إبراهيم الحجري باحثا في النقد التشكيلي: «المفهومية في الفن التشكيلي العربي .. تجارب ورؤى» نموذجا (*)

تعددت الأجناس الإبداعية والحقول البحثية التي ترك الدكتور إبراهيم الحجري (1972/ 2021) بصماته المتميزة، مغربيا وعربيا، في رحاب كل واحد منها، مغنيا بذلك المكتبة الممتطية صهوة لغة الضاد بمقالات ومؤلفات عنوانها تنوع مجالات العطاء الإبداعي والنقدي والفكري للراحل. كتب الإبداع الأدبي شعرا ورواية وقصة؛ وأنجز الدراسات الأدبية حول الرواية والقصيدة والقصة وأدب الرحلة؛ ولامس في بحوثه الأدب المكتبي؛ مثلما كان عالي الكعب في حقل البحث النقدي التشكيلي.
إن اختلاف الأبواب الإبداعية والبحثية التي طرقها الحجري تجعل منه، بمعنى من المعاني، تجسيدا، سيظل نابضا بالحياة، للإنسان الذي «يحمل في دواخله إلى أعلى درجة مفارقة الواحد والمتعدد. (…) وحدتُه تُنتِج ثنائية تنسج تعددا. (…) ذلك أن «الواحد» يسع في الواقع في ثناياه غيرية، وانشقاقات، وتنوعا وتضادات.» (إدغار موران: 2001، 85). ولم يكف الحجري مجرد طرق هذه الأبواب، بل حاز في جلها جوائز رفيعة، مغربيا وعربيا.
وفي مجال البحث النقدي التشكيلي الذي ينتمي إليه المؤلَّف الذي نحن بصدد إلقاء الضوء عليه: «المفهومية في الفن التشكيلي العربي: تجارب ورؤى»، فإن هذا البحث خوله احتلال المرتبة الأولى ضمن جائزة الشارقة للحقل المعني في دورتها الرابعة (2011). ويبدو أن تنظيم هذه الجائزة العربية الرفيعة والفريدة في تخصصها، شكل أحد الحوافز التي دفعت إبراهيم الحجري، ومعه باحثون مغاربة كثر آخرون، إلى الانخراط في مغامرة البحث النقدي التشكيلي الذي يعتبر حقلا حديث العهد في الثقافة العربية عموما والثقافة المغربية على وجه الخصوص.

