إعلاء شأن مهنة التدريس رهين بتحسين الأوضاع المادية والمعنوية للمدرسين

كلما حل يوم 5 أكتوبر من كل سنة، وهو اليوم العالمي للمدرس، إلا وتوجه العديد من المنظمات العالمية كاليونيسكو واليونيسيف والعمل الدولية والأمم المتحدة الانمائي رسائل احتفائية تعبر فيها عن إجلالها وتقديرها للدور الذي ينهض به المدرسون في كل بقاع العالم في سبيل توسيع آفاق الدارسين في أفق بناء مجتمع المعرفة والحداثة والتقدم، ومن العبارات القوية التي حملتها بعض هذه الرسائل عن دور المدرس:
(للمدرس دور أساسي لأنه وحده القادر على نقل القيم وصقل الطبائع وترسيخ المواقف والسلوكات ومنح كل متعلم إمكانية أن يصبح مواطنا صالحا )

فريديريكو مايور- مدير سابق لليونيسكو

(المدرسون أساسيون في تربية الأفراد والمجتمعات، فهم لا يعلموننا القراءة والكتابة والحساب فقط، بل يطورون فينا النقد ويساعدوننا على تقديس ذواتنا ومجتمعاتنا ويعلموننا ما نحتاج إليه كي نصبح مواطنين منتجين مع الحياة النشيطة )

ماري فيتريل –المكتب العالمي للتربية

( إننا نعيش في عالم تنافسي اقتصاده متعولم ..ولكي لا يكون الأفراد والمجتمعات عامة تنافسيين ويعيشون في رخاء يتحتم وجود تعليم ذي جودة، وتربية ذات مستوى عال تتضمن وضعية اجتماعية من مستوى عال لرجال التعليم: أجرة مرتفعة، ظروف ملائمة للعمل، وتسيير جيد لمستقبل التربية.)

