إنهم يتشبثون بالحريق

 

أحيانا تقف على عتبة سؤال، وتصمت، منتظرا ما ستؤول إليه الحكمة ،أو ما تتهاتر به السفاهة، ويعتريك شك رهيب في أن الأمور ليست عفوية ولكنها منقادة لتخطيط خفي، مقتدر ومنساق لكيمياء القوة والضعف. إن الجسم الواهن لا يشكو من عطب واحد، بل هو مهيأ بضعفه لكل الأعطاب. وها نحن تتكالب علينا الأعطاب، وتنهال علينا السكاكين .
لقد شق هدوء الروح سؤال :ماذا يحدث ؟ لقد سطر الاستعمار البريطاني والفرنسي حدود بلداننا، وحلمت الشعوب، مرغمة، داخل هذه التقسيمات الملغمة بأن تكون لديها دول وطنية،لها مقوماتها وسيادتها.. لكن منشار فرانكنشتاين لايزال حيا يعبث في وجودنا، لم يكتف بالتقسيم الجغرافي المضعف للقوى والنازف حد الإنهاك . بل هو الآن يشهر استدراكه ،استدراكا بسيطا ؛ وهو أن تقسيم البلدان العربية الغارقة في الدم حتى الركب لم يراع العامل الإثني ، لذا آلت الأمور الى ما آلت إليه من تطاحن ، مقدما رواية تزور ما حدث في كهوف الجور و الفجور . وما حدث أن الغرب مستعينا بأزلامه وبطاقات الجهل الذي غرسه فيناـ هو من زرع الحرب وفجر الاقتتال ، لذلك نفخ في الإثنية و أطعمها من هوس الهوية المغلقة والحق المطلق، ما جعلها تنتصب رافعة شعار لكل إثنية وطنها وأرضها وسيادتها.. لنفرض جزافا أنه الحل الأمثل لواقع مترد ،فلم لا نبدأ بفرنسا نفسها ، أليست فرنسا مجموعة من القبائل التي تناحرت في ما بينها ،وكانت لها لغات مختلفة قبل أن تتوحد وتعلن الفرنسية لغة موحدة ؟ وماذا تكون أمريكا غير باتشوورك من الأجناس والأقليات المتباعدة إثنيا .
نسمع اليوم من يتحدث عن هوية أمازيغية وهوية عربية ، وماذا نفعل بالدماء المختلطة ، حيث لا حد في شرياني بين تودا وتدميت من جماعة أيير وبين مريم وكلثوم البهلولية…هل أنا عربية أم أمازيغية ؟ أم مواطن درجة ثالثة ؟
لم نطرح هذا السؤال أبدا على الفقيه السوسي سيدي ابراهيم الحيحي الذي علمنا في الكتاب وأقام بيننا، وتزوج من لويزة المنحدرة من قبائل الريف والتي أحضرتها خالتها وهي طفلة هروبا من بطش فرانكو في الشمال ، والتي حين مات زوجها بلعربي الزموري بالحمى الباردة تزوجت الفقيه الدرعي (الضراوي) مولاي علي ..وهو الذي استدعى حين تعب وأحس بقرب أجله مولاي ابراهيم الحيحي ليحل محله في الجامع تدريسا وتحكيما بين الناس ، وزوجه ابنته لويزا ..كيف نحل هذه المسألة المتشابكة ؟ كيف عاش هؤلاء في سلام وأمان، ولم يحدث بينهم يوما ما يهز إيمانهم بالوطن ووشائجه القوية ؟ لم أر على المستوى الرسمي أو الجمعي ما يهز اطمئناني لهويتي المتنوعة ، لم أر طفلا يطرد من مدرسة لأنه أمازيغي ،الحمد لله ليست العربية لغة الأم بالنسبة لنا جميعا ،كنا جميعا نتعلم من الصفر: الضفدع عوض الجرانة ،أسرع عوض ازرب ، قف عوض وقف، المدرسة عوض السكويلة، فهمنا وحفظنا بنفس الصعوبات ..لم أر شخصا يطرد من مصلحة أو إدارة لأنه أمازيغي أو عروبي ..كنا جميعا نتعرض لحالات من التنمر الناجم عن سلوكيات فردية لأشخاص منحرفين ،ولم تكن هناك قوانين إقصاء أو فتاوى تكفير ،أو قوانين قمع ..كنا نتبادل نكتا عن حرص الشلح ،كما نحكي نكتا عن سذاجة الصحراوي أو جهل العروبي أو جبن الفاسي، ربما كان على الكبار أن يمنعونا من هذا النوع من السخرية ، لكن هي سخرية موجودة في كل البلدان .. تعليقات ساخرة من الانجليزي والفرنسي والأمريكي…من الباريسي والألزاسي …هل قطع رزق شخص لأنه ينتمي إلى الأمازيغ ؟ هل منع من الزواج بغير عرقه؟ هل منع من شهادة أو من امتياز ؟ في أكادير رفض أحدهم أن يبيعني سلعة بنفس السعر الذي باعها به لأمازيغية قبلي ؟ هل معناه أن الأمازيغ أعدائي؟
ما الذي يجعل هذه المسألة تتضخم بشكل مريب ؟ هل هو عجزنا عن الخوض في مشاكل الوطن الحقيقية ؟ ها أبناؤنا يرمون بأنفسهم في البحر لا فرق فيهم بين عربي وأعجمي إلا باسترخاص النفس والوطن ..ها أطفال في سن التمدرس يصرحون أنهم متشبثون بالحريق، حجتهم أن الوطن لم يعطهم شيئا ؟ ما ذا تنتظر أيها الطفل من وطنك غير الكرامة ، ومقعد في مدرسة تعي تعاقداتها وتحترم حاجة الوطن لأبناء متعلمين يؤمنون بأن الوطن يحمي الجميع لا فرق فيه بين أبناء مدرسة ليوطي وغي دوموباسان ومدرسة ابن المقفع أو بين الويدان ..وطن يصنع مستقبل أبنائه، يهديهم الحلم ويعينهم على تحقيقه ..هذا مربط الفرس ،وتأكد أخي (الأمازيغي) أن تلك هي المسألة ،بناء وطن قوي تلتحم فيه كل المكونات وتنصهر ولا يكون ذلك إلا بقاعدة اقتصادية قوية، ونخبة سياسية متنورة، ومجتمع ينعم بالسلم والأمان ويتمتع بكل حقوقه .


الكاتب : دامي عمر

  

بتاريخ : 21/09/2024