هيمنة مغربية على جائزة الشارقة

انطلقت جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي، التي تمنحها دائرة الثقافة في حكومة الشارقة بالإضافة إلى ست جوائز ثقافية أخرى، سنة 2008، وهي «ترمي إلى تحفيز البحث النقدي التخصصي في حقول الفنون التشكيلية والبصرية، وإبراز دور المبدعين، ومتابعة الاتجاهات الفنية وتوثيقها، كما ترمي لإيجاد لغة مشتركة بين النقاد من جهة، وبينهم وبين القارئ المهتم من جهة أخرى، والتأسيس لإنتاج الثقافة الفنية والبصرية وتسجيلها»، وفق تعريف الجهة المنظمة للجائزة. وكل دورة، يقترح لها المنظمون موضوعا بعينه، داعين الكتاب والنقاد والمهتمين لإعداد بحث حوله قصد المشاركة في المسابقة النقدية، وتخضع البحوث المشاركة لآلية للتحكيم تعلن عن منح ثلاثة جوائز (الأولى والثانية والثالثة).
ويحضر الباحثون والنقاد التشكيليون المغاربة بقوة ضمن الأسماء الفائزة بالجائزة التي وصلت إلى دورتها الخامسة عشرة التي أعلن عن نتائجها في دجنبر 2024، إذ لم تغب الأسماء المغربية عن التتويج إلا خلال دورتين اثنتين ( الأولى/ 2008 والخامسة/ 2012، علما أن لجنة تحكيم هذه الأخيرة نوهت ببحثي المغربيين سعيد بوكرامي وشفيق الزكاري وأوصت بطبعهما).
هذا الحضور القوي يعكسه فوز الباحثين والنقاد التشكيليين المغاربة بحصة الأسد من الجوائز الـ 44 التي وزعت في إطار الجائزة منذ انطلاقها وإلى حدود دورة 2024، بمجموع 20 جائزة (الأولى ثماني مرات، والثانية ست مرات وست مرات كذلك بالنسبة للثالثة). وللمقارنة، فتونس التي تلي المغرب في عدد الجوائز لم تحصل إلا على 9، بينما نصيب العراق الذي يحتل المرتبة الثالثة ست جوائز.
وأول مشارك مغربي حاز الجائزة هو إبراهيم الحيسن (الجائزة الثالثة ضمن الدورة الثانية)، بينما يعتبر إبراهيم الحجري أول باحث تشكيلي مغربي يحصد الجائزة الأولى، وذلك عن بحثه «المفهومية في الفن التشكيلي العربي: تجارب ورؤى» (الدورة الرابعة/ 2011، التي كان محورها «المفاهيمية في التشكيل العربي»). وبعدها، سيتوج مرتين إضافيتين: الجائزة الثالثة في الدورة الثامنة عن بحثه: «مستقبل الفنون الجديدة: العرب وفن الديجيتال»، والحادية عشرة عن «المصطلحات الفنية في الممارسة النقدية التشكيلية العربية (الخلفيات، الوظائف، الأبعاد)». والجدير بالانتباه أن جوائز هاتين الدورتين عادت برمتها لباحثين مغاربة (الأولى لفاطمة الزهراء الصغير والثانية لإبراهيم الحيسن في الدورة الثامنة، والأولى لعبد الله الشيخ والثالثة لعائشة عمور في الدورة الحادية عشرة)، وهو إنجاز لم يحققه أي بلد آخر.
وإذا كانت شروط المشاركة في كل دورة من دورات الجائزة تنص على عدم قبول مشاركة الفائزين في الدورتين السابقتين لها، فإن مشاركين اثنين، كلاهما مغربي، ينفردان برقم قياسي آخر ضمن دوراتها، يتمثل في تربعهما ثلاث مرات على إحدى رتبها الثلاثة، ويتعلق الأمر بكل من إبراهيم الحجري (الأولى في الدورة الرابعة، والثالثة في الدورة 8 والثانية في الدورة 11) ومحمد الزبيري (الثانية في الدورتين 4 و12 والثالثة في الدورة 9).

المفهومية، حركة فنية عالمية

بالإضافة إلى مقدمة، يتضمن «المفهومية في الفن التشكيلي العربي: تجارب ورؤى» ثلاثة فصول («مدخل نظري»، و»أدوات اشتغال الفن المفهومي» و»تجارب ورؤى»)، علاوة على خاتمة وملحق يضم ست عشرة صورة لأعمال ستة تشكيليين عرب تناول البحث منجزهم الفني المفهومي.
منذ المقدمة، يكشف الباحث لقرائه المفترضين صعوبة تناول التيار المفهومي بالبحث عربيا، ذلك أنه يعتبر جديدا نظرا لأن «المغامرات الفنية فيه شحيحة (…) على مستوى الإنتاج، أما من ناحية المرجعيات النقدية والمصدرية، فهي تكاد تكون منعدمة باللغة العربية، الشيء الذي يضطر معه الباحث إلى التعامل مع اللغات الأجنبية» (إبراهيم الحجري: 2012، 7). ورغم هذه الإشارة الأخيرة، يلاحظ القارئ أن المراجع المطبوعة المعتمدة في البحث تهيمن عليها المراجع المكتوبة أصلا باللغة العربية أو المترجمة إليها، حيث يصل عددها إلى اثنين وعشرين مرجعا، مقابل ستة مراجع باللغة الإنجليزية ومرجع واحد بالفرنسية. ونفس الملاحظة تنطبق على الروابط والمواقع الإلكترونية التي اعتمدها البحث، إذ يبلغ عددها بالعربية ستة وثلاثين وبالفرنسية أحد عشر.
في الفصل الأول (مدخل نظري)، يستعرض إبراهيم الحجري ثلاثة مداخل تضيء بحثه، وسم أولها بـ «الفن مشكلة فلسفية إنسانية»، معتبرا أن «المنجز الفني (ظل) (…) مادة ملغزة احتار فيها الفلاسفة والنقاد والمؤولون، الشيء الذي جعله، بامتياز، مشكلة فلسفية ذات طابع إنساني تتأبى على الحل» (نفسه: 16)؛ وتناول في ثانيها «التجريبية ومسوغاتها في الفن التشكيلي العربي»، متوقفا عند العوامل الذاتية والموضوعية التي حكمت تحول كثير من التجارب الفنية العربية إلى الانخراط في «النزعات التجريبية التي تدعو إلى تجريد العمل الفني من المباشرة والمحاكاة، والارتقاء به إلى مستوى التجريدية (…)، تبعا لما تمليه الخصوصيات الهوياتية» (نفسه: 22).
المبحث النظري الثالث في الفصل الأول للمؤلف يتمحور حول «المفهومية كحركة فنية عالمية»، أي «الفن المفاهيمي (الذي ظهر) أول الأمر في أمريكا وأوربا، وبعدها انتشر في باقي أنحاء العالم، والمقصود به حالة تحويل فكرة ما وجعلها ملموسة» (نفسه: 25). وقد ذكّر الباحث، في هذا الباب، بالمقومات التي يقوم عليها الفن المفهومي وأهم مراحل تخلقه وتطوره، هذا الفن «الذي أسسه مارسيل دوشان (والذي) عصف بالمنظور الكلاسيكي وقوض أسسه النظرية ومنطلقاته التصورية (…) ليؤسس منظوره الخاص والذي تتشيد جماليته على المعنى المقصود والمدلول المعبر عنه» (نفسه: 31/ 32).

