الجسد والجنس في حكاية لأبي حيان التوحيدي: الرغبة بين الرهبنة والشيطنة -37-
نحن إذ نعالج هذا الموضوع ندرك أن أبا حيان، بحكم العصر الذي عاش فيه وبحكم طبيعة الأسئلة المطروحة في تلك الفترة، لا يطرح مسألة الصراع بين الرغبة والسلطة، وبين الأنا الفردية ومعايير المجتمع الأخلاقية عبر الكتابة مباشرة، وإنما قراءتنا الخاصة لخطابه حول الجسد والجنس والنفس والرغبة…وغيرها، وتأويلنا لهذا الخطاب هو ما يجعلنا نفترض حضور هذه الرؤية عنده، خاصة أنه أشار على لسان “الشيخ” في الطرفة السابقة إلى التحريم الذي تعرض له العامة في ممارسة حياتهم وحريتهم على عكس الطبقات المتنفذة الراقية! وهذا ما يبين وقوف التوحيدي إلى جانب”المساواة” في تصريف الرغبة بين جميع الفئات باعتبار أن الرغبة لا تنفصل عن كينونة الإنسان الذي لا تكتمل شروط وجوده إلا بتلبية دعائها.
2/الرغبة بين الرهبنة والشيطنة: قراءة في حكاية
ستبلور هذه القراءة التصورات المشار إليها سابقا حول الجنس والجسد والرغبة عند التوحيدي من خلال ملامسة الخصائص الجمالية للحكاية المشتغل بها وكيفية تشكيلها لدلالات وأبعاد محايثة رامها السارد في خطابه. وفي البدء يلزم أن نثبت نص الحكاية كي يطلع المتلقي على أحداثها وعوالمها، ثم سننتقل إلى القراءة. يقول التوحيدي: “قال الماهاني:كانت في بعض الديارات راهبة قد انفردت بعبادتها، وكانت تقري الضيف وتجير المنقطع، وكانت النصارى تتمثل بعبادتها وعفافها، فمرّ رجل كان من شأنه أن يدخر الفواكه، فيحمل في الصيف فواكه الشتاء، وفي الشتاء فواكه الصيف إلى الملوك، ومعه غلام له وحمار موقر من كل فاكهة حسنة، فقال للغلام: ويحك، أنا منذ زمان أشتهي هذه الراهبة، فقال الغلام: كيف تصل إليها وهي في نهاية العفاف والعبادة؟ فقال: خذ معك من هذه الفاكهة وأنا أسبقك إلى سطح الدير فإذا سمعتني أتحدث معها بشيء فأرسل ما معك من الروزنة؛ فأصعد الغلام سطح الدير، وجاء الرجل فدق الباب فقالت: من هذا؟ قال: ابن سبيل وقد انقطع بي، وهذا الليل قد دهمني، ففتحت ودخل، وصار إلى البيت الذي الغلام على ظهره، وأقبلت هي على صلاتها، وقالت: لعله يحتاج إلى طعام، فجاءته به وقالت:كل، فقال: أنا لا آكل، قالت:ولم؟ قال:لأني ملَك بعثني الله تعالى إليك لأهب لك ولدا، فارتاعت لذلك وجزِعت، وقالت: أليس كان طريقك على الجنة فهلاَّ جئت معك بشيء منها؟ قال: فرفع الرجل رأسه وقال: اللهم بعثتني إلى هذه المرأة، وهي بَشَرٌ، وقد ارتابت فأرِها يا ربّ برهانا، وأنزل عليها من فاكهة الجنة فتزداد بصيرة ومعرفة، فرمى الغلام برمانة من فوق، وأتبعها بسفرجلة، ثم بكمثراة، ثم بخوخة، فقالت: ما بعد هذا ريب فشأنَك وما جئت له، وشال برجليها وجعل يدفع فيها وهي تَمِرُّ يديها على جنبيه كأنها تطلب شيئا، فقال لها: ما تلتمسين؟ قالت: نجد في كتابنا أن للملائكة أجنحة وأراك بلا جناح، فقال: صدقت، ولكنا معشر الكَروبيين بلا جناح”.(7)
2-1/بنية الحكاية
