إيتالو كالڤينو: عن التشابه بين القراءة والجنس

«أُنجز فقط عندما أقع في الحب: في حب الفرنسية وفرنسا، وفي حب القرن الخامس عشر وعلم الأحياء الدقيقة وعلم الكون وأبحاث النوم»، هذا ما كتبته أورسولا كي لي جوين في كتاب يومياتها مصوّرة الشغف اللازم لجعل الكتابة مشابهة للوقوع في الحب. لكن هذا التشابه يبدأ من القراءة. بعضنا يقرأ لغرض الكتابة- فعلينا أن نقرأ عن القرن الخامس عشر وعلم الأحياء الدقيقة وأبحاث النوم قبل أن نكتب عنها- وبعضنا يقرأ لمجرد المتعة الخاصة التي يمنحها عالم متسع الأفق. تأخذنا القراءة إلى عوالم جديدة من الفكر والمشاعر وإلى أطياف من الحقيقة تجعلنا نقع في حب أعمق للحياة نفسها. وكلما قرأنا نقرأ كما نعيش الحب، بكل جوارحنا، ونستحضر في الكتاب كل تجربة خضناها وكل أثر لانطباعات كوناها وانكسارات كدنا نتجاوزها والطابع الذي تركه كل كتاب قرأناه على وجداننا.
يحتفل إيتالو كالفينو (أكتوبر 15، 1923- سبتمبر 19، 1985) احتفالاً متبصراً ورقيقاً وحسياً غير معهودٍ بهذا التشابه بين القراءة والحب، ممارسته والوقوع به، في مقطع رائع من روايته «لو أن مسافراً في ليلة شتاء» (1979). يعدُّ هذا الكتاب الولاء المطلق للقراءة انطلاقاً من «السرد الإطاريّ» الذي يتحدث من خلاله عن قارئ يحاول قراءة كتاب وصولاً إلى عنوان الرواية المصمم عمداً على شكل جملة وليس كعنوان يحوي كلمات بأحرف استهلالية كبيرة. هذا الكتاب من وإلى محب الكتب المهووس. إنه كتاب يمثل جميع معايير كالفينو الكلاسيكية الأربعة عشر والمعيار الرابع على وجه الخصوص: «كتاب يمنح مع كل قراءة شعوراً بالاكتشاف، كأنها القراءة الأولى».
يكتب إيتالو كالفينو راسماً تشابهاً أساسياً بين قصة في الأدب وقصة حب في الحياة:
كيف نحدد لحظة بداية قصة؟ كل شيء سبق أن بدأ من قبل. يشير أول سطر في أول صفحة لكل رواية إلى شيء بدأ مسبقاً خارج الكتاب. أو أن القصة الحقيقية هي التي تبدأ بعد عشرة أو مئة صفحة لاحقة وكل ما يسبقها هو مجرد تمهيد. تشكل حياة أفراد العرق البشري حبكة متواصلة بحيث يجب على كل محاولة لعزل قطعة منها ذات معنى منفصل، على سبيل المثال لقاء بين شخصين سيكون مصيرياً لكليهما، أن تأخذ بعين الاعتبار أن كلاً الشخصين يحمل معه نسيجاً من الأحداث والبيئات والأشخاص الآخرين وأنه ستنبثق من هذا اللقاء بدوره قصص أخرى ستنفصل عن قصتهما المشتركة.
يعد كالفينو أن القراءة، مثل الاتصال الجسدي، عبارة عن انغماس كلي يتطلب في أفضل حالاته توازناً داخلياً دقيقاً بين الاستسلام المطلق والسلطة المنيعة، الأول للعقل والثانية للجسد:
الآن، يحاول جسداكما المتلاصقان الوصول إلى الالتحام الأسخى حسياً، وأن ينقلا ويستقبلا الاهتزازات والأمواج ويجتاحا الوجود والفراغ. كما تحاولان الوصول إلى أقصى درجات الانسجام فكرياً. فبالتالي يمكن مخاطبتكما كشخص واحد ذي رأسين. بدايةً، يجب بناء نطاق النشاط أو الوجود لهذا الكيان المزدوج الذي شكلتماه. إلى أين يقود هذا التماهي المتبادل؟ ما هي الفكرة الأساسية التي تتكرر في تقلباتكما وتغيراتكما؟ هل هو الجهد المركز على عدم تجريد أي شيء من إمكانيته، وعلى إطالة حالة تفاعلية، وعلى الاستفادة من تراكم رغبة الآخر لمضاعفة إشباع الشخص لذاته؟ أم أنه التخلي الأكثر إذعاناً واكتشاف اتساع المساحات التي تحلو مداعبتها وتلقي المداعبات فيها، وذوبان كيان الشخص في بركة سطحها حساس للملامسة بشكل لا نهائي؟
