اجتراح مفاهيم سيميائية من خلال «الانشعاب المرآوي في الرواية» للدكتور الشرقي نصراوي

إن القناعة المترسخة التي أصبحت تميز العلوم الإنسانية بعدما اتجهت إلى العمل الأدبي، هي أن تجعل منه عالما في مقاربته لتجسيد كينونتها وهويتها..فمادام الأمر كذلك، نحن أيضا نروم منها ما هو جاهز على مستوى الممارسة (مناهجها وآليات اشتغالها..)،كي نستجلي منظور طبائع مرجعياتها لتصور، أو رؤية لها مبرراتها على مستوى القراءة.. وهذا مبرر كذلك لفضولنا ــ كما هو فضولها في التعامل مع الإبداع ــ حتى نقف على معالم الدراسة السيميائية للرواية العربية من خلال «الانشعاب المرآوي في الرواية»دراسة سيميائية للدكتور الشرقي نصراوي….
إن توسيع مجاله المنهجي لفرضياته، يقتضي هذا التمسك الوثيق بالإمكانيات التي أمْست عمق المترسخ الثقافي، وآليات البحث الضرورية للمقاربات المنفتحة على مختلف أنماط الإبداع الأدبي وغيره،لأن التمفصل القائم ينابيعُه كفيلة بالشروط التي تسهل مأمورية هذه العلاقة المتكافئة بين المعطى والجاهز في النص إبستمولوجيا وتخييلا، باعتبار اللغة هي الجسر الرابط بينهما..فمستويات تعبيرها المتعدد بين الحسي والمجرد، تبدو له من زاوية جدلية الملموس والمتخيل..كي يتسنى لنا أيضا كقراء استيعاب الكيفية التي قرأبها الدارس الرواية العربية..
إذن فهذا الاستيعاب مشوب بأسئلة مشروعة، تتغيى الوقوف على مراكز هذه القراءة، أي مدى التفاعل بين النص والقارئ كمرحلة أولى، يقوم بها الدارس من خلال مرحلتي الاستكشاف/ القراءة، ومرحلة الاسترجاع/ التأويل كما يذهب إلى ذلك الناقد ميشال ريفاتيرMichel Riffaterre فيكيفية البحث عن أنساق دلائلية (قراءة عمق االنص)بأبعادها الدلالية،حتى يشركنا معه في الكشف عن معالم هذه القراءة، محاكاةً لفهمها بتوظيف كل ما تحتمه المرجعية المعرفية لذلك..
هكذا تبدو المقاربة الخاصة بالانشعاب حين تذهب إلى تفكيك كل ما من شأنه أن يجعل المعطى آلي للاشتغال،بالانفتاح على الاحتمالات التي يوفرها هذا الانشعاب..إذ يقتضي الأدب في نظر بارث أن نذهب إلى ما «يقوم به من خلخلة اللغة» لكي نستمد منها مدلولات الأشياء بما أنها تلعب هذا الدور الذي يحيل السيميائيات إلى دلائل وأدلة متوخاة من مرجعيتها الانزياحية، وهذا ما نسعى إلى ملامسته في هذه الدراسة للإلمام بسبل تفجير مكنونات هذه اللغة (النص السردي) من حيث أبعادها الإبداعية اللامتناهية، كما هي إبداعية تشومسكي، وهو الفعل الإجرائي الذي نجد مثيله في الانشعاب المرآوي على مستوى توليد وتوالد مجموعة من المفاهيم التي تقرأ بها السيميائيات بمختلف مكوناتها العمل الأدبي..
