الوعي التاريخي المجتمعي السياسي للمغرب أهَّله لكي يأخذ بالتفاصيل في الآليات والأساليب دون أن يفرط في الثوابت، فالدين قائم على أمور جوهرية تدور حول العدل وعندما يضيع الجوهري في المظاهر النسبية، تظهر المخاطر على الدين و على الحياة
من أقوى اللحظات الأولى للعهد الجديد،في نهاية تسعينيات القرن الماضي،لحظة البيعة الجماعيةللأمة،والتي كانت بيعة مكتوبة في حضرة جلالته،ما هو في نظرك المغزى الذي يكتسيه هذا الفعل،البيعة وتدوينها كتابيافي تاريخ الإمامة وفي تاريخ المغرب؟
تختص المملكة المغربية في مجموع العالم الإسلامي بالحفاظ على البيعة للملك الجديد باعتباره أميرا للمؤمنين قائما على شؤون الدنيا والدين. والبيعة كانت في المغرب على الدوام مكتوبة ومحتفى بها (وقد نشرت مديرية الوثائق الملكية عددا من صور بيعات الملوك يرجع تاريخ بعضها إلى أربعة قرون، بالإضافة إلى الإشارات التي وردت إليها في كتب التاريخ في ما يخص العهود السابقة منذ الأدارسة)، وهي عبارة عن إشهاد يحرره العدول ويوقع عليه القضاة وتكون باسم ممثلي الأمة الذين تحمل أسماءهم، من شرفاء وعلماء وشيوخ زوايا وأمناء الحرف وممثلي التجار وأعيان المدن وشيوخ القبائل ورؤساء العساكر. وكلمة «البيعة» مأخوذة من فعل «البيع»، فالبائع هي الأمة، والمبيع هي مشروعية الحكم، والمبيع له هو المبايع أي أمير المؤمنين، ومقابل البيع هو الالتزام بالكليات الشرعية الخمس التي يشار إليها في البيعة جملة أو تفصيلا، وهي حفظ الدين وحفظ النفس (الأمن على الحياة) وحفظ العقل (النظام العام بالعلم والعدل والعرف) وحفظ المال (أسباب المعيشة بما فيها الملكية والاستحقاق) وحفظ العرض، أي كرامة الناس. وهذه المبادئ لا تخرج عنها الدساتير الحديثة. فالبيعة تعاقد مكتوب بين المحكومين والحاكم، ومن عبقرية الأمة في المغرب أمران: أن المؤسسات الحديثة والبرامج السياسية تتلاقى مع مضمون البيعة، ومن العبقرية أيضا السلاسة التي مر بها تعبير الأعيان في الماضي إلى تعبير المنتخبين اليوم.
البيعة،بمفهومها الديني والسياسي في المغرب مقوم من مقومات السيادة الوطنية كما بينت ذلك فصول دفاع المغرب عن وجدته الترابية،في منتصف سبعينيات القرن الماضي،ولا سيما في مرافعته أمام محكمة البلد الدولية،كيف تعامل العهد الجديد مع هذا المعطى،وفقا لتطورات ملف وحدتنا الترابية؟
السر في ذلك هو اعتقاد المؤمنين أن البيعة من شروط الإيمان، ولذلك هب سكان الأقاليم التي كانت مستعمرة بتأكيد ما كان يجمع أجدادهم بملك البلاد من رباط البيعة، الأرض بأهلها، وفي هذا بعد أعمق للتعاقد، فالبيعة أي التعاون على الوجود السياسي الترابي قضية دينية.
كان لموقع الإمامة،من خلال إمارة المؤمنين دور جوهري وحاسم في تأطيرالجواب عن تحولات المجتمع المغربي الحديث،(قضية المدونة كنموذج) هل يمكن القول بأن إمارة المؤمنين لعبت دورا في تحصين الحداثة التي يستوجبها التطور المجتمعي في مغرب محمد السادس؟
الوعي التاريخي المجتمعي السياسي للمغرب أهَّله لكي يأخذ بالتفاصيل في الآليات والأساليب دون أن يفرط في الثوابت، فالدين قائم على أمور جوهرية تدور حول العدل، وعندما يضيع الجوهري في المظاهر النسبية تظهر المخاطر على الدين وعلى الحياة، فالحياء مثلا جوهري، لأنه مبني على احترام حرمة الآخر، وقد يكون من مظاهره شكل اللباس ولكن احترام حرمة الآخر مسألة ضمير لا تقوم مقامها المظاهر، لأنها ليست المقصود في ذاتها، وهناك جماهير من الشباب يعيشون في سلاسة عصرية في المظاهر قد لا تكون تقليدية ولكنهم سائرون على الاستقامة ويتشوفون إلى حياة روحانية، وربما نفروا من قيود لا تدخل في الجوهر. المهم في التطور هو أن يقع في الجوهر أي العدل والاستقامة، وما عدا ذلك فيدخل في الاستهلاك، والناس بحاجة إلى إمام على رأس الدولة يحسون بصدقه وبراءته.
