرَّذاذِ…


الكاتب : جواد المومني

  

بتاريخ : 30/05/2025