« استوديو حمرية» للمسرحي والروائي بوسلهام الضعيف

الصورة أداة لمقاومة النسيان

 

أصدر الأديب المسرحي والروائي المغربي «بوسلهام الضعيف» في الآونة الأخيرة، عن دار النشر والتوزيع « أكورا»، رواية تحمل عنوان « استوديو حمرية « ويعتبر هذا العمل الروائي تجربته الأولى التي يخوضها في عالم الرواية، بعد تجارب وممارسة طويلة للعمل المسرحي بالمغرب.
بهذه الرواية يدخل بوسلهام الضعيف غمار الكتابة الروائية، ليقدم من خلالها وعبرها عالم وأحداث « استوديو حمرية «.
العنوان الذي يحيل على محل خاص بالتصوير الفوتوغرافي، كما يحيل في الجزء الثاني منه، على موقع المحل في الحي الجديد، الذي تطلق عليه ساكنة مدينة مكناس اسم «حمرية»، ويتعلق الأمر بالمدينة الجديدة في مكناس، وهو الحي الذي بناه المستعمر الفرنسي إبان احتلاله للمغرب ليجعل منه حيا إداريا وسكنيا للجالية الفرنسية ولبعض أفراد البورجوازية المغربية الذين كانوا في خدمة المستعمر الفرنسي، وجعلوا بناء الحي الجديد يقوم على ربوة تشرف على باقي أحياء المدينة القديمة. ورغم أن الرواية تتناول بالحديث أماكن وفضاءات أخرى عديدة ( فاس. سلا. طنجة. مالغة بإسبانيا )، وتذكر أخرى بطريقة عابرة ( خنيفرة.الريش. أزرو .الحاجب) إلا أن فضاءات وأمكنة مدينة مكناس تستحوذ على الحيز الكبير في الرواية، وتشكل بؤرة الحديث في المتن الروائي.
تحضر مدينة مكناس في الرواية، كذاكرة وحاضرة تنتمي لزمن قديم في التاريخ ، تحاول فيها الصورة، أن توثق معالمها وشخوصها لتبقى حية في الذاكرة، و محفوظة بكل مايلزم من إصرار من التلف والطمس. وأكثر من هذا تحاول الرواية بالصورة أن تقبض على كل ملامح وآثار الجمال في المدينة، وتقوم بتخزينها لتشهد على تاريخ المدينة العتيق والتليد. وبالصورة كذلك يتم الحفاظ على معالم جمالها وآثارها في وجه القبح والتفسخ اللذين تتعرض لهما إثر الهجمة الشرسة التي يقودها نموذج بشري ملتح، يغرق المدينة بالأكشاك الهاتفية بعد أن يكون قد هدم أثرا أو بناء جميلا كان قائما وموجودا يشهد على تاريخ المدينة وجمالية معمارها، ويبني عوضه صناديق إسمنتية تخلو من الذوق ومن الحس الجمالي.
تحتفي الرواية وتشيد كثيرا بمقام الصورة وأهميتها الفنية والتاريخية، باعتبارها وثيقة تحتفظ وتحافظ على مانريد له البقاء والديمومة، وعلى ما نريد أن يكون شاهدا على أثر كان حاضرا وباديا للعيان في زمن معين. هي الوثيقة التي نحافظ عليها بعدما نقوم بتصوير وتوثيق معالم تاريخية تتعرض للمسخ ولمحو الجمال فيها.
إن رواية أستوديو حمرية في العمق، صرخة لإيقاف زحف القبح الذي يفترس المدينة ويطمس معالم عمرانها الجميلة بقوة المال، ولهفة الربح والكسب دون اعتبار لما يمكن أن يحدثه ذلك من تدمير ومحو لكل الآثار التي تشهد على عتاقتها وقدمها، وعلى ما تزخر به من معالم حضارية ضاربة في أعماق التاريخ.