كانت لحظة 16 ماي من اللحظات الأليمة في بداية العهد الجديد،وكان تدبيرها يتطلب توليفة ذكية تجمع بين الأمني والمجتمعي والديني.. وقد تميزت المعالجة الدينية بمقاربة شاملةمن خلال تجديد الحقل الديني وتأطيره،هل لكم السيد الوزيرأن تقدموا لنا الملامح الأساسية في التأطير الجديد؟
صادفت بدايات التدبير الجديد للشأن الديني واقعة 16 ماي 2004، ولكنها لم تكن المنطلق ولا الحافز ولا الموجه، ولم تأت في هذا الباب بشيء خاص، ذلك لأن التدبير المذكور استمد وما يزال يستمد من ثلاثة أمور: 1) ثوابت المغرب في الإمامة والعقيدة والمذهب والسلوك الروحي الأخلاقي 2) ضرورة تدخل الدولة في تلبية الحاجات الدينية كحاجات اجتماعية، 3) ضرورة التأطير الديني للمجتمع لمواجهة الفتنة لاسيما بسبب تأثيرات المحيط الخارجي. وفي كل جانب من هذه الجوانب وقعت تغييرات ساندها القانون الذي انتقل به التدبير المذكور من مستوى الأعراف إلى مستوى المبادرة العقلانية المتساوقة مع الثوابت.
يعرف الاشعاع الروحي للمملكة نموا بارزا واستعادة شمل القارات الخمس،ولا سميا منها القارة الأوربية والإفريقية،ما هي خلفيات هذا التوجه المغربي وماذا تحقق من ورائه،من حيث القوة الروحية لإمارة المؤمنين ومن وحيث الحضور الدولي للمغرب؟
هذا الدور بدوره امتداد تاريخي تعزز بما يقتضيه السياق، فالمغرب له علاقات روحية طبيعية بعدد من البلدان الإفريقية، وقد تجددت انطلاقا من الرأسمال الماضي وحافظت على طبيعتها في التبادل ولا رائحة فيها للحسابات مهما كانت، فعندما يأتي طلب من بلد إفريقي للانضمام إلى مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة فإن قبول هذا الطلب يقرر فيه أمير المؤمنين، وكذلك الشأن بالنسبة لطلب الاستفادة من التكوين على صعيد معهد محمد السادس للأئمة المرشدين والمرشدات. فمؤسسة العلماء موجودة في ثمانية وأربعين بلدا إفريقيا، والعلماء من البلدان الإفريقية هم الذين وضعوا ميثاق تسيير المؤسسة سواء في يتعلق بالثوابت المشتركة أو النشاط التربوي الموكول للعلماء، والجديد الذي تطلبه العصر وأبدعه أمير المؤمنين هو هذا التعزيز للعلاقات الدينية على مستوى العلماء بعد أن كانت قائمة على مستوى طرق التربية الصوفية، ذلك أن مواجهة المخاطر على الثوابت السلمية المشتركة تتطلب الحوار والمجادلة التي هي من اختصاص العلماء.