أدوات اشتغال الفن التشكيلي المفاهيمي

يخصص الباحث الفصل الثاني من منجزه لـ «أدوات اشتغال الفن التشكيلي المفهومي»، منطلقا من فرضية مفادها أن «كل اتجاه فني يكتسح الساحة الفنية لا بد له من نحت مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة به، لكي يتميز عن الاتجاهات التي سبقته من جهة، ولكي يتأطر نقديا من خلال رواج هذه المفاهيم عبر الحراك الثقافي السائد. (…) ويستدعي الأمر، أحيانا، الاشتغال بنفس المفاهيم القديمة مع إضفاء ديباجات ورتوشات خاصة لا تمس الجوهر، بل تتعلق بعناصر شكلية أو مسميات مختلفة» (نفسه: 37).
مستعيرا مفاهيم ثابتة وأساسية من التيارات التشكيلية السابقة له تاريخيا ومن فنون غير الصباغة، مع تبيئتها ضمن منظوره، ومستحدثا أخرى متغيرة، يشتغل الفن المفهومي على أدوات يحددها الباحث في واحد وعشرين عنوانا، مع الإشارة إلى ورود «الأوب آرت»، الذي هو الفن البصري المعتمد على خداع البصر، مرتين ضمن اللائحة التي وضعها (المفهوم 12 و17).
ونظرا لأهمية أدوات الاشتغال هذه نظريا وإجرائيا، نسردها كاملة كما وردت في الصفحات من 39 إلى 58: 1: «الكولاج» أو الإلصاق والتلصيق؛ 2: «المفهوم» الذي هو «سواء كان علميا أو فلسفيا، فكرةٌ مجردة، محددة ومؤسسة بدقة: إنه نتاج ممارسة وعنصر نظرية» (أندري كونت- سبونفيل: 2013، 186)؛ 3: «المعنى» الذي يقود الحديث عنه، بالضرورة، إلى الحديث عن الرسالة الفنية التي تروم خلق تفاعل أو تواصل حول فكرة أو محور فكري معينين» (إبراهيم الحجري: 2012، 41/ 42)؛ 4: «الإرساء» (Installation)، المصطلح الذي يفضل البعض تعريبه بالإنشاء أو المنشأة أو التنصيب أو التركيب، مع الإشارة إلى أن المفردة الأخيرة تعني كذلك في اللغة التشكيلية: Assemblage؛ 5: «السيمولاكر» ، أي المظهر الخداع بالمعنى الفلسفي وفق المنظمة العربية للترجمة (هيثم الناهي، هبه شرّي وحياة حسنين: بدون تاريخ، 517)؛ 6: «الفوتوشوب»، وهو برنامج معلوماتي لمعالجة الصور وتعديلها وإنشاء رسومات؛ 7: «المسخ»، والكلمة ترجمة للمصطلح الألماني Verunreinigen (نفسه: 566)، المفهوم المستعار من الفلسفة الذي يعني تشكيليا اشتغال «الفنان التشكيلي الحداثي وما بعد الحداثي على مواد بصرية جاهزة فوتوغرافية أو طبيعية، لكنه يحور طبيعتها ويمنحها هوية جديدة» (إبراهيم الحجري: 2012، 44)؛ 8: «الفنان المتعدد» الذي «يعرف النحت والرسم والصباغة والكولاج ويتابع بنهم المستجدات، ويستفيد من تكنولوجيا الاتصال والإعلام ويشتغل بالإنترنيت والحاسوب» (نفسه: 45)؛ 9: «الذكاء الفني» الذي يتطلب من الفنان «تشغيل الفكر والعقل عوض الإبداعية والتمرس في التصوير والرسم والخلق، حيث أصبح (…) مطالبا بتشغيل العقل بدل الخيال لإنتاج أفكار ومعان وصياغة رسالة يوجهها للمتلقي» (نفسه: 45)؛ 10: «الفنان التقني» المفروض عليه الإلمام بمجموعة من تقنيات الوسائط البصرية والتكوين في بعض المجالات المتعلقة بالدلالة والرمز والمعنى؛ 11: «اللون» الذي لم يعد «مجرد أداة تيسر عمل الفنان وتساعده على رسم ما يجول في خاطره، بل