لذلك نجد هذا التنوع والتعدد كلما وقفنا على هذا الانشعاب في تعامله مع رواية من روايات الدراسة، فمنها ما هو ممتد يجد ذاته ممارسة في العملية السردية من خلال ثوابتها، ومنها ما هو عالق بطبيعة البنية السردية يعبر عن وجوده وكينونته المادية داخلها، ثم يخرج إلى دلالات تفرض نفسها على القراءة، وتحتم التعبير عن وجودها، خصوصا أننا أمام عوالم بفضاءاتها وقواها الآدمية وغيرها..حتىيكون التطلع إليها إشباع لأبعادها الدلالية بفرز البنيات والأنساق النصية التي تقوم عليها. فالدارس يختار لكل عنصر أو مفهوم سيميائي لهذا الانشعاب موقعه المناسب لقراءة كل رواية في محمولها الإبداعي. فالمقاربة حاولت من خلال الأبعاد السيميائية في تعاملها مع المعطي النصي، أن تبرز أبعاد تجلياتها الخطابية. أي لابد للقراءة السيميائية في تفعيلها من الانفتاح على عوالم يفرض حضورها الكشف عنها. إن اشتغال النص السردي حسب غريماس لابد أن يقوم « أساسا على وجود مستوى محايث محدد في بنية دلالية مجردة تنتظم داخلها سلسلة من القيم المضمونية المتمفصلة في سلسلة من العلاقات الموجهة».. إذ تبدو العملية أكثر وضوحا في تناسل هذا الانشعاب بشكل تدريجي يراعي الخصوصية النصية لكل عمل سردي من حيث مؤهلاته، استعدادا لهذا التناسل في الأبنية الذاتية للغة بتنوع معاجمها وأنساقها ك «جارات أبي موسى» لأحمد توفيق، حتى تخرج عن هذه الذات الأصلية إلى عوالم يلتقط فهمها بالوقوف على رمزيتها وإيحائيتها، فلا نستبعد هذه العملية عما حاول بارث أن يبرزه في « .. أن اللغة هي الوعاء الذي يحتوي الرموز الأدبية والمعايير النقدية ..».. فطريق التوظيف اللغوي داخل المتن السردي هو الذي أتاح للدارس «نصراوي» أن يقف عند مجموعة عناصر هذا الانشعاب في الرواية، التي لا تنفلت عن البعد السيميائي في دوره الوظيفي للعلامات، وتموقعاتها داخل العملية السردية بكل ما يتطلبه أداؤها اللغوي نسقيا ضمن الحوار وغيره، من خلال أسئلة الوعي اللغوي في تشكله الفلسفي والثقافي داخل الرواية. إذ هذا الوعي اللغوي نابع من مفهوم مجرد لأصوله العلاماتية، وهنا يحضرنا مفهومهوبسThomas Hobbesللعلامة، فهي»..النتيجة الحتمية للسبب وعلى العكس، هي السبب للنتيجة بعد أن تكون الأسباب الأولى قد لوحظت» أي الكشوفات التي تنطلي على كيفية إبراز ما تتمتع به هذه الرواية من صبغة فنية، يساهم فيها أيضا استعمال اللغة الهامشية..
فالدارس لم يقف في مقاربته على العناصر السابقة، بل تعداها إلى «سخرية الأهواء»، وطريقة توزيع الفعل الهووي على مستوى الاستبدالات المعجمية في البنيات الكبرى للرواية.. هذا الاستهلال لمفهوم «سخرية الأهواء» مفتاح لآفاق امتداد مجسماته الانشعابية في روايتي « المنعطف» للدايم ربي و»سماسرة السراب» لحميش، باعتبار أن اللغة الساخرة تحول الإنسان إلى علامة سيميوطيقية ضمن بنية علاماتية لكل منها محدداتها الخاصة، وطبائعها الذاتية (مواصفات نووية وكاريكاتيرية، تفاوت المواقف (التقاؤها وتباعدها)، وقدرتها على وضع فواصل بينها..) حتى يصل بها الدارس إلى أبعادها العجائبية..كما هي في نظركريستيفاKristeva، وبارثBarthes ، وبويسانسBuysens، ليست لها دلالة في ذاتها، بل بسياقاتها البيانية.. لذلك فالبنية السردية المتماسكة لمتون الروايات تجعل هذه السخرية متوجة في سردها، ما يؤدي إلى تعدد صيغ المتن الحكائي…
يتابع الدارس أيضا تفكيك متون مجموعة من الروايات»الشراع والعاصفة» لحنا مينة، و»اللجنة» لصنع الله إبراهيم، و»لعبة النسيان» لبرادة، و»اللاز» للطاهر وطار.. بالانتقال إلى أحد انشعاباته ضمن التركيبة العامة، التي توالف بين هذه الروايات في سياق موالفة مكونات السيميوطيقات المتعددة رغم اعتماداتها المتباينة نسبيا، مادام المرجع واحد..