بيل راتيري– المنظمة العالمية للشغل

هذا التقدير والإجلال يهم أكثر من مائة مليون مدرس ومدرسة عبر العالم، وهم كل يوم يضمنون تكوين الأفراد من أطفال ويافعين وشباب وحتى الكبار رغم الفقر والأزمات والحروب والعنف والأمراض والأوبئة.. وتجدهم في كل أنحاء الكرة الأرضية يعيشون وضعيات متشابهة: رواتب زهيدة – أمراض مزمنة- ضعف الوسائل التعليمية–قمع الحريات النقابية والسياسية والمهنية- المعاناة اليومية من أجل تنمية مهارات وكفايات المتعلمين – … ظروفهم لا تفتأ تتدهور في كل مكان من العالم على الرغم من نداءات المنظمات العالمية المهتمة بالشغل أو بالشأن التربوي والثقافي والمهني مثل اليونيسكو والمنظمة العالمية للشغل( لكن مع ذلك يساعدون تلامذتهم وطلبتهم على أن يكتسبوا من خلال التعليم والتدريب المهارات اللازمة لتشكيل حياتهم وتوجيهها ويتعلموا كيف يمكنهم أن يصبحوا دارسين ناجحين مدى الحياة وقادرين دوما على توسيع آفاقهم)، مقتطف من رسالة مشتركة لرؤساء منظمات عالمية بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمدرس.
في وطننا يمراليوم العالمي للمدرس في صمت مطبق ومكتوم أو مخنوق، وفي أفضل الأحوال قد ترى المسؤولين يبرقون رسائل الاحتفال إلى الأطر العاملة في القطاع، يرددون فيها اسطوانة الإصلاحات ..إصلاح بعد إصلاح ودون إصلاح، إصلاحات دون أن تكون مرهونة ومصحوبة بإصلاح الوضعية المادية والاجتماعية والصحية للمدرسين والمدرسات والأطر العاملة بميدان التربية والتكوين، وهو مربط الفرس في عملية الإصلاح كلها، فإصلاح المنظومة التربوية من مناهج وبرامج ومقررات، وتحويل التوجهات الإصلاحية من مستوى الخطاب أو النوايا إلى مستوى الفعل والممارسة والتحقق يحتاج أطرا وكفاءات يوصلونها للناشئة وللأجيال الصاعدة، و-.
في مؤسساتنا التربوية يمر الاحتفال باليوم العالمي للمدرس محتشما و في لمح البصر،ملصق هنا وبيان هناك، أو حتى لا شيء أصلا غير البرنامج الزمني التربوي المعتاد، أما جمعيات الآباء والأمهات والجمعيات الموازية فقد تجتهد و» تتبرع « برسالة أو بأبيات في المدح، تبرز فيه الدور الطلائعي الذي تقوم به الأسرة التعليمية في محاربة الجهل والأمية ونشر القيم النبيلة، ثم توزع الورود على ثلة من نساء ورجال التعليم،وهي تعبيرات قد يقصد بها الاستهلاك الدعائي في مثل هذه المناسبات، وقد يكون هذا الاستهلاك إيجابيا من باب الاعتراف بدور رجال ونساء التربية والتعليم، لكن يجب الاعتراف بأن تسويق هذا المنتوج الدعائي يخفي الوضع البئيس لهذه الفئة ويخفي الفوارق الاجتماعية والطبقية…
في وسائل اعلامنا،يحل اليوم العالمي للمدرس ولا ترى أثر له، لا في النشرات الإخبارية ولا في الروبورتاجات المخدومة، حتى وأن تذكرت او استدركت هذه الوسائل الاعلامية «غفلتها»، وتريد الاحتفاء برمزية هذا اليوم العالمي للمدرس لا تسمع إلا تلك المعزوفة المخرومة التي لا تريد أن تكشف وضعية نساء ورجال التعليم التي تدهورت بشكل فظيع بعد أن أصبحوا يقبعون في ذيل الهرم من حيث المستوى المعيشي، وبعد أن كانوا في الماضي في قمته أو وسطه، أما سمعتهم الآن فهي معرضة لكثير من التشويش والتشوهات في ظل مجتمع بات المنطق المادي هو الذي يتحكم فيه ويحكمه، وأصبح البعض ينظر إلى نساء ورجال التعليم على أنهم مجرد أرقام تأجير، يشكلون عبئا على خزينة الدولة؟؟؟
يحل اليوم العالمي للمدرس ومنظماتنا النقابية تعيش وضعيات التأزم والتشرذم والضعف الناجمة عن ضعف وانتكاسة المنظمات الحزبية والنقابية والجمعوية مما يجعلها عاجزة عن الفعل والتأثير إيجابيا في الأحداث ويحول دون لعب دورها في دفع الطبقة العاملة والتعليمية أساسا لاحتلال الموقع الريادي في واجهة الصراع السياسي والاجتماعي، مما تسبب في حدوث انشقاقات في التنظيمات النقابية، لذا يجب العمل على توحيد الحركة النقابية عوض تشتتها وتشرذمها، والتعدد النقابي ليس نتاجا عن وجود مناخ الحرية، بل بسبب تغييب التدبير الديمقراطي للخلافات والصراعات المؤدية في النهاية إلى الانشقاقات والانحرافات .
إن أزمة الحركة النقابية دفعت الأطراف الأخرى من حكومة وغيرها إلى الإجهاز على جملة من الحقوق النقابية والمهنية ( التعاقد محل التوظيف – رفع سن التقاعد-..) لذا لابد من النضال لأجل تكريس مؤسسات نقابية كفاحية وديموقراطية.
