الجسد علة تأسيسية: ما يصيره الجسد داخل الوجود البيجسدانيinter-corporel
علينا الآن أن نختبر هذه الإمكانية التي نصوغها انطلاقا من الفكرة التالية:
الجسد هو العالم!
إذا اعتبرنا أن الجسد هو العالم، فإن معنى ذلك أنه الشيء الذي يقتطع من الوجود الكلي حيزه الخاص الذي تنتظم داخله تمثلاته حول الوجود، وتختبر على أساسه أفعاله وتصرفاته، بمعنى أنه يجعل من تناهيه الخاص خاصية العالم قيد التشكل، ومن ثمة لا يغدو العالم إلا نتيجة لوجوده الفعلي، وليس معطى قبليا، ليس العالم من هذا المنظور سابقا على الجسد، ولكنه من جهة أخرى يغدو معطى قبليا، بل سابقا للجسد كغير، وللوجود من أجل الغير، ومن هنا يمكن وصفه بأنه السابق البعدي في آن معا كما سيتضح لاحقا. فالعالم إذن مفعول الجسد، فخارج الجسد الإنساني ليس هناك سوى الوجود الكلي، أو الوجود دون عالم، وهذه التفرقة بين الوجود والعالم تمكننا من فهم الجسد الإنساني، باعتباره علة تأسيسية لظهور العالم، وفي نفس الآن تجعلنا نفهم أن ما نسميه عالما ليس سوى الوجود البيجسداني الذي يكشف حقيقة الكائن الإنساني صانع العالم. فالعالم ينبثق عن تجربة الوجود البيجسداني كغيرية أي كنواة للعلاقة الغيرية بين «أنا الجسد» وآخر الجسد، وما ينبثق عنهما من سلسلة أجساد تشكل المجتمع الإنساني بوصفه وجودا بيجسدانيا تتقاسم فيه الأجساد حياتها داخل الفضاء المشترك لعالمها الخاص.
إن الطبيعة صنيعة الوجود، أما العالم فهو صنيعة الجسد الإنساني، وليست المسألة متعلقة بالضرورة والحرية فقط، ولكنها تتعلق أيضا بصيرورة الجسد الإنساني، بما يصيره حقا في الوجود، وهي مسألة لا تتعلق فقط بانكشاف وعي الجسد الإنساني بذاته أي بالتفكير، بل تتعلق أيضا بقدرته، أي بكونه جسدا يقدر، جسدا من أجل ذاته ومن أجل الآخر.
وإذا كان العالم مؤسسا في الجسد، فليس معنى ذلك أن الجسد يمكن أن يعيش تجربته في الوجود ككائن خاص بدون عالم، فبدون العالم لا يغدو الجسد إلا كائنا غفلا شأنه شأن بقية الكائنات الطبيعية التي منحت الوجود، ولكنها تعيش في الطبيعة خارج العالم أي خارج نظام الرغبة الذي يجعل للعلاقة بالطبيعة قيمة لابتكار الحاضر، بما هو ابتكار العالم.
إن حاجة الجسد للعالم الذي انبثق عنه مسألة حتمية لانبثاق الجسد كإنسانية، أي كصقل لممارسة التجربة الجسدية داخل الوجود البيجسداني الذي يعد عالما، وبدون هذا العالم لن يقدر الجسد على الغيرية، وبمعنى أكثر دقة العالم فهو حقل الجسد كعلة تأسيسية أي كحدثية توقع انفصالها عن المجرى الوجودي لتجعل مشروعها الراهن ينطلق على أساس مجرى العالم الذي تشكله، والذي يتقدر مصيره بناء على العلاقة البيجسدانية، ومن ثمة يغدو العالم حيزا للتحولات الجذرية التي تمس الإنسان نفسه، والتي تخلق مجراها الخاص باعتباره احتمالات حدوث لامتناهية، فقد غدا عالم اللامتناهي الذي يتشكل من تناهيات الوجود البيجسداني، والذي يعمق تورط الكائن الجسدي داخل برانية الغيرية، فتنقل حركته ككائن منطو على ذاته نحو الآخر الذي يعرض في الخارج، ففي العالم يغدو الكائن المتناهي المنفصل حياة، أي ينتظم داخل سياقات العالم الذي يتشكل من صلبه، لكن هذا لا يحول دون أن يغدو هذا الكائن نفسه ضحية مكر العالم، حين يفصل سياق ثقافة العالم الكائن عما يستطيعه، أي حين يصر العالم نفسه علة للتنميط الذي يستهدف قدرة الجسد على ابتكار وجوده الخاص، فيضحى كائنا معلولا ورقما حسابيا في معادلة العالم الصائر، وأداة بل مجرد وسيلة لقوى خفية وظاهرة تتصارع من أجل تملك الوجود البيجسداني، ولا يعني هذا بتاتا أن العالم يصير بطريقة مباشرة مفعولا للجسد، فحتى وهو ينبثق داخل الجسد، إلا أنه يصير داخل العلاقة فاعلية مبنية للمجهول، بما هو فضاء لتجاذب القوى ولإرادة السلطة، ومن ثمة فالعالم يمتلك إمكانية الانفلات التي تورط الكائن الجسدي في وضع الاغتراب والتشييئ والتبعية، أو التي تلقى به من جديد في بوابة المجهول، وبالتالي يغدو العالم دافعية للجسد الإنساني من أجل خوض مغامرة المستقبل.