أضحى لغة تواصلية، (…) تحتفي بالمعنى والتركيب وتشتغل في إطار نسق تفاعلي بين الفنان والمتلقي» (نفسه: 46)؛ 12 و17: «الأوب آرت» (Op art) أو الفن البصري، حيث «تحتل الأعمال ذات الحركة الكامنة أو الظاهرة مكانها بين الساكن والمتحرك، وكان الهدف الرئيسي للفنانين البصريين إحداث شعور بحركة وهمية قصرا بفعل تأثيرات بصرية» (صلاح الدين أبو عياش: 2015، 480)؛ 13: «السيميولوجيا البصرية»، وهي «اتجاه، ضمن السيميولوجيا العامة، يهتم بدلالات الصورة ومعانيها ورموزها، وكيف تستطيع إبلاغ رسالتها من خلال خاصيتها الأبرز وهي المماثلة بين الدال والمدلول» (إبراهيم الحجري: 2012، 47/ 48)؛ 14: «فن التصميم» الذي هو «التخطيط الذي يرسي الأساس لصنع كل كائن أو نظام، (…) وعلى نحو أوسع يعني الفنون التطبيقية والهندسة» (صلاح الدين أبو عياش: 2015، 344)؛ 15: «الباهاوس»، ويعني «هذا التوجه بالحرف (بيت البناء). (…) (وخلفيته) خلق التلاؤم الجمالي الممكن بين المعمار والفن التشكيلي» (إبراهيم الحجري: 2012، 50)؛ 16: «فن الجسد»، وهو التيار الذي اشتق «مفاهيمه من التوجه المفهومي في الفن مع الحرص على اعتماد الجسد كمادة للتشكيل الفني والجمالي» (نفسه: 51)؛ 18: «البوب آرت» أو الفن الشعبي الذي يقوم «على توظيف الأشياء الهامشية والجماهيرية والمستعملة في الحياة اليومية على نحو طقوسي واسع، من أجل التعبير عن أسئلة الذات والآخر وهموم الإنسان بصفة عامة» (نفسه: 55)؛ 19: «المينمال- آرت» الذي يشتهر باسم «فن الحد الأدنى»، وهو «اتجاه تعبيري في التصوير والنحت (…). (سعى أهله) إلى الاقتصاد ما أمكن فيما يخص الوسائط والعناصر التعبيرية (نفسه: 57)؛ 20: «الواقعية الجديدة» التي تدعو إلى الانفصالية «عن التاريخ والواقع الظاهري والقيم الجمالية التقليدية بحثا عن واقع جديد يقدمه الفنان مرتدا إلى نوازعه الشخصية، ساعيا إلى التخلص من كل عائق والتزام (…). إنها واقعية الإنسان المبدع، وليست واقعية الأشياء بذاتها (صلاح الدين أبو عياش: 2015، 1340/ 1341)؛ 21: «كوبرا»، الحركة الفنية التي كان فنانوها «يمقتون التقليد، ويناهضون الجمال والانسجام في الفن، وكانت أعمالهم تجريبية إلى حد بعيد، وتضمنت عناصر رمزية وموضوعية، وطبقت أسلوبا مستوحى من الفن البدائي ومن رسوم الأطفال والمعوقين العقليين (…)، وعليه، فإن أعمالهم كانت قريبة من الفن اللاشكلي وفن الحدث أو الفعل الأمريكي» (نفسه: 996).
وتستوجب لائحة «مفاهيم الاشتغال في الفن المفهومي التشكيلي» هذه عدة ملاحظات نكتفي منها باثنتين. تتعلق أولى هذه الملاحظات بإدراج بعض التيارات الفنية ضمن هذه اللائحة باعتبارها مفاهيم مندرجة تحت لواء الفن المفاهيمي، والواقع أنها مستقلة بذاتها، علما أنها قد تكون أثرت في هذا الفن بالنسبة للسابقة له تاريخيا أو تأثرت به بالنسبة للاحقة، وهذه التيارات أو المدارس هي الأوب آرت، والباوهاوس، والبوب- آرت، وفن الحد الأدنى، والواقعية الجديدة وكوبرا، بينما «فن الجسد» اتجاه تفرع عن الفن المفهومي، ومعه «الفن لغة» و»فن الأرض».