في رواية «استوديو حمرية « التي تحتفي بالصورة كشاهدة وكذاكرة توثق وتحتفظ بما تختزنه مدينة مكناس، ليبقى للذكرى وللتاريخ، نجد أنفسنا خلال القراءة وكأننا نمشي وراء « سالم عبد الجليل» الشخصية المحورية في الرواية والسارد لأحداثها. نمشي وراءه ونتتبع خطاه وهو يقوم بتصوير أماكن وفضاءات مختلفة من المدينة. دروب وأحياء تحضر بأسمائها المعروفة بها. فضاءات تقتنصها عين السارد التي هي بمثابة آلة تصوير أخرى، في النهار وفي الليل. عين ترى وتحكي عن أيام مدينة مكناس بشخوصها ووجوهها المعروفة، بنهاراتها وبلياليها في حانات ومطاعم الفنادق، وفي «حفرة» محلات الرقص والسهر ، حيث يمتد زمن الشرب والتدخين والغناء والرقص إلى حدود الفجر .فضاءات تحضر فيها شخوص أتى بعضها من هامش المدينة، من القرى والمدن الصغيرة التي تجاور مدينة مكناس. هي شخوص جاءت من الهامش لتجد نفسها تعيش على هامش الحياة في مدينة تدخل زمنا جديدا يتسم بالخواء والفراغ والتفاهة، رغم مايبدو على هذا الزمن من وفرة الإمكانات المادية، لكن تغيب عنه قيم الجمال، وماتعنيه المحافظة على ذاكرة المدينة كقيمة تاريخية وحضارية.
في الرواية لاشيء ينتهي إلى الظهور والتحقق على أرض الواقع، وتثبيت الوجود والحضور. كل شيء فيها ينتهي إلى التلاشي والعدم. مثل الأفكار التي تروم البناء من جديد والتقدم، والمشاريع التي يحلم أصحابها بتحقيقها في الواقع.
كل ماهو جميل ينتهي به الأمر إلى الموت في المدينة، ولا يتحقق منه شيء. الذي يحيا ويكبر ويتغول هي الأكشاك الهاتفية وصاحبها « الحاج الهيلالي»، الذي لايتورع عن هدم عمارة قديمة في الوجود بمعالم عمرانية جميلة لتعويضها ببناية إسمنتية بلا معالم وبلا رونق وجمال.
مع استمرار أحداث الرواية كنا ننتظر نتائج البحث العلمي للأستاذة الجامعية في علم الإجتماع الذي قررت إجراءه بمساعدة صديقها سالم حول موضوع يتعلق بحياة الطلبة الجامعية، كما كنا ننتظر أيضا معرفة ماهية المشروع الذي أعلن « الفاكس»، أن سالم قد أخبره بالتفكير فيه، بعدما قرر أن يغلق استوديو التصوير. الإغلاق الذي أسعد الحاج الهيلالي لأنه كان ينتظر فرصة الانقضاض على محل التصوير وشرائه لتحويله إلى كشك جديد.
وبهذا نكون ننتقل من زمن استوديو يقوم بتصوير وحفظ معالم المدينة، وحياة الشخوص الذين يعيشون فيها، لتبقى حاضرة في الذاكرة التاريخية، إلى زمن فضاء يتم فيه الكلام الكثير والذي لاينقطع، عبر الهاتف الثابت في مكانه، مع بيع صفحات الكلمات المتقاطعة والمسهمة.
تموت الأستاذة الجامعية موتا ملغزا تاركة نتائج بحثها العلمي معلقة وغير معروفة لدى قارئ الرواية، وهي الأستاذة الجامعية المتمردة، الجريئة والتي في حياتها كانت، تتحدى الأعراف والتقاليد المجتمعية البالية وتتجاوزها لتبني لنفسها حياة تعيشها كما تريد هي. وتموت مريم الرسامة المبدعة موتا غامضا في مدينة « مالقة « الإسبانية حين سافرت إليها للإستطلاع والتعرف على معالمها التاريخية وأماكنها. موت سيخلف ندما وغصة في نفس سالم لأنه لم يلب رغبتها حين دعته لمرافقتها خلال السفر. إضافة إلى معرض الصور الذي كان سالم ينوي إقامته للتعريف بمآثر المدينة التاريخية وبرموزها، والذي لم يتم تنفيذه.
