اتهام خلط الدقيق بالورق: مناورة للهجوم على صندوق المقاصة وتهيئة الطريق لتحرير الأسعار؟

129 مليار سنتيم تسيل لعاب «فراقشية الدقيق» وتصريح التويزي رصاصة طائشة في معركة «طحن العظام»

 

في خضم النقاش البرلماني حول مشروع قانون المالية لسنة 2026، تحولت تصريحات أحمد التويزي، رئيس فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب، إلى قنبلة سياسية وإعلامية بعدما تحدث عن “شبهات خلط الورق بالدقيق المدعم”. التصريح كان كافيا لإشعال الجدل، ليس فقط لأنه يتعلق بمادة أساسية يتناولها ملايين المغاربة يوميا، بل لأنه صدر داخل المؤسسة التشريعية، وبشكل موثق بالصوت والصورة. ساعات قليلة كانت كافية لينتقل الموضوع من نقاش سياسي إلى فتح ملف قضائي، بعدما أمر الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط بفتح تحقيق رسمي، سيتم خلاله الاستماع إلى التويزي لمعرفة مدى صحة ما قاله.
وعلى الرغم من أن الرجل تراجع عن مضمون تصريحاته بعد أن تحولت إلى قنبلة إعلامية انفجرت في وجهه، مدعيا أن كلامه كان “تعبيرا مجازيا” يقصد به التلاعب في وثائق الدعم، لا خلط الورق بالدقيق فعليا. فإن هذا التصريح الثاني يؤكد ما هو أخطر من طحن الورق مجازيا ليصبح «طحن أموال المغاربة» فعليا. ولم يمنع النقاش من التمدد نحو قضية أبعد: لماذا يتم إطلاق اتهام بتلك الخطورة في هذا التوقيت، ومن يستفيد من إضعاف ثقة المغاربة في الدقيق المدعم، وفي صندوق المقاصة تحديدا؟
الحسين اليماني، الكاتب العام للنقابة الوطنية للبترول والغاز، يعتبر أن هذه التصريحات ليست زلة لسان، وإنما جزء من خطاب سياسي يراد منه تأليب الرأي العام ضد خدمات صندوق المقاصة تمهيدا للقضاء عليه. فوفق قراءته، عندما يتم التشكيك في جودة الدقيق المدعم، يتم ضرب أحد أعمدة السياسة الاجتماعية في المغرب، وبالتالي تهيئة الأرضية لتحرير أسعار المواد الأساسية وفتح السوق تماما أمام المضاربين واللوبيات المتحكمة في سلاسل التوزيع. في هذه الحالة، يصبح تحرير الأسعار مسألة «حتمية»، ويظهر للدولة وكأنها فقط تستجيب للفضائح و»تحمي» صحة المواطنين، بينما الحقيقة هي نقل تكلفة الغذاء الأساسية إلى جيوب الأسر، مقابل أرباح إضافية لفئات محددة.
غير أن الزاوية الأكثر حساسية في هذا الملف تكمن في الأرقام. فدعم الدقيق لم يعد هو العنصر الرئيسي في كلفة صندوق المقاصة كما كان سابقا. ففي سنة 2024 بلغت تكلفة دعم القمح اللين والدقيق الوطني حوالي 1.290 مليار درهم بعدما كانت 1.344 مليار درهم سنة 2023، أي بتراجع بنحو 4% .ورغم هذا الانخفاض، فإن دعم الدقيق مازال من الملفات التي “تسيل لعاب” العديد من الفاعلين، وعلى رأسهم أرباب المطاحن الصناعية الذين يخوضون منافسة شرسة للاستفادة من حصص الدقيق المدعم.
التقرير السنوي لصندوق المقاصة يكشف تفاصيل هذا الغلاف المالي. من إجمالي 1.29 مليار درهم سنة 2024، يستحوذ دعم حصة الدقيق الوطني من القمح اللين على 986 مليون درهم، بينما تتحمل الدولة 230 مليون درهم لنقل الدقيق المدعم إلى المراكز المستفيدة، إضافة إلى 6 ملايين درهم لمنح التخزين، و68 مليون درهم لطلبات العروض الخاصة بتزويد المطاحن.هذا يعني أن الدعم ليس مجرد “فارق سعر”، بل منظومة مالية ولوجستيكية واستراتيجية كاملة تربط المطاحن بالمخزون الوطني وتموين السوق وحماية الأسر الفقيرة.
الأرقام المستجدة تؤكد الاتجاه نفسه في سنة 2025. فمن يناير إلى غشت 2025، بلغت كلفة دعم الدقيق الوطني حوالي 880 مليون درهم، مع استمرار تحمل الدولة لتكاليف التخزين والنقل لتأمين التموين المنتظم للسوق المحلية. ورغم تراجع هذه الكلفة مقارنة بالسنوات الماضية، فإنها مازالت كافية لجعل المنافسة حول “كعكة الدقيق المدعم” معركة اقتصادية شرسة بين وحدات الطحن التي ترى في الحصة المضمونة ربحا صافيا وضمانا للإنتاج والاستمرار. هنا يصبح الطعن في جودة الدقيق أو التشكيك في مساره التجاري، مدخلا لإعادة توزيع الحصص أو الضغط لضبط المنافذ التجارية.
التقرير يكشف أيضا أن الدولة تواصل دعم استيراد القمح اللين لضمان الاستقرار، إذ بلغت كلفة دعم الاستيراد إلى غاية غشت 2025 حوالي 257 مليون درهم بعدما كانت 356 مليون درهم في نفس الفترة من سنة 2024، بانخفاض قدره 29%، نتيجة تراجع تكاليف الاستيراد وأسعار القمح عالميا. وإذا أضفنا ذلك إلى دعم الدقيق المحلي، فإن الكلفة الإجمالية ارتفعت إلى حوالي 1.137 مليار درهم خلال الفترة نفسها.
هذه الأرقام تؤكد أن الدقيق المدعم ما يزال جزءا مركزيا في الأمن الغذائي، وليس مجرد عبء مالي يمكن التخلص منه بجرة قلم. فالدولة تدعم 6.26 ملايين قنطار من الدقيق الوطني سنويا موجهة لفئات سكانية مستهدفة، وتتحمل مصاريف التخزين والنقل لإيصال الدقيق إلى مناطق نائية ومعزولة، في وقت يستحيل فيه على شريحة واسعة من الأسر شراء الخبز بأسعار السوق الدولية أو أسعار غير مدعمة. وبالتالي لا يمكن اختزال النقاش في «ورق يخلط بالدقيق». فالتصريح المثير كان مجرد مناورة سياسية لإسقاط إحدى آخر آليات الحماية الاجتماعية، وفتح الطريق أمام تحرير أسعار الخبز والدقيق، تماما كما تم تحرير المحروقات سابقا. وإذا حدث ذلك، فسيجد المواطن نفسه مطالبا بشراء الغذاء الأساسي بأسعار السوق الدولية، في ظل أجور هشة وضعف المنافسة واحتكار سلاسل التوزيع. حينها لن يكون السؤال: هل يوجد ورق في الدقيق؟ بل: من سيستطيع شراء الخبز؟


الكاتب : عماد عادل

  

بتاريخ : 31/10/2025