إسطنبول تلك المدينة النائمة في حضن غوايتها، تلقي عليك فتنتها من أول نظرة تجود بها عليها، تورطك في عشقها، فلا تخرج منه سالما. حتما يصيبك لحظتئذ هواها ويستبد بك عشقها، فكلما دنت منك زادتك غواية وافتتانا. إنها أميرة المدن المتوجة، هي فاتنة بكل تفاصيلها، تكاد من حسنها أن تتبسما، كما قال الشاعر واصفا ذات لحظة شعر محيا الربيع الطلق. مدينة ممشوقة القوام، ناعمة الملامح، لا ريب أنها حازت آيات الحسن من مجامعها. هناك استلقت على امتداد العدوتين أقصد القارتين، تتوسد خاصرة بحر مرمرة، وتغتسل قدماها المرمريتان في مياه البحر الأسود، مدينة استطاعت أن تجعل من الهجنة رونقا، وتصنع من زرقة ماء البوسفور زنارا، تحيط به خصرها النحيف، المتألق في عنفوان، ومن الغابات الخضراء نسجت إكليلا، تضعها على رأسها الجميل، كابتسامة امرأة فاجأها المطر وهي تحت جناح حبيبها القادم فجأة من غيابات السفر، يحملها بغتة، خوفا عليها من البلل، أو أن تعلق بثيابها شائنة من طين، فتغدو لحظتها وكأنها إحدى تلك الأميرات اللواتي عاقبهن السلطان ذات غضب، ونفاهن بلا رحمة إلى الجزر النائية، بيد أنه عكس المتوقع، توج المدينة سلطانة على قلبه، وجعل منها ملكة متوجة، تقود في كوكب ملكي بديع، تلك الجزر والغابات والأنهار والرعود والأنواء والسحب التائهة، التي اتخذت من السماء مرعى وممشى تسيح في رحابه دون رقيب أو حسيب.
إسطمبول ليست مجرد مدينة. إنها السحر نفسه متجسدا في الملكوت، هناك حيث يلقي بطلاسمه على الزائر التواق إلى الحب والحنان، فيغدو أسيرا لجمالها، متعلقا بحبها الاستثنائي وفتنتها المتجددة.
إسطنبول قطعتان من جمال حي، انفصلتا عن بعضهما، ذات لحظة غضب إله، يغار من الجمال وللجمال الذي يصنعه، لكن حين ينتهي من صنعه، يتملكه الحزن لأن غيره سيكون له من نصيب.
اسطمبول قطعتان شاهقتا الحسن، تطل كل قطعة منهما على القطعة الأخرى، فتبتسم على استحياء، ثم يتملك كل منهما الحزن فجأة، فتنزف كل منهما دموعا مدرارة، تنهمر بغزارة فتملأ دموعهما ما بين القطعتين، وتنقطع حبال الاتصال، ويغدو الانفصال سيدا ساديا يعذب غيره، ومازوشيا يتلذذ بكل عذاب وهو واقع عله كذلك لا محالة. تنفصل القطعتان، فيصبح التواصل بينهما صعبا بل مستحيلا، تصرخ القطعة الأوربية ذات الجدائل الشقراء، متفقدة شقيقتها، فيتردد صدى صرختها الثكلى في جوف القطعة الأسيوية بكثير من القهر والافتتان، ويزداد الشوق اشتعالا، ويحن النصف إلى نصفه طلبا للاكتمال، فتنبثق من حيث لا ندري تلك الجسور، التي تشكل شرايين الحياة، تمد كل منهما بما يضمن لهما البقاء والازدهار والعنفوان. وتتجدد مع كل تواصل وعودا شتى بالحب والعشق والاكتمال.
جسر البوسفور
هذا الجسر تم افتتاحه مناسبة الذكرى 50 لتأسيس الجمهورية التركية، في 30 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1973، ويعتبر رابع أطول جسر في العالم، وحاليا يحتل المرتبة 21 عالميا، بحسب المعطيات المتوفرة، وعرف باسم جسر «البوسفور»، إلا أنه تم تغيير الاسم إلى جسر «شهداء 15 تموز/يوليوز».
وكان افتتاحه حدثا مميزا، إذ بفضله كتب التاريخ أول عبور مشيا على الأقدام بين القارتين، وفي 8 حزيران/يونيو من نفس العام، بدأت التجارب لعبور السيارات، وصولا إلى الافتتاح الرسمي، حيث افتتح رئيس الجمهورية آنذاك، فخري قورتورك، الجسر، معلنا بدء عصر جديد في إسطنبول.
جسر السلطان الفاتح
ومع ازدياد أعداد السيارات في إسطنبول، وعدم كفاية الجسر الأول لتلبية حاجة التنقل بين شطري المدينة، ونظرا للازدحام الشديد، جاء إنشاء الجسر الثاني، لمتطلبات النقل والتنمية، وبدأ العمل به في 4 كانون الثاني/يناير 1986، صمم من تحالف شركات أجنبية، ونفذ من طرف شركات عديدة، من بينها شركات تركية ويابانية.
وافتتح الجسر في 3 تموز/يوليو من العام 1988، وافتتحه رئيس الوزراء آنذاك، تورغوت أوزال، بقيمة بلغت 125 مليون دولار، وتمر فوقه المركبات بأربع مسارات ذهابا، ومثلها إيابا.
ويبلغ طول الجسر 1510 مترا، والعرض 39 مترا، والمسافة بين البرجين 1090 مترا، فيما يرتفع الجسر عن سطح البحر 64 مترا، ويتميز بكون الجسر معلق بزوج من الكوابل، وفي حال استدعت الضرورة تبديل أحدها، فيمكن ذلك .
جسر السلطان سليم
جسر «السلطان ياووز سليم» (سليم الأول) هو الجسر المعلق الثالث الذي يصل بين شطري ولاية إسطنبول الأوروبي والآسيوي، ويعد أعرض جسر معلق في العالم، حيث يبلغ عرضه 59 مترًا، كما تعد أعمدته الأعلى في العالم، بارتفاع 322 مترًا، ويحتوي على عشرة مسارات، 8 منها للسيارات، ومسارين للقطار السريع، ويرتفع عن سطح البحر 59 مترا.
ويُعرف جسر السلطان سليم أيضا، بأنه أطول جسر معلق مدعم بمسارات للسكك الحديدية في العالم، حيث يبلغ طوله 2164 مترا، والمسافة بين البرجين 1408م، وساهم بشكل كبير منذ افتتاحه في حل أزمة التكدس المروري الذي تعاني منه المدينة، فضلا عن تخفيف الكثافة على الجسرين الآخرين.
هذه الجسور المعلقة الثلاثة ليست مجرد جسور أو قناطر، إنها أيقونات، مكتظة بالدلالات. في طياتها تكتنز كثيرا من المعاني والرموز الإنسانية العميقة. إنها تواصل واكتمال، وحلم دائم بالعبور، وانصهار للثقافات بعضها مع البعض، هي بلا شك وعد بمستقبل مشترك، لا يشمل جزئي مدينة جميلة، فتنت وما زالت تفتن جميع من حط الرحال بها يوما فحسب، بل هي وعد بمستقبل وحدوي للإنسانية جمعاء شرقها وغربها شمالها وجنوبها، حين يصبح ما هو إنساني المعيار والسبيل والهدف لكل من حمل قلبا وحلما وصدقه السعي نحو تحقيقه. إنها وعد كبير بالسلم والأمن للجميع باختلاف الأعراق والأديان والجنسيات، وليس ذلك على هذا الكائن المشاغب الهش المتمرد الذي يدعى إنسانا بعزيز.