من وجهة نظر ريلكه «تستمر مساحات لا نهائية بالوجود حتى بين أقرب البشر لبعضهم» والحب الصحّي هو اتحاد المساحات بين روحين وحيدتين متجاورتين. يستنتج كالفينو من هذا التفاوض الضروري بين الانفصال والاتصال:
في كلا الحالتين، لا وجود لكما من دون علاقتكما بالآخر. ولكن لجعل هاتين الحالتين ممكنتين، ليس على ذاتيكما أن تنمحيا بمعنى الكلمة بل أن تشغلا من دون تحفظ كل الفراغ للمساحة العقلية؛ أن تستثمرا في نفسيهما حتى أقصى درجات الفائدة أو أن تستهلكا نفسيهما حتى آخر رمق. باختصار، ما تفعلانه جميل جداً ولكنه لا يغير أي شيء قواعدياً. في اللحظة التي تبدوان فيها متحدين في كلمة أنتما، ضمير مثنى مخاطب، يكون كل منكما أنت، ضمير مفرد مخاطب أكثر انفصالاً ومحدودية من أي وقت مضى.
في ما قد يكون أكثر المقاطع المؤلفة عن الموضوع حسيةً، يشبه كالفينو فعل القراءة بفعل ممارسة الحب، مخاطباً القارئ العاشق:
الآن أنتَ تُقرأ. يتعرض جسدك إلى قراءة منهجية عبر قنوات معلومات حسية ومرئية وشمية بالإضافة إلى تدخّل الحليمات الذوقية. وللسمع أيضاً دوره في التنبه إلى لهاثك ورعشات صوتك. ليس الجسد موضوع القراءة الوحيد في كيانك: يكتسب الجسد أهميته من كونه جزءاً من مجموعة عناصر دقيقة، ليست جميعها مرئية وحاضرة ولكنها تتجلى في أحداث مرئية وحاضرة: تسبيل عينيك وضحكك والكلمات التي تتكلمها وطريقة ربط وحل شعرك ومبادراتك وتحفظك وكل الرموز التي تقف على الحدود بينك وبين العرف والعادات والذاكرة وحقبة ما قبل التاريخ والموضة، كل القوانين والأبجديات البائسة التي تقود الشخص في وقت ما إلى الإيمان بأنه يقرأ شخصاً آخر باستخدامها… تستعرض القارئة الأخرى الآن جسدك وكأنها تتصفح فهرساً. وفي بعض اللحظات تراجعه كأن فضولاً معيناً مفاجئاً يتملكها، ثم تتباطأ مشككة به ومنتظرة حتى يصلها جواب صامت. كأن كل استكشاف جزئي يجذب اهتمامها فقط في ضوء استطلاع مكاني أوسع. هي الآن تمعن النظر في تفاصيل تافهة ربما هفوات شكلية صغيرة… وتستغلها لتبني هامش انفصال أو تحفظاً حاسماً أو حميمية غير جدية. لكن عوضاً عن ذلك فإنها تتعلق بالتفصيل المكتشف بالمصادفة، على سبيل المثال شكل ذقنك أو عضة حميمية لكتفها، وتشعر من هذه البداية بالإثارة وتغطي (تغطيان معاً) صفحات وصفحات من الأعلى إلى الأسفل من دون أن تتخطيا فاصلة.
لكن ينهي كالفينو لاحقاً هذه المقارنة باختلاف حاسم يتربع داخل التشابه بين هاتين التجربتين:
تختلف قراءة كل من العاشقين لجسد الآخر (لاتحاد العقل والجسد الذي يستخدمه العاشقان للذهاب إلى الفراش معاً) عن قراءة الصفحات المكتوبة في أنها ليست خطّية. فهي تبدأ في أي نقطة، تتخطى، تعيد نفسها، تعود إلى الخلف، تُلح، تتشعب إلى رسائل مختلفة ومتزامنة، تتلاقى مجدداً، تعيش لحظات انزعاج، تقلب الصفحة، تجد مكانها، تضيع. يمكن تمييز اتجاه لها، طريق يتجه إلى نهاية، بما أنها تسعى إلى ذروة. وبوجود هذه النهاية في الأفق، فهي تنظم مراحل متناغمة وتقطيعات شعرية موزونة وتكراراً في الدوافع، ولكن هل تشكل الذروة النهاية؟ أم أن السباق باتجاه هذه النهاية يعارضه دافع آخر يعمل بالاتجاه المعاكس يسبح عكس اللحظات ويستعيد الوقت؟
إذا أراد الشخص أن يرسم الأمر برمته بيانياً، فستتطلب كل مرحلة بذروتها نموذجاً ثلاثي الأبعاد أو ربما رباعي الأبعاد أو بالأحرى لن تتطلب نموذجاً: فلا يمكن تكرار أي تجربة. ما يجعل ممارسة الحب والقراءة متشابهتين أكثر من أي شيء آخر، أنه في كل منهما أوقات ومساحات مفتوحة مختلفة عن الوقت والمساحة القابلين للقياس.


الكاتب : ماريا بوبوڤا ترجمة: ندى ناصر

  

بتاريخ : 10/08/2024