سوسيولوجيا الجسد (1)
يعد الجسد من الموضوعات الرئيسة في علم الاجتماع التي غيبت مدّة زمنيةً طويلة، فقد غاب عن علم الاجتماع الكلاسيكي، بمعنى أن هذا الفرع المعرفي نادرًا ما ركز بطريقة ثابتة على الجسد بوصفه مجالًا مستقلًا للبحث، وقد تنامى الاهتمام الأكاديمي السوسيولوجي بالجسد في السنوات الأخيرة، إذ برز علم اجتماع الجسد بوصفه مجالًا متميزًا للدراسة، وفي ضوء هذا استحدث “براين ترمز” مصطلح “المجتمع الجسدي” ليصف كيف أن الجسد في الأنظمة الاجتماعية الحديثة قد أصبح المجال الرئيس للنشاط السياسي والاجتماعي .
جاء الكتاب بمقدمة
وستة فصول
تضمن الفصل الأول المراحل التي بحثتها العلوم الاجتماعية في مقاربتها للجسد، وتضمن الفصل الثاني الالتباس الحاصل لمفهوم الجسد في العلوم الأخرى «التاريخية، الأنثربولوجية، السيكولوجية.. «، أما الفصل الثالث، فقد تضمن المنهجية التحليلية المتبعة في السوسيولوجيا في بحثها عن الجسد. وناقش الفصل الرابع الدراسات المختلفة التي أجرتها العلوم الاجتماعية في ميدان الجسد «تقنيات الجسد، النشاط الإدراكي، الحركات، قواعد التصنيف، التعبير عن المشاعر، تقنيات المقابلة، الرسم على الجلد.. «، أما الفصل الخامس فقد ناقش المتخيلات الاجتماعية للجسد: «نظريات الجسد، المقاربات البيولوجية، التأويل الاجتماعي والثقافي للاختلاف الجنسي، القيم الفارقة المؤثرة في الجسدية، خيال التمييز العنصري، الجسد المعوق. وأخيرًا الفصل السادس، الذي تضمن الجسد في مرآة الاجتماعي «من تصرفات وعلاقات داخل المجتمع المعاصر، اللعب على المظاهر، التحكم السياسي بالجسدية، الشرائح الاجتماعية وعلاقتها بالجسد، العلاقات بالحداثة، استعمال القدرات البدنية، وأخيرًا تأمل حول وضعية الجسد».
الفصل الأول: الجسد والسوسيولوجيا؛ المراحل
صنف الكاتب الدراسات التي برزت مع بروز العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر في ثلاث طرائق لدراسة موضوع الجسد من منظور السوسيولوجيا:
1 – السوسيولوجيا الضمنية
التي ركزت على الحالة الجسدية للإنسان، من خلال دراسة الفقر الجسدي القابل للمرض، الإدمان على الكحول، ممارسة الدعارة، عمالة الأطفال …إلخ. وقد وجد الكاتب دراسة كل من (فيلليرمي) حول «جدول الحالة البدنية والمعنوية للعمال في مشاغل القطن والصوف والحرير 1840»، ودراسة (بوري) في حق الطبقات الكادحة في إنكلترا 1840، وكذلك دراسة (أنجلز) «وضعية الطبقة الكادحة في إنكلترا 1845» وفي «رأس المال» لكارل ماركس إذ أعطى تحليلًا كلاسيكيًا للحالة الجسدية للإنسان في عمله.
وقد ركزت هذه الدراسات على تعرية الحالة المزرية للطبقات الكادحة في سياق الثورة الرأسمالية، وفي الوقت نفسه المطالبة بإصلاحات ثورية، ومن ثم يمكن القول إن الجسد أصبح ضمنيًا فعلًا ثقافيًا في هذه الدراسات، أي إن الجسد منتوج للوضعية الاجتماعية للإنسان. ولكن الباحثين في هذه الموضوعات ركزوا على السوسيولوجيا الاقتصادية والسياسية في هذه الدراسات وغُض النظر عن سوسيولوجيا الجسد المتضمنة فيها، وبخاصة كتابات كارل ماركس.
أما بالنسبة إلى إميل دوركهايم، فإن البعد الجسدي الإنساني رهين العضوانية، حتى لو كانت متأثرة بأوضاع الحياة، أي إن الجسد بقي موضوعًا ضمنيًا في أعماله. أما ماكس فيبر فلم يهتم كثيرًا بالجسد .
بالمقابل حقق فرويد (نظرية التحليل النفسي) قطيعة إبستمولوجية، أخرجت الجسدية الإنسانية من لغة الوضعيين في القرن التاسع عشر «بوصفها مادة منمذجة ومجسدة إلى حد ما للعلاقات الاجتماعية»، وأدخل الجانب العلائقي في ظل الجسدانية، إذ جعل منها بنية رمزية، لم تكن متبعة لدى السوسيولوجيين الذين كانوا مدهوشين بالتمثل العضواني للجسد.
2 -السوسيولوجيا المتقطعة
استعرض الكاتب أهم الإسهامات السوسيولوجية للجسد، بدءًا من أعمال (ج. زيميل) من «الحواسية وتبادلات النظر سنة 1908» ومن ثم معالجة (روبرت هرتز) مسألة رفع اليد اليمنى «داخل المجتمعات الإنسانية» إذ كتب قائلًا “ليس هناك اعتراض على أن اليد اليسرى يمكن أن تتلقى تربية فنية وتقنية مثل نظيرتها اليمنى التي تحظى لحد الآن بالامتياز». أي يمكن الاستنتاج أن العوامل الفيزيولوجية ما هي إلا ثانوية مقارنة بالعوامل الثقافية التي كونتها التمثلات السلبية الدائمة أمام اليد اليسرى والإيجابية أمام اليد اليمنى، فالإيماءات الجسدية ما هي إلا رموز اجتماعية وثقافية متعارف عليها في مجتمع محدد بذاته».
وفي السياق نفسه جاءت دراسة (مارسيل موس) حول «التعبير القسري للمشاعر» عام 1921 وتقنيات الجسد.
أما اهتمام مدرسة شيكاغو فقد كان حذرًا في الجسدية، إذ لم تعالج الدراسات الميدانية معظمها العلاقة الفيزيقية للفاعلين بالعالم بقدر ما أعطت إشارات.
ولم يتطرق (ج. ه. ميد) إلى الجسد إلا سطحيًا في كتابه (mind. Self and socie) 1934. إذ عالج طقوس التفاعل عند البشر، خصوصًا البعد الرمزي للوضعية الإنسانية.
أما أول محاولة كلاسيكية للسوسيولوجيا التاريخية فكانت في كتاب «حضارة الأخلاق» عام 1939 للكاتب (نوبرت الياس) في ألمانيا، إذ أشار إلى جنيالوجيا المظاهر الخارجية للجسد، مذكرًا بالخصائص الاجتماعية والثقافية لعدد من الممارسات والمسارات الأكثر اعتيادية وحميمية للحياة اليومية.
وفي عام 1941 أصدر (دافيد أفرون) بحث «الحركية، الجنس، والثقافة»، إذ بحث الايماءات الجسدية في أثناء التفاعل. وهناك الدراسات الأنثربولوجية (مالينوفسكي، مارغريت ميد، ليفي شتراوس … إلخ) التي وصفت الطقوس والمتخيلات الاجتماعية في الاهتمام بالجسدية.