«إلى جنوب طنجة « للمستعرب والمترجم الإسباني غونزالو فيرنانديس بارِييّا .. نصوص مرتبكة تستعصي على التجنيس

«إلى جنوب طنجة».. هذا الكتيّبُ الجديدُ الذي بين أيدِينا اليوم.. الذي هو من نصيبِبا من مَعرض الرّباط2025، و الذي نتناوله هنا بقراءةٍ أوّليةٍ ولكنّها أيضاً متأنّية..هو بحجمٍ صغيرٍ في 169صفحة، و في طبْعته الخامسة لِما بين 2022و2024. الطّبعةُ الأنيقةُ بصورةٍ جميلةٍ للغلافِ للغرافيست الإسباني:
Victor Montalban
هذه الحيثيّات، العتبات النصّية، المرفَقةُ بالكِتاب ـ والتي سيُطاح بها تِباعاً بظهور ما صار يسمّى بالأدب والرّواية الرّقميَّين ـ هي ذاتُها التي لا تزالُ وستَظلّ على الدّوامِ أداةً فعّالةً لقراءةِ النّصوصِ في جانبٍ مهمٍّ منها قراءاتٍ بلا حدود…

عن العنوان

بخصوص العنوان هنا، فهو مفتوح على عِدّةِ ترجماتٍ عربيّةٍ..
بجنوب طنجة ـ في جنوب طنجة ـ إلى جنوب طنجة ـ … و أيّ ترجمةٍ خارج التّدقيقِ اللّغويِّ و المصطلحيِّ و خارج سيّاق النصّ قد يعصف بالقراءة إلى متاهاتٍ لا قرار لها. ومن ثمّةَ فإنّ «إلى جنوب طنجة» هو الأقربَ إلى حقيقتِهِ بنظرنا، ذلك أنّ الكاتبَ يَستتبعُ عنوانَه ب: «سَفرإلى ثقافات المغرب»، ما يعني أنّ الحديث لن يقتصرعلى «طنجة»، بل سيمتدّ إلى جنوبها وإلى مجموع جهات المغرب، وهو ما سنلحَظُه سريعاً عند فتحِنا الكتاب على الفهرس.. هذا الذي يَشمل 51عنواناً أو دفتراً كما يشاءُ الكاتبُ تسميّة كثيرمنها، فيتوقف خلال هذه العناوين/الدّفاتر بعِدّة محطّات: ـ لقالق ورززات (ص.15) ـ في متاهة فاس (ص.41) ـ عودة إلى تطوان (ص.45) ـ الصويرة. من الكناوي إلى الغيواني (ص.80) ـ أصوات مراكش (ص.89) ـ و في قيساريّات الرّباط (ص.139).
ثمّ دائماً بخصوص العنوان، فإنّ الكاتبَ لم يَكتفِ بربط مدينة طنجة (المستعمَرة الإسبانيّة القديمة) بمجموع بلاد المغرب الأقصى، بل إنّه لم يُقِمْ وزناً للفاصل البحريّ بين البلدين والقارّتَينِ لمّا ربط جنوب أوروبا (إسبانيا) بشمال المغرب وجنوبِهِ وحتّى بأفريقيا حين حديثه عن ساحة الثيران بطنجة وأنّ «ساحة الثيران بطنجة، التي دشّنها الإسبان سنة 1950، ليست الوحيدة بأفريقيا» ص.24.