العالم ليس محايدا بالنسبة للجسد، بخلاف الوجود، فالوجود بالنسبة للجسد هو الكلية التي تسمح بالمنح لكنها بالمقابل كلية لامبالية، ليس لها من هدف سوى الصيرورة ذاتها، التغيير الدائم الذي تجدد من خلاله ديمومة الوجود نفسها، وبالتالي فليس الجسد الإنساني غايتها الأخيرة، بما أن عطائه ناتج عن احتمالات الحدوث، وبالتالي فالكلية المانحة لا تبالي بمصير الموجود داخل الوجود، ولا حتى خارجه، أما العالم بوصفه بعدا رابعا للجسد فليس محايدا، وإنما نظاما للجسد الإنساني، تتأسس فيه زمانيته وغاياته، ومشروعه التاريخي.
لقد حدد سارتر ثلاثة أبعاد فقط للجسد، وهي كوني أوجد جسدا، وهو البعد الأول، أما البعد الثاني فهو كون جسدي معروفا من قبل الغير، لكن بقدر ما أوجد من أجل الغير، فالغير ينكشف لي كذات أكون بالنسبة لها موضوعا، فالبعد الثالث يتعلق إذن بعلاقتي الجوهرية مع الغير، إذن فأنا أوجد من أجل أناي كمعلوم من قبل الغير، خاصة فيما يتعلق بوقائعيتي ذاتها، وأنا أوجد من أجل أنا معترف به من طرف الغير بالجسد.
فمع ظهور رؤية الغير، امتلك انكشاف كينونتي-الموضوع être objet monيعني انكشاف تعالي أناي بوصفي متعاليا transcendée ينكشف لي الأنا-الموضوع ككائن تتعذر معرفته، كهروب في الغير الذي أكونه بكامل المسؤولية، لكن إذا كنت غير قادر على معرفة أو إدراك هذا الأنا في واقعيته، فعلى الأقل فلن أكون مجردا عن حيازة جزء من بنيته الصورية، خاصة وأني أحس بأنني مدرك بواسطة الغير في وجودي الواقعي، وجودي هناك هو من أجل الغير الذي أكون مسؤولا عنه، وهذا الكائن هناك هو بالتحديد جسدي، فاللقاء بالغير لا يدركني فقط في تعالي ذاتي : فداخل وبواسطة التعالي الذي يتجاوزه الغير، توجد الوقائعية facticité التي يعدمها تعالي ذاتي ويعليها من أجل الغير، وبقدر ما أكون واعيا من أجل الغير، فإني أحوز واقعيتي الخاصة ليس فقط داخل تعديمها non thétique اللانظري، وليس فقط بموجوديتها، ولكن داخل هروبها نحو كائن وسط العالم .
وإذا كانت خاصية الجسد تتمثل في كونه معروفا من قبل الغير، فما يعرفه الجسد عن نفسه ينبع من طريقة رؤية الآخرين له، فإن طبيعة الجسد الخاص تحيل إلى وجود الغير وإلى الكينونة من أجل الغير، فالجسد يكتشف مع جسد الغير نمطا آخر للوجود هو غير الكينونة من أجل الذات إنما هي الكينونة من أجل الغير، وبالتالي فإن إدراكي الجسدي يتموقع زمنيا بعد إدراك جسد الغير، فالجسد هو الأداة التي يكونها، فهو تصنع كينونتي وسط العالم بالقدر الذي أتجاوزها نحو كينونتي-داخل-العالم .