هذه الالتفاته النابهة منه اتجهت إلى التعدد اللغوي، وتجلياته من خلال تعدد الأصوات بتعدد مواقفها، ما استدعى في بعضها ملاءمة اللغة المحكية لطبائعها، والتعبير عن هذه المواقف. إذ التعدد اللغوي يتجاوز وحداته اللغوية المختلفة، أو تماديها على مستوى التوالد اللهجي إلى جانب لغة الكتابة، بمعنى كيفية تداولها في اختلاف الوحدات السردية المتنوعة، التي تحكم كل ما هو تيماتي له علاقة مباشرة بالشخصيات، من حيث التقابل بين كينونتها والفعل الأهوائي كتنظيم تركيبي لحالات نفسية ــ كما نجد ذلك عندفرانسيسكو مارسيانيFrancesconMarsciani..ــوليبين عن طريق هذا التعدد تمرير خطاب السخرية كمعطى سيميوطيقي، يتم توظيفه من خلال العوالم السيميائية في بعدها العلاماتي.قد يتجاوز أحيانا هذا التعدد نفسه إلى تماهي هذه العوالم بلغات أخرى لها وجودها الفعلي على مستوى التواصل، والتفاعل المجتمعي/ التلوينات اللغوية. وفي هذا السياق نستحضر ألبيرطو إيكو في أن «إرفاق مدلول العلامة معطيات موضوعية، تعين على تتبع مجمل التأويلات الممكنة لعبارة واحدة»…
إن الاسترسال في انبعاث آليات الانشعاب يبقى مستمرا لتفاوت الروايات في سردها..فيكون مدخل رواية «عزوزة» لزهرة رميج هو نظام المحادثة كفاعل عملي يستجلي طبائع مكنون الحوارات، فالمحادثة كمفهوم يحتم على الدارس اختياراته للمقاربة السيميائة، مما يؤدي إلى تعدد أدواتها في ظل هذا الانشعاب، ويجعل موقعنا بين التنظير وبين كيفية ولوج عالم السرديات بتشكيلة انشعابه، حتى يصل بنا اعتماده «المحادثة» إلى تحويل البنيات السيميوطيقية، أو التركيبية إلى بنيات خطابية منفتحة على كل الاحتمالات النفسية والاجتماعية بتمظهراتها في أفعال الشخصيات، وتحركاتها، ومساحاتها داخل المبنى الحكائي (فالمحادثة تصل بالدارس إلى فك سنن السرد نحو البنيات العميقة من خلال ( توظيف لغة الجسد، الإدراك والتمثيل، دمج أصوات السارد، والشخصية المحورية، أي أنها لغة نسيج متنوع في أسلوبيته وسخريته))..
فلا يقف الدارس عند هذا الحد، بل يستمر في إبراز آليات انشعابه بتعامله مع رواية «ليلة التحرير» لمحمد العون.. منها ما هو متمركز في الانشعاب لملاءمته الخصوصيات السردية على مستوى البنيات، أو الأنساق التركيبية التي تستوعب ما يمكن القراءة من الكشف عنه، ومنها ما ينظر إلى اللغة من موقع عوامل التواصل التي يتبناها المتن الحكائي، ويبنيها من خلال جاذبيات العوالم التي يسعى الكاتب الخارج النص أن يضمنها رؤيته العامة « المقول»، أو بنية أفعال العوامل، أي الإنسان والأشياء التي تسهم في الفعل بمفهوملوسيانتسنييرLucien Tesniére..حتى يُبرز انسيابية الشكل في قدرة السارد الكلي/ غير المشارك على تنظيم المادة االحكائية، وكيفية التقاط مواقع التواصل من السخرية، أو المحادثة. كل هذا يؤدي به إلى استنتاج الدور العاملي لتوليد الدلالات التي يتسناها في التجاذبات السياسية، والثقافية وموروثها. وأيضا يصل بنا الدارس إلى دورها الحواري كي نلتمس معه التقابلاتوالتنافرات، التعدد والاختلاف، التطابق والتشابه .. وكلها مفاهيم منبثقة عن الانشعاب كمفهوم بؤري استطاع أن يولد منه هذا الزخم الهائل من الآليات لتفكيك المتون السردية قيد دراسته، وبوعي منه أيضا حاول أن يقرأها غير غافل بأهمية الاتجاهات السيميائية في مشتركاتها وتميزاتها…
إن نصراوي في دراسته، لم ينظر إلى الخطاب كمتوالية لغوية في بعدها التعاقبي، بل بصفته تركيبة ذات بعد دلالي من منطلق المتتاليات المشكلة له ككل، وليس في استقلال جزئياته..فالانشعاب هو كفيل بالانتقال من الدالات الأولية المشكّلة للخطاب، إلى دلائلها المتولدة عن النظرة لهذا الخطاب، دون الابتعاد عن الإشارة إلى طبائع المفاهيم، ومغازي العمل بها.. محاولة منه تحقيق جدلية العلاقة بين التنظير والممارسة، حتى يقترب القارئ من المقاربة أكثر، واستيعاب طبيعة التحليل السيميائي في بعض مكونات الاشتغال التي اعتمدت أساسا على «الانشعاب المرآوي» في إنجابه لمفاهيم إجرائية منحوتة من السيميائيات..
إن سلطة المقروء من الناحية الأدبية فسحت المجال لاقتحامها وتفكيكها أو ممارسة القراءة عليها من منطلق الرغبة الملحة التي فرضت نفسها على القارئ / نصراوي حتى ينسحب إلى ما يمكن محاصرته واستقراؤه….


الكاتب : أحمد السالمي

  

بتاريخ : 20/09/2024