جِدّة الكِتاب

بخصوص جِدّة الكِتاب (2022، ط.1… 2024، ط.5).. فإنّها هنا من الأهميّةِ بمكانٍ و بيتَ القصيدِ في وقوفنا عند العتبات.. ذلكَ لاستثمارِ الكاتبِ ما صارالمغربُ يَشهَدهُ منذ بداية هذه الألفيّة من تقدّمٍ على مختلف الأصعدةِ لتشييد حكيٍ جديدٍ لا يَقتصرـ كما في الماضي ـ على الحديثِ عن العاداتِ والتّقاليدِ في البلد الجارِ وعن العجائب الغرائب فيه، كما في استثماره وسائلَ التّواصل الحديثة للاقترابِ أكثرَ من نبض المجتمع المغربي، ما يُفضي إلى تضييقه فجوة الفوارق بين البلدين وبالتّالي أخذِه بزمام المقارناتٍ.
لقد انعطف الكاتبُ بدهاءٍ و شجاعةٍ ومغامرةٍ بصُورة الإسبَان عن المغرب والمغاربة نحو صُورةٍ حداثيّةٍ لم تكن مألوفة.. ففي حديثه على سبيل المثال عن الأطعمةِ والأشربةِ بالمغرب، لم يقتصر على ذِكر الحريرة والكُسكس والبيصارة وأمْلو والشّاي بالنّعناع، بل مضى إلى الحديث عن المشروبات الكحوليّة و بأنّ «موضوع الكحول سيَكون صادماً عند الحديث عن بلد مسلم، ولكنّه مسموح بتناوله عدا في رمضان» ص.129.
بل أبعَد من هذا، ومن الطّريف، حديثه عن «انقسام شاربي الجعة بالمغرب إلى مُحِبّي «فلاك» و إلى محبّي «ستورك» ص. 128. كما عرض الكاتبُ لبعض أسماء الخمور الشعبيّة المغربيّة في صورةٍ عن المغرب لم تكن مألوفة أيضاً عند الكتّاب والقُرّاء الإسبان .. كروان ـ بولعوان ـ قصرـ تولال.
ولعلّ هذا هو السرّ وراءَ وصول الكِتاب في ظرف أقلّ من ثلاث سنوات إلى الطبعة الخامسة.

