في جو حميمي التقى عدد من الأشخاص وسط بيت أنيق تحف به الأشجار من كل جانب، ليتداولوا في مؤلف يعود للكاتب المغربي حسن البقالي، ألا وهو «تكلم كي لا أموت».
يندرج هذا اللقاء في إطار صالون أدبي، نظم مؤخرا بشراكة بين «صالون ليلى للفكر والإبداع» ومجموعة «شاي وكتاب»، وسط غابة بنسليمان، وكان فرصة للمدعوين لقضاء نهاية أسبوع رائقة وسط الطبيعة، كما أنها كانت فرصة لعدد من الاكتشافات.
اللقاء أطره الناقد والروائي الحاصلة روايته «الرقيم الأخير» على جائزة المغرب لـ2023، عبد الإله الرابحي، الذي قسم مداخلته إلى أربع نقاط أساسية، كان أولاها تركيزه على عنوان مجموعة القصة القصيرة جدا «تكلم كي لا أموت» كعتبة أولى للنص، مستحضرا عناوين مماثلة للفيلسوف سقراط مثلا عندما قال «تكلم كي أعرفك» أو «تكلم كي أراك» ومشيرا إلى أن حسن البقالي، وعلى غرار سقراط، دعا القارئ في قصة «احتياط ضروري» إلى ضرورة أن يرتدي قناعا يمنع تسرب رائحة الموت، وأن يلبس قفازتين لتلافي ترييق أصبعه عند كل صفحة من الكتاب، وليدخل صفحات الموت مطمئنا.)في إشارة إلى ما كان عليه الوضع خلال كوفيد(.
واستطرد أن غلاف الكتاب هو عبارة عن غراب أسود واقف على غصن شجرة، يوحي أيضا بمتن المجموعة، لعلاقة الغراب المترسخة في المخيال الشعبي بالموت، وقصة هابيل وقابيل ودور الغراب في تعليم الإنسان عملية الدفن.
وتناول كنقطة ثانية، “الأدب الوجيز” أو القصة القصيرة جدا كجنس تعبيري أطر فيه القاص حسن البقالي أضمومته، بما هو تجويع النص حد تمويته، غير أنه في الآن ذاته، دعوة لمزيد من الكلام خشية الموت، تكلم أيها السارد كي لا أموت أنا القارئ، أو تكلم أنت أيها القارئ كي لا أموت أنا السارد، أو الأرجح أن السارد كان يقول “تكلم أيها النص الحاضر كي لا نموت معا”، ساردا وقارئا في النص الغائب.
وقدر أن هذا الموقف نبت سرا في المنجز القصصي للقاص حسن البقالي حتى أينع في “تكلم كي لا أموت” منذ نصه القديم “قتل القط”، أو منذ قتل النص أواسط الثمانينات؛ “كانت قصة رائعة في مقروئي آنذاك.. والسارد فيها إنما كان يطمح لقتل القط كما ورد في النص المتداول شفهيا، المنتشر شعبيا للكشف عن فحولة لا تصمد أمام متغيرات المعيش، فحولة تقتلها آلة الوقت، أو لعله تناطح النصوص في صراعها للبقاء”، مستطردا أن الكاتب أعلن في تصدير لم نألفه في كتاب القصص، أنه “من الأجدر أن تكون مجرد استراحة محارب قصيرة وعابرة بين جولتين” لعلهما القصة القصيرة والرواية.
وبخصوص النقطة الثالثة، فقد اعتبر المحاضر أنه تماما كما “جاء في النص المؤسس “قتل القط” هناك صراع النصين، لكن هذه المرة ليس بين نصين حاضرين معا، بل نص غائب مضمر في ثنايا النص الحاضر، ونص يقاوم كي يثبت ذاته على ركام النص السابق، إنه الرغبة العارمة في قتل النص السابق لما يحمله من ما لم يعد يساير تفاصيل اليومي مما استجد من رغبات تجعل القيم القديمة تتهاوى أمام المستحدث اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا”.
ومن جهة أخرى تناول المحاضر أسلوب الحكي، إذ اعتبره “ليس حكيا خطيا ولا لولبيا ولا متشعبا، بل هو حكي متعرج، شبيه بسير السلحفاة أو شكل الدماغ البشري: وكأنه في تعرجه مخاتلة الموت، سردية الاحتضار، ليحصل الحكي بالانفجار حين حصول الموت )تكسير أفق الانتظار”( مشيرا إلى أنه “هنا بالضبط اشتغال القصة القصيرة جدا، حيث تحصل الدهشة من خلال عدد محدود من الجمل .. تكثيف الموت .. وعلى القارئ أن يعيد تركيب الجمل )لعبة البازل ( للحصول على المعنى في الحكي المتعرج كما لو أن الموت لا يمكن حكيها إلا مخاتلة .. على عكس حكي الحياة”.
وخلص قائلا: “لا تقرأوا “تكلم كي لا أموت” بنية وصول الرسالة )المقصدية( بسهولة، لأن التواصل فيه لا يمر عبر مدلول اللغة، بل عن طريق شراسة وقسوة التلفظ، الكلمة فيه لا تبلغ، بل ترج وتخلخل.. ولكنها، وهنا المفارقة، في الأضمومة رج وتخلخل ناعم، بأسلوب جميل، شاعري، من باب مكر الذاكرة الأسلوبية البيانية، فهل يحاول بهذا السارد سدى أن يقزم الموت أو يجمله أحيانا”.