وإذا كانت الكينونة هي الوجود-داخل- العالم كما يقول هيدغر، فإن سارتر يفهم»الكينونة -داخل»- être-dans بمعنى الحركة، فالكينونة هي سطوع داخل العالم، إنها انفجار الوعي داخل العالم، وهذه الضرورة بالنسبة للوعي لكي يوجد كوعي بشيء آخر يسميها هوسرل بالقصدية، أي أن الوعي هو وعي بشيء ما . لقد وقف سارتر على البعد الثالث للجسد حيث أن علاقة الجسد بالغير تتموقع وسط العالم وداخله، ولكننا هنا لا نجعل من العالم مجرد تموقع للكينونة داخل الوجود وإنما نجعل منه بعدا رابعا للجسد، بحيث يغدو الجسد والعالم متمادين، فالجسد هو بدوره امتداد للعالم، باعتبار العالم شرطا للغيرية، حيث يتقدم العالم الجسد كغير، وكنتاج للعلاقة البيجسدانية التي هي ماهية هذا العالم، فدون جسد ليس هناك عالم إنما وجود محايد ودون العالم لن يغدو الجسد آخر، ولن ينبثق كوعي من أجل الذات، ولا كينونة من أجل الغير وإنما سيظل كموجود غفل، مجرد امتداد للوجود المحايد ومن تم فالجسد علة العالم وأساس وجوده، أمام العالم فهو علة غيرية الجسد، ومن تم فالعالم هو الجسد الذي تتحقق فيه الجسدانية كوجود غيري بما هي علاقة انفتاح بين الجسد الخاص وجسد الآخر من جهة، وبين الجسد كخاص وكغير وبين العالم من جهة أخرى.
فالعالم كبعد رابع للجسد هو الواقعة الإنسانية ذاتها وبالتالي فهو حقل تحولات الجسد التي يتحدد فيه مصيره الكوني ومشروعه المستقبلي، فعن العالم ينبثق عصر بل روح تاريخية الجسد، وتعولمه الذي يطبع تاريخ العالم نفسه، ومن تم فما نسميه عولمة في العصر الراهن ليس إلا تعولما اكتمل مفهوميا فاتخذ طابعا شموليا تغدو فيه التقنية أساسا للعلاقة البيجسدانية التي تهدمت فيها الحدود واستحضرت الجسد إلى قلب العالم، لكنها مع ذلك ومع هذه الثورة الهائلة التي أحدثتها في الحقل المعلوماتي والتقني فإنها مارست تنميطا آخر، يستهدف الإلقاء بالجسد في خضم التشابه التشميلي، بل أنها تكاد تفرغه من روحه أي رغبته المتماهية بجسده ليغدو مجرد رقم كوني داخل معادلات العولمة، ذلك لأن تقنية التعولم قد استبدلت الجسد الخاص أو الوجود الفعلي للجسد بالجسد الأيقونة، فجعلت من هذا الأخير أصلا لتوليد التطابق وتكريس التماثل، ومن تم غدا الوجود البيجسداني باهتا وراء هذا النموذج.
وهذا ما يطرح من جديد تبعية الجسد الخاص وخضوعه لتقنية التعولم الجارفة وتواليه أي انسحابه كعلة تأسيسية، لصالح تقنية تحول الجسد الحقيقي إلى كيان استهلاكي، إلى جسد يستهلك من أجل الاستهلاك، جسد غذت رغبته محصورة داخل ما يمتلكه ويتخلص منه بأقصى سرعة ممكنة. بمعنى أن هذا التعولم بما هو تسريع جعل الرغبات جسدية وسيلة لتسارع الإنتاج الاستهلاكي، مما أخضعها لمنطق الاستمتاع الوهمي الذي يرضي الإشباع، ولكنه لا يخلق متعة الاحتفاء بالوجود، وهو ما يؤدي بها إلى العجز وانعدام القدرة على نشدان الأصيل وابتكار الحاضر، مما يقودها بالتالي إلى حالة الحزن، أو العنف، والتوتر الحاد. فهذا العالم الذي لا تستطيع الانفصال عنه بقوة تسارع ينهك جهدها ويستهلك طاقتها، ويوقعها في شرك عدمية جديدة هي مظهر من مظاهر انتفاء زمنية الجسد الإنساني.
ليس الأمر رغم ذلك مصيرا حتميا نهائيا للجسد الإنساني، ولكنه لحظة اغتراب من شأنها أن تولد سبلا جديدة لعودة الجسد إلى الإنسان، وإمكانات أخرى للتخلص من مأزق الوجود المعولم. ذلك لأن ماهية الجسد أن يسأم، ويشكل هذا السأم الذي يتخذ طابعا وجوديا دافعا رئيسيا للبحث عن إمكانيات أخرى تنتج عنها تحولات داخل العالم الذي يعيشه، لأن رهانه الأنطولوجي من أجل أن يغدو علة تأسيسية يستند إلى الحاجة إلى الاقتدار. أليست ثورة الشباب التي انطلقت من تونس وعم تاتيرها العالم بداية لتشكل مغاير لوجودنا المشترك؟