عن صورة الغلاف

لا نخفي تحفّظَنا من كوْنها عتبة لقراءة نصّ ما، أو على الأرجح بقاءَها كذلك، وهذا لِما لقيَّته من تلاعُبٍ من طرف النّاشرين باقتراحهم على سبيل المثال لوحاتٍ على الكُتّاب لا علاقة لها بالمَتن لا من قريبٍ و لا من بعيد.
غير أنّها هنا في هذا الكتاب، كما نراها، ومن كوْنها لرسّامٍ إسباني، ستَحمِل الكثيرَ من الدّلالاتِ وتقبَل الكثير من القراءاتِ وهي تنساقّ وتتّسقّ وما قاله كاتبُنا من أنّه «مرّاتٍ تصعب معرفة من أين يبدأ المغربُ وأين تنتهي إسبانيا.» ص.31.
بالدّخول إلى النصِّ سيُبهِرنا الكاتب سريعاً بمَعرفته الكبيرة بالمغربِ الذي لم يَعبُر إليه أوّلَ مرّةٍ إلاّ نهاية الثمانينات. وإن كان قد سمِع عنه الكثير منذ طفولته الأولى على لسان أجداده.. «أسمع الحديث عن الجلاّبة، عن البابّوش، … و أسمع الحديث عن كتامة.» ص.37. إلاّ أنّه يُقرّ اليوم بأنّ «ما نتصوّره والحقيقة هما شيئان متباعدان.» ص.41. فنحن «نذهب إلى المغرب للبحث عن شيءٍ كنّا قد شاهدناه في الأفلام. ولكن هذا لا يوجد، ويمكن أن لا يَكون موجوداً. وهو ما يحُول دون رؤية المغرب الحقيقي. إنّ فهم لعبة المرايا هاته بين الحقيقة والخيَالِ هو مفتاح رؤية مغربٍ آخر.» ص.27.
مكّنت كذلك مَعرفة الكاتب الكبيرة بهذا الرّكح (المغرب) من تقمّص أدوار عديدة باستعمال لغة بسيطة عفويّة تخاطب العقل بعيداً عن اللغة الفانتازيّة التي تخاطب الخيالَ أو اللغة الإشهاريّة التي تستهدف الجيْب. فهو المرشدُ السيّاحيُّ الذي يَقودك في قيساريّة الرّباط ودُروب الصّويرة ومتاهات فاس.. « بالنّزول من باب بوجلود ثمّة جامع القرويّين» ص.43. وهو أيضاً الأنطولوجيُّ الذي ينتقي لك لائحةً طويلةً بأسماءِ الأدباء والشّعراء المغاربة ويعطِيك تفاصيلَ عنهم. فقد أفرَد شكري بعُنوانيْن في الفهرسِ واعتبر»طنجة هي محمّد شكري» ص.19.، كما تحدّت عن سَلاحِف زفزاف وقِططِه إلى جانب بيضة دِيكه وثعلبه الذي يظهر ويختفي. وقد خصّ أيضاً عنواناً للكاتبات المغربيّات (ص.118) بعد أن أكّد بأنّ العقود الأخيرة شهِدت «انخراط المرأة في جميع مناحي الحياة العامّة» ص.119. فأورَد لذلك منهنّ نماذجَ عديدةً من مختلف المشارب .. سعيدة المنبهي ـ فاطمة المرنيسي ـ ليلى السليماني ـ خناتة بنّونة ـ عائشة البصري ـ … كما خصّ عنواناً للكتّاب المغاربة بالإسبانيّة و الكاطالانيّة (ص.156.) مَثّل له بدَوره بمجموعةٍ من الكتّاب.. عبد الرحمان الفاتحي ـ محمّد بوسيف الركّاب ـ أحمد الداودي ـ نجاة الهاشمي ـ ليلى قاروش ـ محمّد المرابط ـ … وهو كذلك السيّاسيُّ والمؤرّخُ في توثيقه التقاطعات بين البلدين المغرب وإسبانيا.
لقد أورد الكاتبُ هنا المئات من الأسماء من كلّ المجالات، تلك التي من شأنها أن تتزاحم في ذهن المتلقي ـ الإسباني هنا ـ وتشوّش عليه، هذا في وقتٍ تحدّت فيه عن العديد من المَراجع والمَصادر والدّراسات والأبحاث التي يمكن العَودة إليها.. «مباحث في التاريخ الأندلسي و مصادره» ل محمّد بنعبود. ص.57، كما أكّد أنّنا «نتوفّر على أنطولوجيا الشّعر النّسوي المغربي» ص.120، و ذَكر وجود «أنطولوجيا للشّعر بالإسبانيّة لذوي أصول مغربيّة بالضفتين» ص.157، و أنّها «كثيرة الدّراسات و الأنطولوجيات.» ص.158.
فكان بالإمكانِ والحالُ هكذا أن يختار عيّناتٍ وازنةِ تَفتح شهيّة القارىءِ الإسبانيِّ إلى الأدبِ المغربيِّ و فنونِه إذا كان هذا هو المُراد. وهو الذي أقصى من هذا الكَمِّ الهائلِ من الأسماءِ اسماً نسويّاً مغربيّاً رائداً في كلّ شيء.. ذ. (ة) مليكة العاصمي؟ كما أقصى أحد المتخصّصيِن في «الكتابة المغربيّة بالإسبانيّة».. ذ. محمّد أبريغش؟ وغيرهِما. كما فوق كلّ هذا و تلك، إحدى مكوّنات الثقافة المغربيّة الأصيلة برمّتها.. الأدبُ الأمازيغيُّ الذي لم يَستحضر منه اسماً واحداّ ؟!
هذا في وقتٍ تحدّث فيه عن «توالد أدب مهمّ بالفرنسيّة عند كتّاب مثل الشرايبي أو بنجلون» ص.157. كما تحّدث عن مغاربة الشّتات في أصقاع بعيدة!.. «أو بالإنجليزيّة، كما ليلى العلمي» ص.156.
وكذلك، فمقابل تخصيص عنوانيْن لشكري بهذا الكتيّب، واعتبار»طنجة هي محمّد شكري» ص.19، لم يتحدّث كاتبُنا عن ابن بطوطة سوى للقوْل بأنّ مطار طنجة سمّيّ باسمه. ولعلّ مردَّ هذا الشحَّ في التّعريف برحّالة الإسلام إلى عزْم الكاتبِ على النّأي عن كلّ ما هو أصيل، والمُضِيِّ في مُنجَزه ـ الذي لم يَسبقه إليه أحد ـ القاضي بتقديم صُورةٍ جديدةٍ مغايرةٍ عن المغرب كما رسمتْها المتغيّراتُ التي لحِقت به خلال هذه الألفيّة. غير أنّ الاعتمادَ على ما جَدّ بهذا البلد على مستوى الظّاهرِ من مَلبسٍ ومأكلٍ ومَشربٍ ومَسكنٍ ومَركَبٍ… لا يمكن ـ بنظرنا ـ وبـ «تَمْغْرَبِيّتنا»، أو على الأقلّ لا يكفي ليَكون بديلاً للمَوروثِ الثقافيِّ المغربيِّ العظيم، أو أن يكون تعِلة للتّبجّحً بذوبان الفوارق (الجميلة) بين البلدين المغرب وإسبانيا، والتي على مستوى الحكي لن تُنتِج سوى نصوص مرتبكة تستعصي على أيِّ تجنيسٍ كما نرى.

 


الكاتب : رشيد أبو الصّبر

  

بتاريخ : 31/05/2025