أُنطولوجيا الجسد (32) : مفهوم الجسد عند هايدغر 6

 

اللغة وسيلة اتصال، وهي في علاقة أساسية بالجسد، عن طريقها يقول ويفهم العالم الذي قُذف فيه. «المَقْذُوف هنا» (être-jeté-là) هو اسم من أسماء الدازاين، ما يعني أن الجسد جاء ليكتشف العالم، وهو ينتمي إلى وحدة تواصلية تحددها اللغة[40] التي تعبر عن علاقة الكينونة بالكائنات. واللغة الفكرية أي التفكير المعبر عنه بالكلام هو الذي يجعل الإنسان يفهم العالم الذي قذف فيه غريبا، فآلفه وانفتح له حتى صار جزءاً منه. في «رسالة في المذهب الإنساني» (Lettre sur l’humanisme) يفسر هايدغر كيف يقف الإنسان في ضوء الكينونة والانفتاح (l’ouvert)[41]، لأن «اللغة التي تعتبر نتاج الانفتاح المستنير تندمج بعملية الانفتاح في الآن نفسه»[42] من أجل نور المعرفة. ثم يعمم اللغة إلى كل الكيان قائلا أنها تمرّ عبر الأعضاء الحسية سواء كانت لغة الكلام تعبر باللسان أو لغة الحركات ولغة العيون ولغة الجسم[43].
ثم يطّلع هايدغر إلى مفهوم الشفافية ويحاول تجاوزه بإضفاء أبعاد أخرى على الجسد بالنظر إليه كمادة حية لها وظائف وصفات أساسية تتميز بالحجم والامتداد. ما جعل «جان لوك نانسي[44]» (Jean Luc Nancy) يقول أن «الجسد غير قابل للتدقيق ولا قابل للتعريف أو التحديد، إنه فريد المعنى يختبر قدراته في لعبة التفوق والامتداد». لذلك عمل الفينومينولوجيون على التمييز بين جسم الإنسان أي الجسد الذاتي (corps propre) والجسم الممتد المادي أي البدن ويسمى (Korper) بالألمانية و(corps) بالفرنسية. فيقول هايدغر: «إن الجسد محدد بما (الشيء الذي) يحدده لكونه امتداد»[45].
« Le corps est déterminé par cela qui le détermine en tant qu’il est étendu »
« Der Ort Kِrpers ist durch das bestimmt،was er als ausgedebnter umgrez»
للملاحظة، نجد بعض الفوارق بين النص الألماني والترجمة الفرنسية إذ تؤدي عبارة (sich debnen) بالألمانية معنى «يمتد» (s’étirer) وتؤدي (debnbar) معنى «ممكن الامتداد» أي مطاطي. توحي هذه العبارة الألمانية الأخيرة «بعامل تنشيطي» لا يمكن الحصول عليه بالفهم الفرنسي. هذا العامل التنشيطي هو الذي يمثل الجسد وليس فقط الامتداد الساكن، أي أن الغلاف الجسدي يزيد انبساطا ليملأ الفضاء بتجاوز حدوده المرئية على شكل حركية مستمرة يمتد حينها الجسد إلى حد معين. هذه الفاعلية بالذات تمثل علامة الحيوية التي تسكن الجسد أو تحتله.
في ما يخص المفاهيم، يستعمل هايدغر بالألمانية عبارتين متميزتين للحديث عن الجسد: «Kِrper» (البدن) و«Leib» (الجسد) وتترجم كلتاهما إلى الفرنسية بـكلمة «corps». لهذا التمييز أهمية كبرى عنده، لأنه يقوم بمحاولة إعادة تعريف الجسد على أساس أصول لغوية، فيقدم مجموع الملامح اللفظية له. «Kِrper» من أصل لاتيني «corpus» يعني «الجسم المادي» باحتلاله الفضاء بأبعاده الثلاثة، أما عبارة «Leib» (الجسد) فهي أكثر تجريد مبدئيا وتشمل الحيوية والحركية المرئية، ـ وإن كانت العبارتان تترادفان ـ. أما تأريخياً فإن «Leib» نتيجة تطور كلمة «liba» من الألمانية القديمة التي كانت تحمل المعنى نفسه، وقد أعطت إلى الإنجليزية كلمة «life» بفعلها «to live»، والإثنان يوافقان الكلمة الألمانية «Das Leben» والفعل الألماني «leben». لكلمة «Leib» إذن معنى يربطها مباشرة بالحياة، منها استمدت عبارة «sein Leib leben» التي تكون ترجمتها «الحياة» أو «أن يعيش المرء حياته». بينما يعني «Kِrper» البدن أو الجسم الذي يملأ فضاءً معيّناً بكل الأعضاء التي تتكون منها ماديته. نستنتج من هذين المعنيين أن الحياة ليست مجرد وجود مادي، إنها أكثر من ذلك بكثير ويصعب وضع تعريفٍ يحتوي على ملامح تعريفية تضم هذا الجانب الملموس أو تتجاوزه. إن الحياة التي تحرك الجسد تحتوي على معطيات من الحياة الحيوانية البحتة والحياة النفسية في الوقت نفسه، كل هذا في عبارة واحدة تعني الجسد. عموما يختلف معنى «الجسد» من الألمانية إلى الفرنسية أو الإنجليزية، فلعبارة «body» الإنجليزية مثلا علاقة بالكلمة الألمانية القديمة «botab» التي تختلف هي الأخرى لفظاً عن «liba» من الأصل نفسه وعن «corpus» اللاتنية. ولا يمكن تعويض كلمة (Leib بكلمة Kِrper) لأن معنى Leiben ليس الوجود في مكان ما بل هو القدرة على احتلال المكان بينما يتجه Kِrper نحو معنى الإمتداد في المكان الذي يحتله[46].


الكاتب : ويزة غالاز

  

بتاريخ : 18/08/2021