وبعد طرحه لإشكالية العلاقة الملغزة بين الشكل والمضمون في الفن المفهومي، وسؤال تلقي الرائي، وخاصة العربي، للوحة بصفتها «نصا إبداعيا متعدد المداخل، كثير العلامات منها ما هو إيقوني، ومنها ما هو رمزي ومنها ما هو لسني» (إبراهيم الحجري: 2012، 62)، يعتبر الباحث أنه على المبدع، في سياق انتمائه للمفاهيمية التشكيلية ، الانتقال من وضع «الفنان الموهوب إلى (وضع) الفنان الموسوعي» (نفسه: 66). وهنا تتولد مشروعية الملاحظة الثانية المتمثلة في التساؤل حول عدم تناول مفهومي الفنان التقني والفنان المتعدد، الواردين في لائحة مفاهيم الاشتغال أعلاه، ضمن هذه الفقرة بالذات، نظرا لأن هاتين الصفتين تعتبران من السمات المحددة لموسوعية الفنان المعني.
مظاهر المفهومية في الفن التشكيلي العربي
في الفصل الثالث من البحث، الذي يحتل الجزء الأكبر من صفحات الكتاب (84 صفحة من أصل 178)، الموسوم بـ «تجارب ورؤى» والمخصص لمقاربة تجارب عربية اعتنقت، في مرحلة من مراحل مسارها الفني، الأفق المفاهيمي، يعيد الباحث طرح سؤال يؤرق بال المهتمين العرب بمجالات الإبداع والفكر والفن: «هل التجارب العربية التي تقتفي أثر التحولات التي يعرفها الغرب منبثقة من انشغالات الأنا والهوية العربيتين بما تطرحانه من إشكالات وأسئلة، أم أنها مجرد موضة لا أهداف لها ولا غايات» (نفسه: 73)؛ مستعرضا الاتجاهات الثلاثة التي تولدت عنه لدى المتتبعين ومسوغات موقفها: الاتجاه الرافض للاستنساخ بمبرر أنه يدعو إلى «الاستلاب والانسلاخ عن القضايا المحلية» (نفسه: 73)؛ والاتجاه المشجع على تبني تجارب الغرب «المتطور» الذي «لا يجوز أن نأخذ عنه العلم والتكنولوجيا ولا نأخذ عنه الفن والفكر» (نفسه: 73)؛ واتجاه «بيني» لا يرى بأسا في «استلاف بعض القوالب والأشكال وشحنها بأسئلة الذات ومضامين الخصوصية الثقافية والبيئية» (نفسه: 74).
كان للثورة المعلوماتية وانتشار وسائط التواصل الإلكتروني وطفرة تكنولوجيات التواصل الحديثة، التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، آثار جعلت «الفن التشكيلي العربي (يتأثر) بمفاهيم الحركات الجديدة بما فيها المفهومية، جزئيا أو كليا» (نفسه: 74).
ومن الأسماء العربية التي بادرت إلى الخروج من قوالب الفن الأكاديمي ومعاييره المتقادمة، يتوقف الباحث عند تجارب كثير منهم، واصفا ومتأملا أعمال بعضهم، وسنكتفي بسرد طائفة من ضمنهم فحسب على سبيل المثال:
التونسي نجا المهداوي «الذي أغرم، خارج حدود اللوحة المسندية الساكنة، (…) بفنون الكوريغرايا والباليه والموسيقى الجسدية» (نفسه: 76)؛
النحاتة الأردنية منى السعودي التي «تشتغل على الجسد العربي وتكتفي به فنيا (…)، وقد كرست، عبر أعمالها، (…) فكرة أساسية هي: الجسد العربي المظلوم» (نفسه: 77)؛
المغربي عبد الكريم الأزهر «الذي شخص (…) معاناة الإنسان المغربي وهمومه، وصراعاته السيزيفة مع الزمن والمكان في إطلاقيتهما» في مرحلة الدار البيضاء (1987)، «لكن، بعد انتقاله إلى تجربة أزمور التسعينيات، تغيرت طريقة اشتغاله على الجسد من مربعات متوازية ومتراتبة إلى أرقام فرموز… فأقنعة، فوجوه مشوهة وهلامية» (نفسه: 79)؛