«مغرب القيم الرابطة بين الكوني والاسلامي المغربي»،قديكون هذا هو العنوان الذي نطلقه على العديد من الدروس والندوات والمواعيد الرمضانية التي شاركتم فيها الى جانب الآخرين،مما اعطى الشعور بأن امارة المؤمنين،تسعى أن تكون فاعلا حضاريا في الاجتهاد الديني وفي التدبر الفكري،من زاوية جديدة (نموذج الدرس الرمضاني لهذه السنة حول من يجدد للأمة دينها) تربط الثابت الروحي للأمة بالأفق الانساني الشامل؟
هذا العنوان مناسب إذا أدركنا ما لأمير المؤمنين من حرص على الاجتهاد وثقة بالعلماء كحراس للأمة، لا من جهة الوقاية من المنكر، وعلى رأسه الإرهاب، ولكن على الخصوص من جهة ما ينبغي أن يسود من المعروف حيث تلتقي ثقافتنا الدينية مع رصيد القيم الكونية، ونحن بهذا الصدد في منطلق إصلاح فريد يتوقف على تجديد عمل العلماء، وقد سموا هذا الإصلاح التربوي ب «تسديد التبليغ»، وهم يعرفون أن فرصة السياق، أي سياسة إمارة المؤمنين، تواتي هذا المشروع ولا يجوز تفويتها، وأول شروطها اليقين أي الأمن والاستقرار ثم إعطاء مشروعية العمل الميداني للعلماء وتأكيد الثقة بهم، ونجاح مشروعهم التخليقي سيكون ذا أبعاد عميقة في كل الميادين الإيجابية التي قد لا نتخيلها اليوم لأنها عديمة المثيل.
وما هي في نظركم أهم التحولات،التي طبعت المقاربة الروحية والدينية،في علاقتها مع دستور المملكة الجديد،الذي عمل على«دسترة» المجلس العلمي الأعلى لأول مرة في تاريخ الدساتير،في تزامن مع مايعرفه الحقل الروحي والقيمي من قضايا وتغيرات. (حضور الشريعة في التشريع والحياة،في معالجة سؤال الأسرة والحريات الخ)..
للعصر تأثيره في ما يتعلق بفهم الدين والنظر إلى دوره وعلاقته بالسياسة والمجتمع، فهناك تأثير الغرب وتاريخه وحاضره، وهنالك التاريخ الطويل لانحطاط المسلمين في تشتت مذهبي تعمقه وتركبه الجغرافية السياسية في وقتنا الحاضر، وقد ذكرنا أن ما جاء في الدستور من المبادئ الكبرى لا يخرج عن الكليات الشرعية التي تقوم عليها البيعة، إضافة إلى ما لا يوجد في الدساتير عادة وهو الدين باعتباره المصدر الوحيد لمعنى الحياة، أما تفاصيل البرامج السياسية فهي تدخل في باب المصالح التي هي المقصد الأساس للشريعة. فالمشترك الأساس بين الحياة منظورا إليها من جهة الدين وبين الحياة منظورا إليها من جهة السياسة قديما وحديثا هو العدل، وبهذا المعيار تمحي كل المماحكات بين تسييس الدين وفرض الدين على السياسة، علما بأن الإسلام دين واقعي يقرر أن الهداية نسبية بحكم إلهي وقيم الدين تدعو إلى مثالية وإلى سمو وارتفاع عن الخلود إلى الأرض، وفي هذا الباب قد يفيد بعض الحركات في أفقنا أن تتعظ بالنقد الذي وُجِّه لما كان يسمى بالمرض الطفيلي في اليسارية، إذ بدون فهم الطابع الواقعي للإسلام مع الدعوة إلى الكمال كاستثناء، سيظل التشويش قائما على الجمهور ولن يتكون لديه فكر سياسي ناضج يستمد الاستقامة من الدين ويقتنع في نفس الوقت أن الله يَزِع بالسلطان (إعمال القانون) ما لا يزع بالقرآن.
سؤال أخير:لو طلب منكم السيد الوزيرأن تحددواما هو أهم تحول طبع العهد الجديد فيالمجال الروحي،فماذا سيكون ؟
أقدر أن التحول في العهد الجديد في المجال الروحي يتمثل على الخصوص في ستة أمور هي:
التكفل المادي والاجتماعي بالقيمين الدينيين وتحسين مستواهم المهني؛
توسيع خريطة التأطير الديني بالعلماء؛
التأطير القانوني للشأن الديني، المساجد والقيمين الدينيين؛
التأكيد على مراعاة حياد المساجد إزاء التيارات السياسية؛
الإقناع الفعلي للتيارات السياسية الوطنية بجدوى تدبير ديني يخدم المصلحة العامة ويحد من التطرف؛
تزايد التعبير الخارجي عن وجود نموذج مغربي في تدبير الشأن الديني.
احمد التوفيق
وزير الأوقاف والشوون الإسلامية
كاتب و مؤرخ