احتفاء بديوانه «جاؤوا لنقص في السماء» عبد الحميد جماهري يعلن الحرب على الحرب

نحن نتاج عملية انتحار فاشلة

هل كانت السماء باهتة إلى حد أن ما من دليل لاستعادة زرقتها وصفائها إلا عبر العبور من باب المأساة؟
«جاؤوا لنقص في السماء» أم جاء بهم الشاعر عبد الحميد جماهري ليعري جسد هذه الحرب التي تُخاض اليوم بأشكال وأدوات جديدة، وتفتح النار من فوهات السماء؟.
ربما هي دعوة من وسط الضباب والأدخنة، وعلى وقع أحذية الجنود لكل الشعراء لإعادة تركيب أطراف العالم في جسد سائل يتحسس أعضاءه كل دقيقة من كثرة الضربات.

الحياة جميلة
يا صاحبي

لم يخف الشاعر والمترجم سعيد عاهد وهو يحاور الشاعر عبد الحميد جماهري، احتفاء بديوانه الأخير «جاؤوا لنقص في السماء»، يوم الجمعة 7 يناير الجاري بنادي التنس بالمحمدية، لم يخف أن للشاعر إقامات متعددة. فعبد الحميد جماهري ينسلخ بين الإشراقة والأخرى من ثقل وضغط السياسي والإعلامي والتدبيري، مرتحلا إلى إقامته الموازية أو قارته الشعرية التي تمنحه حياة موازية ومعنى مضاعفا بإنسانيته.
عاهد توقف عند عتبة الديوان «جاؤوا لنقص في السماء» الصادر عن منشورات «ملتقى الطرق» ، والذي هو ديوانه الرابع بعد «مهن الوهم و»بنصف المعنى فقط»، و’نثريات الغريب»، مشيرا الى أن الديوان تتجاذبه تيمتان رئيستان: التراجيديا والانحدار صوب الهاوية باعتبارهما شرطين ملازمين للكائن البشري، فهما تخترقان جميع القصائد، تارة بنفس ملحمي وأحيانا بنفس مكثف يتراوح بين الإسهاب مع حرص شديد على الاقتصاد في اللغة، وبين الاقتضاب الشذري المولّد للومضة.
وإذا كانت عناوين الديوان: «في انتظار الحرب، جاؤوا لنقص في السماء، اجلسي بقربي أيتها القسوة، سيرة عائلية لآدم، تعريفات الظل»، تختلف معجميا ودلاليا، فإن ظلال الأسود والأبيض توحدها، في تناوب يتمدد فيه الأبيض لينكمش الأسود، ويرخي الأسود سدوله ليغطي على ما عداه، وقد يتآخيان أحيانا في نفس القصيدة في مزيج من الحزن المَرِح.
لكن العتمة ودرجاتها، يقول عاهد، تنتصر كميا وإجماليا على أشعة النور المنبعثة من نوافذ الديوان الذي تلزم شاعرَه هاوية «ليسقط في سرير الفاليوم» ص 82 من الديوان.