كل الأشياء والأفكار الجميلة في الرواية تنتهي بالموت وبالغياب أو بالغموض وعدم التحقق في الواقع. الأشياء الجميلة والأشخاص الجميلون ينتهون إلى مصائر العدم والغياب غير الواضح. بينما تكتسح المدينة كل أشكال القبح والمسخ والتفسخ وتستمر فيها شخوص تشبه نموذج الحاج الهيلالي وسفيان منفصم الشخصية الذي يقضي أيامه في كتابة الرسائل للممثلة العالمية في أستراليا « نيكول كيدمان»، محدثا إياها بحميمية وكأنها حاضرة بقربه وتشاركه تفاصيل حياته، وكل مايعيشه ويراه في المدينة. إنه زمن المدينة الآخر
زمن يستأسد فيه القبح، ويجعلها تسير نحو المصير المبهم. وهو زمن أيضا تحاول فيه الصورة أن تقاوم للبقاء والإستمرار أمام هجمة وسائط حديثة للاتصال، وتقاوم كذلك بالحفاظ على المعالم الحضارية والتاريخية التي تزخر بها المدينة، لأنه المخزون الجمالي الذي يعتبر إرثا جماعيا وذاكرة تاريخية ينبغي أن تبقى خالدة في عقول الأجيال المتعاقبة.
الصورة شهادة على تاريخ مرحلة، وعلى حضارة أسسها الإنسان في زمن وفي مكان معينين. الصورة شهادة على مدى رقي ووعي الإنسان في حياته التي عاشها خلال حقبة من حقب التاريخ. إنها تعكس الحياة بتفاصيلها كما عاشها أصحابها وتوثقها.
«الصورة حياة»، كما تذكر الرواية في إحدى صفحاتها، الحياة التي يجب ألا تموت أو يعلو وجهها القبح والمسخ. الصورة ذاكرة يجب أن تبقى ناصعة وحية، وتستمر في زمن طوفان وسائط التواصل الإجتماعي التي جلبت معها عادات جديدة، ورؤية أخرى للحياة يغلب عليها الطابع المادي، والربح دون الاهتمام بالمحافظة على الأشياء الجميلة والمشرقة فيها.
« سالم مهووس بالصور، وربما في محله قد نجد صورا نادرة للمدينة وشخوصها، لم يكن يهتم بالصورة فقط، وإنما بالمعاني التي تتركها الصور في حياتنا « الرواية ص 25.
وكما سبقت الإشارة إلى ذلك في مقدمة هذا المقال بأن «استوديو حمرية « هي التجربة الروائية الأولى للكاتب بوسلهام الضعيف، تجربة إبداعية بفكرة نبيلة في عمقها، تحتفي بدور الصورة بمختلف أشكالها في توثيق لحظات ومعالم مهمة في الحياة، لتحافظ على الذاكرة التاريخية لتبقى شاهدة على حضارة الإنسان. كما أن الرواية محاولة للفت الانتباه والإشارة إلى ماتتعرض له مدينة تاريخية في مقام مكناس من انتكاسة في معالمها التاريخية والعمرانية، وماتعيشه من تهميش وتقهقهر اجتماعيين. ومن تحولات تذهب كلها في اتجاه فقدان معالمها ومآثرها الجميلة..
رواية في انتظار أخريات تأتي وهي أكثر نضجا من حيث بناء عوالمها التخييلية والشخصيات الواردة فيها.


الكاتب : إدريس أنفراص

  

بتاريخ : 11/02/2022