القطري فرج دهام «الذي قام، من خلال أحفوراته اليدوية ومنجزه الغرافيكي، بالاشتغال على الجسد الإنساني، ناحتا بذلك سر المعاناة الإنسانية وهمومها الجاثمة على الأنفس» (نفسه: 85)؛
الإماراتي حسن شريف (1951/ 2016) «الذي كان من الفنانين العرب الأوائل الذي انخرط في حركة ما بعد الحداثة في الفن، ومارس التجريب في صوره القصوى رغبة منه في إخراج اللوحة من نمطيتها، وتمردا منه على الوفاء للوحة المسندية واللون الصباغي» (نفسه: 94)؛ وقد عرف «في أعماله ومنجزاته التشكيلية بالالتفات إلى المهمش واليومي في الحياة، والانصراف إلى المادة الخام التي يوفرها الاستهلاك اليومي للإنسان» (نفسه: 95)؛ علما أنه كان يوظف بامتياز تقنية «التمويه أو المخادعة البصرية» (نفسه: 106)؛ وهو يعتبر أحد مؤسسي الاتجاه المفهومي في الإمارات، ومعه محمد كاظم، وعبد الله السعدي، وحسين شريف ومحمد أحمد إبراهيم؛
الإماراتي محمد كاظم الذي يشكل التوجه المفاهيمي لديه «اختيارا فلسفيا، يسعى من ورائه إلى فتح ممرات (Parcours) معرفية- حسية مختلفة توازي مسارات معرفتنا المتواترة حول العالم والأشياء، بغية الوصول بالمتلقي إلى مفاهيم ومضامين جديدة تعيد النظر في العلاقات بين عناصر الوجود والمعرفة» (نفسه: 111)؛
الإماراتي عبد الله السعدي الذي «يعمد إلى تجسيد أسفاره ومغامراته ويومياته في شكل أعمال ورسومات وصور ومشاهد يعرضها أمام المتلقين، ليعيد، معهم، عيش التجربة ذاتها بطريقة مختلفة» (نفسه: 122)؛
الإماراتية ابتسام عبد العزيز التي انخرطت «في الحداثة البصرية مستفيدة من التجارب التي سبقتها بعد إيمانها بملاءمة الفن المفهومي للعصر من خلال سعيه إلى تجسيد الفكرة، بدل اللهث وراء الشكل، على اعتبار أن الوقت وقت سرعة»، والتي تصرح بأن «طرق التعبير صارت ذاتية، تعتمد على الفنان وأسلوبه في التعبير، وكيفية تفكيكه لعناصر الحياة اليومية إلى رموز فنية، وتحويلها إلى واقع ملموس على شكل بطاقات، وعناصر في الفيديو والفوتوغراف، والتركيب، أو حتى في اللوحة المسندية» (نفسه: 128/ 129)؛
اللبنانية سمر دياب التي «انتحت (فن الجسد) منهجا في التشكيل (…)، (والتي) تجمع بين الفوتوغراف والرسم. وتميزت تجربتها الفنية (…) بهوسها المتزايد بالجسد الذاتي، حيث تبدو أغلب لوحاتها تحويلا لصورها الفوتوغرافية، ونقلها من طبيعتها الأصلية إلى طبيعة فنية متخيلة تمنحها صفة الغرابة والوحشية» (نفسه: 135/ 136)؛
الجزائري قادر عطية الذي يتضح من تجربته أنها «بقدر ما تتجه إلى الأساليب المعاصرة الأكثر تجريبية للفن المفهومي، متحدية كل تقاليد الفن النمطي الكلاسيكي، بقدر ما تفتح عينيها جيدا على ما يدور في العالم من واقع وأحداث، وما يروج من أسئلة الإنسان المعاصر، دون أن تنسى الانشغال بجذور الهوية العربية الإسلامية في علاقتها المتجددة مع الآخر، وفي استحضار تام لما يستجد في الساحة العالمية من تكنولوجيا الإعلام والتواصل وتقنيات البناء والجمال والاستعراض» (نفسه: 146).