تقوم الحكاية على ثيمات عديدة وأساليب متنوعة تشكل بنيتها وتطبعها بسمات دلالية مميزة. ومن الأساليب الموظفة لبناء النص دلاليا: التأرجح بين السفور والخفاء، أو المكاشفة والاحتجاب. وهو أسلوب يعبر عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع المنغلق على ذاته. علاقة يسمها الشعور بتعالي المرأة الراهبة بحكم اتصالها بالمقدس. فالارتباط بالرهبنة والتدين والعفاف والعبادة يجعل المرأة موضوع رغبة من طرف الرجل الذي يتوق إلى معانقة المقدس(في صورة الراهبة)، فيصير موضوع رغبة ولذة جنسية من خلال تشغيل قاعدة “كل ممنوع مرغوب”. ومن ثم فإن الرجل يستخدم نفس منطق المقدس لتحقيق “شهوته” عن طريق لعبة التخفي: إدماج الذات في طقس قدسي عبر التماهي بالملاك النوراني الأثيري، أو من خلال حلول الملائكي في البشري حفاظا على طهرانية المرأة/الراهبة وعلى موقعها القدسي كي لا تُبارحه على المستوى التصوري. فلو افترضنا أن البائع صرح بموضوع رغبته من غير تقمص لدور الملاك وتوظيفه للخطاب الديني لما استطاع أن يمتلك جسد المرأة الطهراني؛ فالرجل حينما اتحد بالملاك وتقنع بأفعاله استمد سلطة ممارسة الجنس (بدعوى الحفاظ على استمرارية البقاء والحياة والمعجزة أيضا) من النص المقدس الذي يسير الراهبة ويملك عليها فكرها ووجدانها. فالسلطة اتُّخذت من النص الديني بدلالاته المباشرة والرمزية، وعملت على منح الراهبة “صك الغفران” كي تلتحم بالمقدس عبر الفعل/المعجزة، بعدما كان اتصالها به يتم عن طريق الكلام/الخطاب وطقوسه. والرجل، وإن استعمل النص في مجال الخداع وكان يهدف إلى امتلاك جسد الأنثى، إلا أنه كان يسعى إلى إضفاء “القداسة” على الممارسة الجنسية ليأخذ الشرعية ويحظى بالقبول من الطرف الآخر. وهكذا يصبح امتلاك جسد المرأة واستهلاكه يتم تحت بصر “النص” وبتصريح منه. وهكذا كانت استجابة المرأة/الراهبة لرغبة الرجل وإذعانها خاضعين للدليل والبرهان الذي أقامه على”علويته”/اتصاله بالخفي والمقدس وعبر أشياء دنيوية اتخذت هي الأخرى لبوس الماورائي(الفواكه).
وإذا كان الرجل سعى عبر الحيلة إلى ممارسة فحولته وقوته؛ ألم يكن هذا الفعل المتخفي وراء قناع “القداسة”، سعيٌ إلى تحرير المرأة من الطقوسي: نصوص الزهد والرهبنة وتكبيل الجسد؟ ومن ثم العودة بها إلى معبد الفطرة؟ أي الخروج بها من “النص المقيِّد” إلى نص آخر أصلي يلح على حرية الجسد وضرورة الحفاظ على الاستمرارية والتكاثر؟
إن فكرتي “الخروج” و “الخلاص/الفداء” بنيتان خفيتان تشتغلان داخل الحكاية وتشكلان أبعادها الدلالية والرمزية. فالخلاص ارتبط بجسد الرجل/المخلص الذي يهب المرأة أداة التحرر من الفوقي والالتصاق بالطبيعي. فإذا كانت الرهبنة المسيحية الكنسية المبنية على تصورات دينية دخيلة على الديانة السماوية تدس في الجسد أوهاما كثيرة وتجعلها حقائق ثابتة لا جدال فيها، فإن الرجل يشغل نفس منطق المقدس/النص ليزعزع مزاعم الإيديولوجية الكنسية. إنه يرفض قمع الحيوي الطبيعي من خلال هيمنة الثقافي. هكذا يصبح الجسد مجالا لرفض النظام الداعي إلى المتعالي، وأفقا لإنتاج نظام آخر يعترف بالأرضي عن طريق بنية “المقدس” ذاته. إن الرجل من خلال تقمصه خطاب”المقدس” سعى إلى تكسير خط المتعالي عبر الفعل، وعن طريق إنتاج خطاب بديل يتخفّى وراء آليات الخطاب الأول وميكانيزماته. إن التوحّد بين المادي والمتعالي في الجسد يصبّ في غاية أساس: إنتاج رموز ودلالات بديلة تقوم على الحرية وممارسة الفعل دون قيد أو شرط.