وقد مر هذا اللقاء في أجواء فنية راقية عزف خلالها الفنان المغربي رشيد الشناني أغاني متميزة، منها ما كتبها بنفسه ومنها ما لحنه لشعراء آخرين. ويعتبر الفنان الشناني من الفنانين القلائل في المغرب، بل لعله الوحيد، الذي يملك فنا راقيا غير أنه معرض لتهميش كبير. وهو يلحن لشعراء مغاربة وعرب مرموقين من بينهم على سبيل المثال لا الحصر محمود درويش ومحمد بنيس والمجاطي وعبد الهادي السعيد وفتيحة مرشيد … فضلا عن أزجاله وشعره الفصيح.
وكانت ليلى الشافعي مؤسسة صالون ليلى للفكر والإبداع قد قدمت صالونها بعد الترحيب بمن حضر سواء منهم الذين قطعوا مسافة قصيرة أو طويلة من أجل حضور هذا العرس الثقافي، قائلة إن الصالون انطلق في شتنبر 2020، بتنظيم قراءة في باكورة المهندس في اتصالات المغرب رواية “هندسة العبث” لعلال الراضي، تلاه تنظيم لقاء شعري بمناسبة اليوم العالمي للشعر، وكان بجميع اللغات المتداولة في المجال، أي العربية الفصحى والأمازيغية والعامية والفرنسية، مع غناء في الجاز الأمازيغي للمغنية الأمازيغية مريم عصيد.
وأضافت أن اللقاء الثالث كان حول الزجل المغربي في شخص رائد الزجل أحمد لمسيح ورئيس بيت الشعر مراد القادري وحضور الناقدين عبد الدين حمروش وعبد الإله الرابحي وعزف وغناء الفنان رشيد برومي تلاه لقاء بشراكة مع جمعية التراث الأصيل كان أيضا حول الشعر المكتوب بالعربية سواء منها الفصحى أو العامية، فضلا عن لقاء سجل عبر تقنية أونلاين، وكان يجمع بين أنماط الشعر الفصيح من قصيدة عمودية وقصيدة النثر وبين الزجل الساخر لبوعزة الصنعاوي، كما أنه كان يجمع بين مغاربة وعرب خاصة من السعودية وسوريا، كما كان هناك عزف وأغان جميلة غناها كل من عبد اللطيف نية وأمل عبد القادر تلاه هذا اللقاء الذي يتصل بقراءة في المنجز القصصي للقاص والروائي حسن البقالي، الذي انطلق في الكتابة منذ بداية التسعينات بنشر مجموعته القصصية الأولى ضمن منشورات اتحاد كتاب المغرب والتي أحرزت جائزة اتحادكتاب المغرب للأدباء الشباب، ومنذ ذلك الوقت وهو ينشر مجاميعه القصصية سواء في مجال القصة القصيرة أو في مجال القصة القصيرة جدا كما أنه ألف رواية موسومة ب”ماء الأعماق”.
أما الروائي والناقد عبد الإله الرابحي فقد اشتهر بروايته الأخيرة “الرقيم الأخير” الحاصلة على جائزة المغرب للكتاب، وله فضلا عن ذلك إصدارات أخرى عديدة.
ومن جهته ألقى كلمة مجموعة شاي وكتاب القاص محمد ياسين أحد الأعضاء المؤسسين للمجموعة، حيث أعلن أن “شاي وكتاب” كانت مجرد فكرة طرحت بين مجموعة من الزميلات والزملاء الكتاب والقراء، وذلك لتكسير حواجز الرسميات في مختلف اللقاءات القرائية، وهو طرح يترك مجالا من المرونة والحرية في التنظيم ويعطي نكهة الشاي لكل لقاء.
وأضاف أن أول لقاء انتظم لهذه المجموعة كان بالمقهى الثقافي “كازانوفا” بتمارة، وذلك من خلال تقديم قراءة في أعمال الكاتبة مريم أبوري، حضره مجموعة من الفاعلين والقراء والكتاب، كما نظم ثاني لقاء بمدينة سلا، وببيت كان عبارة عن تحفة ومرسم للفنان التشكيلي الأستاذ اليحياوي، وثالث لقاء كان بمكتبة الألفية الثالثة بالرباط حيث تم تناول أعمال الكاتبة المغربية مليكة رتنان وعلاقتها بالتاريخ الدقيق لمجريات الأحداث في حقب متميزة من تاريخ المغرب.
بعد انتهاء اللقاء، نظمت بنفس الغابة، سهرة فنية تخللها عزف وغناء من رشيد الشناني مع قراءات في القصة القصيرة والشعر، واكتمل البرنامج برحلة تمت في اليوم الموالي لضواحي بنسليمان، حيث زار الحاضرون ما يسمى ب”صخرة النمرة” التي تشكل آخر نمرة كانت في ضواحي بنسليمان، ثم توجه الجميع إلى حديقة المدينة ليتأملوا وجه النمرة الذي نحته أحد أبناء المدينة، بعدها ذهبوا إلى عين الدخلة، للاطلاع على المناظر الطبيعية الخلابة.
«احتضار النص» عنوان يشرّح متن «تكلم كي لا أموت» لحسن البقالي

الكاتب : ليلى الشافعي
بتاريخ : 20/05/2025