يحل علينا هذا اليوم العالمي للمدرس، وقد لا نتذكر أولئك الذين يؤدون غرامة ثقيلة على مستوى الأمراض المزمنة التي يعانون منها، وما هو أخطر الان هو تزايد انتشار الأمراض النفسية والعقلية في صفوف نساء ورجال التعليم، وما تزايد الرخص المرضية المتوسطة والطويلة الأمد التي تمنح للمدرسين والمدرسات بسبب المرض النفسي أو العقلي إلا دليلا على أن ظروف مهنة التدريس جد صعبة وفي كثير من الأحيان مقلقة، وتسبب في كثير من الأمراض المزمنة و أخطرها الأمراض العقلية والنفسية. فالمرض العقلي( العصاب مثلا) ينتج عن عدم التلاؤم والتكيف مع متطلبات المكان التي تتجاوز قدرات تكيف الفاعل. أي عندما تصبح العلاقات مع المكان غير كافية وغير امنة.
إن عددا من مدرسينا ومدرساتنا يعانون من الاضطرابات العقلية والنفسية ومن أمراض الحنجرة وضعف البصر وأمراض الضغط والسكري… لذا فالوزارة والحكومة والدولة مطالبة بضرورة التعامل الجدي مع ظاهرة تزايد الشهادات الطبية التي يدلي بها نساء ورجال التعليم لأجل العناية بصحتهم باعتبار الأمراض العقلية والنفسية التي يعانون منها ويصابون بها خلال ممارستهم لوظائفهم هي أمراض مهنية بالأساس.
يحل اليوم العالمي للمدرس هذه السنة، والعالم يعيش للعام الثاني على التوالي حالة طوارئ وحجر صحي على وقع اجتياح وباء كورونا المستجد ومتحوراته المتتالية. وهو أشبه بإعصار وبائي يهدد الوجود الإنساني، يفتك بجسمه وعقله وإحساسه، يهدد حاضره ومستقبله، يحاصر الأفراد والجماعات ويحول بين تواصل الدول والأمم، حول العالم إلى كرة تاجية موبوءة تصيب كل مكان وكل كيان وكائن بالموت والجمود والعطالة والحجر من قبيل تعطيل المدارس والجامعات والمعاهد وغيرها من المرافق الحيوية في محاولة للحد من انتشار الوباء والتحكم فيه ومواجهته .
وعملت كل دول العالم على استنفار كامل طواقمها البشرية وطاقاتها المادية واللوجستية لحماية مواطنيها، وتفادى الشلل الاقتصادي والاجتماعي والتربوي، ولقد تجند كل رجال ونساء التعليم في بلدنا لعودة التلاميذ إلى أقسامهم الدراسية بعد قرابة نصف عام من الانقطاع، ساعدوا على توفير جو بسيكولوجي لطمأنة التلاميذ وتوعيتهم مما مكنهم من السيطرة على الصحة النفسية للتلاميذ، قاوموا الشائعات والوسواس القهري، زودوا أبناء المجتمع المدرسي بآليات إدارة الانفعالات والخوف في ظل الأزمة الوبائية، أسسوا ثقافة صحية استطاعت التعايش مع الوباء و توفير أجواء الأمن والسلامة الصحية والنفسية والجسدية مع الالتزام بالبروتوكول الصحي والوقاية المطلوبة، زاوجوا بين التعليم الحضوري والتعليم الرقمي عن بعد وهذا يعني إضافة عبء كبير على المدرسين والمدرسات لإيجاد أنجع الطرق لضمان السير العام الدراسي، واستطاع رجال ونساء التعليم اعتماد منهجيات ملائمة تتناسب مع ظروف الحجر الصحي لتيسير عملية التعليم والتعلم ومنها – اختيار سبل مناسبة في تقديم المواد التعليمية في ما يتناسب مع الظروف والجاهزية الالكترونية الملائمة لكل وضع وحالة مجتمعية ( أقسام افتراضية – شاشات رقمية – تطبيقات الأجهزة المحمولة) ودون حدود لساعات التعلم الإلكتروني والتعلم عن بعد، ودون تعويض مادي أو معنوي .. أما عن ضحايا الوباء من نساء ورجال التعليم فإن منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا مواقعهم في الصفوف الأمامية في مواجهة خطورة الوباء.
المدرس هو العمود الفقري لخلق أجيال مسؤولة توطن لرؤية علمية متعاقبة لا تتقاطع مع الواقع بقدر ما تتواءم والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة.
إن المأمول بأن تتحقق بالأمس قبل اليوم مراجعة جذرية لأوضاع نساء ورجال التعليم سواء تعلق الأمر بالأجور والتعويضات والترقيات أو إصلاح أنظمة التقاعد والتأمين، مع صون حقوقهم السياسية والنقابية والمهنية من المزايدات وإرغامات الواقع وملابساته… فهل تصلح الحكومة الجديدة ما أفسدته حكومة التفقير والتحقير غير المأسوف على سقوطها… وهل يجازى نساء ورجال التعليم على قدر تضحياتهم ؟


الكاتب : محمد بادرة

  

بتاريخ : 14/10/2021