على سبيل الختم

تواجه عوامل عدة تلقي الفن المفهومي في المنطقة العربية، ومعه الفن المعاصر عموما، وهي تطال، كذلك، قيمة الأعمال المنتسبة إليه والقراءات النقدية لمتنه. ويلخص بحث إبراهيم الحجري عوامل انحسار المغامرة الفنية المفهومية عربيا في كون «أغلب من يلجون عالم التجريبية هم من المبتدئين وليس لهم تراكم في مجال الإبداع؛ و»المتلقي العربي ما زال تقليدي التصور في نظرته إلى المتعاليات الفنية والإبداعية»؛ و»الأنظمة التقليدية العربية تستبعد التربية الفنية والجمالية من برامجها التربوية» (نفسه: 151)؛ وكون «ولوج العرب للعولمة والحداثة هو ولوج معطوب من أصله»؛ و»استعارة المفاهيم والتوجهات الحداثية الغربية غالبا ما تكون شكلية مسحورة بفتنة القوالب وجاذبية المظاهر»؛ وعجز «النقد الفني عن المتابعة والتوجيه (…)، (واعتناقه) المجاملة والنفاق والتزلف (…)، (وندرة) النقد البناء القائم على أسس ومعايير معرفية وجمالية معقولة»؛ و»ضعف المستوى الثقافي للفنانين»؛ وإقامة أغلب الفنانين المهووسين بالتجريبية «خارج البلدان العربية (…)، (مما يجعل) أغلبية لوحاتهم (…) بعيدة عن ملامسة جوهر الإنسان العربي الذي يعيش واقعا مختلفا تماما»؛ و»ضعف ثقافتنا البصرية (الذي يجعلنا) بعيدين عن جو المواكبة والجدال الحضاري السائد حول سلطة الصورة» (نفسه: 152)؛ وكون «توظيف التكنولوجيا البصرية في الفن ما يزال محكوما بروح التقنية» (نفسه: 153).
إن مساهمات إبراهيم الحجري في مجال البحث النقدي التشكيلي، ومعها منجز الباحثين المغاربة الفائزين أيضا بجوائز الشارقة للبحث النقدي التشكيلي، ودراسات أخرى في المجال، رغم قلتها، صدرت في المغرب أو خارجه، تعتبر بحق إثراء للمكتبة المغربية والعربية في حقل النقد التشكيلي، ومن شأنها أن تسهم في تجاوز الوضع الراهن حيث «يكاد يختفي النقد الجمالي الأكاديمي المستند إلى معايير علمية ومناهج مقارباتية ذات إجرائية كبرى في التحليل والمفهمة والتشريح الدلالي والجمالي» (نفسه: 24).

بيبليوغرافيا

الحجري، إبراهيم. المفهومية في الفن التشكيلي العربي: تجارب ورؤى. الشارقة: منشورات إدارة الفنون- دار الثقافة والإعلام، سلسلة جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي، 2012
أبو عياش، صلاح الدين. معجم مصطلحات الفنون (جزءان). عمان: منشورات دار أسامة للنشر والتوزيع ونبلاء ناشرون وموزعون، 2015.
الناهي، هيثم وشرّي، هبه وحسنين، حياة. مشروع المصطلحات الخاصة بالمنظمة العربية للترجمة. بيروت: منشورات المنظمة العربية للترجمة، بدون تاريخ.
Comte-Sponville, André. Dictionnaire philosophique. Paris : Presses Universitaires de France, 4e édition, 2013.
Morin, Edgar. La méthode- Tome 5, l’identité humaine. Paris : Seuil, 2001.

*) قدم ملخص لهذه الورقة ضمن فعاليات اليوم الدراسي الموسوم بـ «الكاتب الراحل إبراهيم الحجري: ناقدا ومبدعا»، المنظم يوم السبت 21 دجنبر 2024 في الثانوية التقنية الرازي بالجديدة، من طرف صالون مازغان للثقافة والفن وشركائه.


الكاتب : سعيد عاهد

  

بتاريخ : 03/01/2025