إعادة تدوير أشلاء الحرب

كل قارئ للديوان لابد أن يدخل عبر عتبته، لهذا فإن اختيار عنوان «جاؤوا لنقص في السماء» لم تمله أية اعتبارات جمالية أو مجازية بقدر ما رام التأسيس لمحاورة بين الشاعر والعالم من زاوية ما عشناه من خلال تراجيديتين متقاربتين 11 شتنبر 2001 و16 ماي 2003: تراجيديتان حاول الشاعر عبد الحميد جماهري محو المسافة بينهما جغرافيا وتاريخيا ، معبرا عن وعيه، شعريا، بهذه التراجيديا العالمية التي اسمها الحرب باسم الدين، يقودها جزء من البشرية يعتقد، بغير قليل من الغرور، بأنه لابد أن يكون على دراية بخطط الله في تدبير البشرية، وأنه منذور دون غيره ليرتق نوايا الله في هذا التدبير، وأن السماء ناقصة وتحتاج إلى أن تكتمل على يديه.
إن التراكم الذي حصل في تأويل الحدثين والأدبيات والمقاربات التي تناولته، تدفع إلى التساؤل عن قراءة الشاعر ومساءلته لهذه التراجيديا، وهو ما حاول الشاعر عبد الحميد جماهري طرحه في هذا «البيان الشعري»، متكئا على ما اختزنته الذاكرة من نصوص دينية وأسطورية في مساءلة ما حدث، مغترفا مما تربى في غرف الخيال من أساطير ومحكيات الجدة، أو الموروث الديني عن الأب.. في ما يمكن وصفه بالاحتماء بــ»الذي كان» ولايزال يحتفظ بحرارته مادام غير منتم إلى هذا العالم الذي نعيشه، هو احتماء من أجل الإعلان عن موقف شعري مما يحصل. ولهذا فالعمل والعنوان، يسبقٌه، متفرعان عن تجربة شخصية جوانية ربما فيها رؤية معينة للعالم، لكنها تحمل في طياتها تشعبا فرعيا وذاتيا للتعبير عن الوعي بالأحداث، شعريا وجماليا.
إن الشاعر وهو يقرأ سيرة هذا العالم غير العطِرة، ينذر نفسه لحمايته وحماية أسباب الجمال فيه، فهل حقا باستطاعته القيام بهذه المهمة الثورية؟
يقول جماهري إن الشعراء طالما اعتقدوا، بنوع من الأنانية وبكثير من اليقين، أن الأرض إرث شخصي لهم، وأن الإقامة في العالم لا يمكن أن تكون إلا لغة وشعرا. وعلى هذا الأساس، اعتبروا أن وظيفتهم الأسمى هي إعادة تركيب الحياة والعالم بالشكل الذي يمنحنهم طمأنينة لا تتحقق حتى من داخل الشعر، وهو ما يطرح سؤال نوع العلاقة التي يريد الشاعر ربطها مع العالم بعد عقود من الصدام والاشتباك لم تَخْلُ من تجاذب السياسة والإيديولوجيا، معبرا في نفس الوقت عن أن هذه العلاقة قد تنحو في النهاية نحو الهدوء.

جذورنا التي في السماء

لا يخفي جماهري أنه في كل قصائد الديوان يقيم حوارا مع النصوص الدينية والصور: آدم وحواء قابيل وهابيل، يوسف… في مساءلة مستمرة لهذه النصوص التي عشنا فيها ما يكفي، وعلينا أن نخرج منها لنرى كيف تقدم القصة الدينية (آدم وحواء مثلا) كقراءة وحيدة ومطمئنة دون استحضار تمثلها اليوم من الآخر خصوصا إبداعيا، والتي صورها جماهري بـ «محاولة انتحار فاشلة» دشنت لبداية مأساتنا البشرية.
إن الشاعر في هذه المحاورة مع القَصَص الديني يحمل نظرة إلى السماء، نظرة تستحضر جذورنا التي في السماء، جذورنا الإنسانية والأسطورية والدينية وتحملها إلى الكتابة، عبر محاورة قلقة مع نوع من الاطمئنان الديني والعقدي ليس بالشكل الذي ورثناه، بل مساءلة مستمرة وإشعار للكائن البشري بأنه هو أيضا ناقص سماء وأرض وكينونة وعليه مواصلة استكمالها، حتى وهو محاط بالحروب، الحقيقية منها والوهمية.
اللقاء كان فرصة للسفر إلى قارة لا تقل قلقا عما نعيشه اليوم من ترقب وخوف، إذ حلق جماهري بالجمهور الذي حضر اللقاء في سمائه التي لا تشبه السماء، سماء قلقة قلق الشاعر المسكون بأسئلة الوجود واللايقين ( قصيدة ضع حصاة في فمك وتذوق البحر كله)، عائدا إلى سيرة آبائه الأولين( قصيدة أين كانت الأرض تربي هذا الضباب يا أبي؟) وأرواح أصدقائه الخُلّص ( المجهول صديقك في الحياة: إلى روح الشاعر عبد الحميد بن داوود).
«جاؤوا لنقص في السماء» ديوان بمثابة إعلان حرب على الحرب، يخوضها جماهري بصدر عار وبطلقات شعرية تصدرها عين قناص لا تخطئ الطريدة التي قد تكون ظبية شاردة أو خرابا.

 


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 11/01/2022