في الوقت الذي يتحدث فيه الخطاب الرسمي عن “مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص”، تفاجأ الوسط الفني والثقافي في المغرب بإعلان نتائج مباريات توظيف أطر الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، والتي خصصت هذه السنة لـ19 ألف منصب، دون أي حصة لمادتي التربية التشكيلية والتربية الموسيقية. صدمة لم يكن أحد يتوقعها، خصوصا في ظل تأكيد الاستراتيجيات الوطنية على ضرورة إدماج الثقافة والفنون في بناء الشخصية المواطنة وتنمية الذكاء الإبداعي لدى المتعلمين.
رسالة صامتة أم إعلان قطيعة؟
إن غياب أي منصب للفنون التشكيلية والموسيقية ليس مجرد “سهو إداري” كما يحاول البعض تبريره، بل هو مؤشر بنيوي على تراجع الدولة عن الاعتراف بالفعل الثقافي كعنصر تربوي أساس. فالمناهج الجديدة، رغم ما حملته من تحديثات شكلية، تظل حبيسة النظرة النفعية للتعليم، التي تقيس قيمته بمدى إنتاجه لمورد بشري “قابل للتشغيل” لا “قادر على الإبداع”.
الفنان والأستاذ معا يجدان نفسيهما خارج حسابات “الجدوى الاقتصادية”، وكأن الذوق والجمال والخيال لا مكان لها في معادلات التنمية البشرية.
تاريخ من التهميش
يعود إدراج مادة التربية التشكيلية في التعليم المغربي إلى ستينيات القرن الماضي، كتعبير عن انفتاح الدولة الحديثة على الفنون باعتبارها وسيلة لتربية الحس الجمالي والذوق العام. غير أن هذا الحضور ظل هشّا، مرتبطا بمجهودات شخصية لأساتذة مخلصين أكثر مما هو نتيجة سياسة عمومية واعية.
أما مادة التربية الموسيقية، فقد ظلت تدرس في ظروف أكثر هشاشة، وغالبا بدون قاعات مجهزة أو أساتذة مختصين في أغلب المؤسسات التعليمية.
ومع توالي الإصلاحات، ومنذ حكومة 2012، لم تفتح أي مناصب توظيف لأساتذة التربية التشكيلية والتربية الموسيقية، وتم تهميش هاتين المادتين لصالح ما يسمى بـ“المواد الأساسية”، في إطار منطق ضيق يقزم مفهوم الكفايات ويفرغ المدرسة من بعدها الثقافي والإنساني.
مدرسة بلا فن…
مجتمع بلا خيال
إن إقصاء الفنون من المدرسة يعني تجفيف منابع الخيال لدى الأجيال القادمة. فالفن ليس ترفا ولا زينة، بل هو لغة إنسانية تعلم الطفل التعبير عن ذاته، وتمنحه أدوات لفهم العالم بعيدا عن العنف والانغلاق.
وقد أثبتت الدراسات التربوية العالمية أن دمج الفنون في المناهج الدراسية ينمّي الذكاء العاطفي والإبداعي، ويسهم في الحد من الفشل المدرسي.
فكيف نتصور مدرسة حديثة تقصي الجمال من برامجها، ثم تتحدث عن “جودة التعلمات” و”بناء المواطن المتوازن”؟
صوت الميدان
يقول أحد أساتذة التربية التشكيلية: “نشعر أننا غرباء في مؤسستنا، نعامل كزينة هامشية في جدول الحصص، بينما ندرس مهارات هي أساس كل عملية تفكير إبداعي.”
أما أستاذة التربية الموسيقية فتضيف: “حين يلغى الفن من التعليم، نزرع في الأطفال فكرة أن الإبداع لا قيمة له، وأن النجاح لا يكون إلا في العلوم أو الرياضيات. إنها تربية على البؤس الروحي.”
المفارقة الكبرى
المفارقة أن المغرب يشيد في الوقت نفسه متاحف وطنية للفن الحديث، ويدعم المهرجانات الموسيقية الكبرى، ويحتفي بفنانيه في الخارج، بينما يقتل جذور الفن في المدرسة، حيث تبدأ أول علاقة حب مع الإبداع.
فكيف ننتظر جيلا مبدعا إن لم نتيح له أدوات التعبير الجمالي منذ طفولته؟
نداء إلى ضمير المربي
وصانع القرار
لقد آن الأوان لإعادة النظر في مفهوم “المواد الأساسية”، والاعتراف بأن الفن مادة أساسية لتكوين الإنسان، لا تقل شأنا عن الرياضيات أو اللغات.
إن إصلاح المدرسة المغربية لن يكتمل إلا إذا تمت مصالحتها مع الفن، باعتباره أداة لبناء إنسان متوازن، قادر على الإبداع، وعلى مقاومة القبح واللامبالاة.
فمن دون الفن، تصبح المدرسة مصنعا ميكانيكيا للعقول، لا فضاء لنمو الإنسان الحر الجميل.
* أستاذ التربية التشكيلية

