في زمن تشهد فيه العديد من العملات الإفريقية انهيارات حادة وتقلّبات غير مسبوقة، يبرز «الدرهم المغربي» ك«استثناء اقتصادي لافت»، ليس فقط داخل حدود المملكة، بل في قلب غرب إفريقيا أيضًا، وفي شكل «انعكاس حقيقي» لدينامية اقتصادية مدروسة، تعكس اتساع دائرة النفوذ المغربي في إفريقيا جنوب الصحراء، ومتانة حضور الدرهم كعملة استقرار وثقة بين مكونات الجسد الإفريقي.
من الأنترنت إلى الميدان: الدرهم المغربي
في جيوب الأفارقة!
في ذكر المنصات الرقمية للتواصل، تحصد مقاطع الريلز القصيرة (حول المغرب) على آلاف المشاهدات على منصة «إنستغرام»، خاصة تلك التي تقدّم مشاهد حقيقية من يوميات الأسواق في كل من «السنغال» و»بنين»، والتي تظهر التجار والزبائن (على حد سواء) وهم يتعاملون بشكل اعتيادي بـ»الدرهم المغربي»، سواء في شراء الملابس أو المواد الغذائية أو تحويل الأموال…
هذه الظاهرة التي قد تبدو غريبة للوهلة الأولى، لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة مسار اقتصادي عميق بدأ منذ أكثر من عقد من الزمان، فيه رسّخ المغرب لوجوده الاقتصادي والتجاري في القارة السمراء، ما سمح لعملته الوطنية بالتسرّب تدريجياً إلى أنظمة التبادل الاقتصادي اليومي، ولتتحول من مجرد «عملة أجنبية» إلى «عملة ميدانية».
عصب اقتصادي واقعي..
عرفت العلاقات الاقتصادية بين» المغرب» ودول «غرب إفريقيا»، وعلى رأسها «السنغال» و»كوت ديفوار» و»مالي»، قفزات نوعية خلال السنوات الأخيرة.
في عام 2022 وحده، بلغ حجم التبادل التجاري بين المغرب والدول الإفريقية 65 مليار درهم، مقارنة بـ46 مليار درهم فقط في 2021، بحسب معطيات وزارة الصناعة والتجارة المغربية.
تستورد السنغال (مثلًا) من المغرب التجهيزات الطبية، الحاويات الصناعية، ومواد البناء، بينما تصدّر له «الفواكه» و»المواد الخام». وتشير أرقام (غير رسمية) إلى أن أكثر من 30% من التحويلات المالية بين الشركات المغربية ونظيراتها السنغالية تتم حاليًا بالدرهم، في ظل تذبذب قيمة «الفرنك الإفريقي».
ولا تقتصر هذه العلاقات على التجارة فقط، بل تشمل أيضا استثمارات مغربية ضخمة في غرب إفريقيا، بلغت 2.8 مليار دولار سنة 2024، منها مشاريع عمرانية كبرى، وحدات صناعية ومراكز اتصالات، تديرها مؤسسات مثل: «المكتب الشريف للفوسفاط» و»اتصالات المغرب» و»مجموعة الضحى» -تموّل بمعظمها بالدرهم المغربي – ما عزز من حضوره في المعاملات الرسمية.
البنوك المغربية:
عمود القوة النقدية في غرب القارة
من بين أبرز أدوات الانتشار الفعلي للدرهم في غرب إفريقيا: «التوسع البنكي المغربي». فالبنوك مثل: «التجاري وافا بنك» و»البنك الشعبي» و«Bank of Africa» أصبحت من اللاعبين الأساسيين في القطاع المصرفي لغرب القارة، حيث تتوفر على فروع في أكثر من 15 بلدًا، وتدير عمليات تمويل واستثمار محلية تتجاوز قيمتها مليارات الدراهم سنويًا.
هذه البنوك لا تكتفي بتقديم الخدمات الكلاسيكية، بل تسهل أيضًا إجراء التحويلات بالدرهم، وإصدار البطاقات البنكية المربوطة به، وإنشاء خطوط تمويل للشركات المحلية بالعملة المغربية. وهكذا، صار الدرهم المغربي جزءًا من الدورة المالية اليومية لملايين الأفارقة (خصوصًا في الدول الناطقة بالفرنسية) حيث يُنظر إليه كبديل «عملي» و»آمن» أمام «الفرنك الإفريقي» المتراجع.
استقرار الدرهم المغربي:
السر الكامن وراء الثقة!
يستمد «الدرهم المغربي» قوته من النظام النقدي الذي يعتمده «بنك المغرب»، والمبني على سلة عملات تشتمل «اليورو» (60%) و»الدولار الأمريكي» (40%)، ضمن نطاق تقلب لا يتجاوز ±5%.
تتيح هذه الصيغة «توازنا دقيقاً» بين ثبات العملة ودعم تنافسية الصادرات. بالإضافة إلى ذلك، يحتفظ المغرب باحتياطات نقدية أجنبية تفوق 42 مليار دولار، تكفي لتغطية أكثر من 7 أشهر من الواردات، ما يطمئن الأسواق ويعزز الثقة الإقليمية في العملة.
يُضاف إلى ما سبق، هذا التوجه المستقبلي نحو تعويم تدريجي للدرهم بحلول 2026، وفق ما صرح به والي بنك المغرب «عبد اللطيف الجواهري»، في خطوة تهدف إلى «تعزيز قدرة العملة على امتصاص الصدمات وتحقيق مرونة أكبر في التعاملات الدولية».
الدرهم في مواجهة «الإيكو»..
مع اقتراب موعد إطلاق عملة «الإيكو» المشتركة بين دول غرب إفريقيا، والتي يُفترض أن تحل محل «الفرنك الإفريقي»، يبرز الدرهم المغربي كمرشح فعلي للعب «دور تكاملي» أو مرحلي في هذه الانتقالة النقدية.
ففي ظل هشاشة بعض الاقتصادات الإفريقية، واعتمادها التاريخي على «فرنسا» ونظامها النقدي، يبحث الكثير من الفاعلين عن بدائل سيادية وعملات مستقرة تضمن لهم الاستقلالية والاستقرار المالي، وهنا يأتي دور «الدرهم المغربي» ليملئ هذا الفراغ تدريجيا.
الرهان الآن يتمثل في أن المغرب، من خلال ترسيخ استثماراته وتوسيع شبكته البنكية، لا يصدر فقط البضائع، بل يصدر الثقة والمصداقية المالية.
وكل معاملة يومية تتم بالدرهم في شوارع باماكو أو داكار، هي في الحقيقة تصويت ضمني على مكانة المغرب كقوة نقدية صاعدة في القارة الإفريقية.
عملة افريقية؟
لم يعد الدرهم المغربي مجرد «عملة وطنية»، بل تحول إلى واجهة «قوة اقتصادية ناعمة» للمملكة في القارة الإفريقية. مستندا إلى بنية مصرفية قوية، واستثمارات استراتيجية واحتياطات مستقرة، صار الدرهم يُتداول في الأسواق، البنوك، وحتى في الشوارع، تماما كما رأيناه في الريلات المنتشرة على «إنستاغرام».
يبدو مستقبل العملة المغربية أكثر إشراقا، خصوصا إذا ما تواصل الزخم الإفريقي، وتم دمج المغرب في المعادلة النقدية الإقليمية الجديدة بشكل استباقي.