اعتُقل وأُحرقت كتبه وعاش منفيا .. جورجي أمادو «بيليه الرواية» البرازيلية

 

في الوقت الذي كان فيه الكاتب البرازيلي جورجي أمادو يواصل التنقل من سجن إلي آخر، كانت رواياته تعلن تحديها للسلطة التي راحت تطارده بالضراوة نفسها التي كانت تلاحق بها كتبه. غير أنه في نهاية الأمر، بات أمادو خالدا في سجل تاريخ بلاده والعالم أيضا، في حين وارى هذا التاريخ سير الطغاة، حتى اختفت في النهاية في عمق مغارة النسيان.

ظل جورجي أمادو رمزا لبلاده منذ شيوع كتاباته، وكان يتساوى في ذلك مع لاعب كرة القدم الأشهر بيليه، لأن شخصية أمادو لم تكن في أي وقت عادي، وعلى الأخص منذ أن قرر سلوك نهج الواقعية في الأدب، الأمر الذي دفعه للتحلي بالجرأة والصدق في معالجة الأوضاع الاجتماعية، التي كانت تئِنّ منها الطبقات الفقيرة في البرازيل.
وفي روايته «المحصول الأحمر» مثلا، يتناول في الجزء الأول منها دروب الجوع ومعاناة جميع الفلاحين المطرودين من أراضي الإقطاعي الذي يمتلك كل شيء، والذي يتخلى عنهم وقت أن ساد الجفاف، مسلما إياهم للمصير المجهول، الذي كان ينتظرهم في أرض وعرة لا ماء فيها ولا زرع، حتى يكونوا عرضة للموت بأنياب الأفاعي والجوع.
دائما ما أكد جورج أمادو على التصاقه بالشعب الذي ينتمي إليه، بصفته مواطنا من ولاية باهيا، تلك الولاية التي كانت موطئا للفقر والتخلف في شمال البرازيل، وكان أبوه رجلا عاديا يسعى لتأمين القوت لأولاده بشقّ الأنفس. في حين كانت أمه من أصول هندية، وبسبب هذه الجذور لم يكن أمادو أبيض كاملا، فهو لا يخلو من التهجين، كأي خلاسي في البرازيل. وكان أثر ذلك واضحا في كل مؤلفاته.
بدأ أمادو كتابة الرواية عام 1931، وعقب ذلك، لم يتوقف عن الخوض في تفاصيل الحياة البرازيلية، بغنائيتها وخصوبتها الهائلة، ليحوّلها إبداعا روائيا. الأمر الذي استقبله العالم في حفاوة منذ البداية، حتى بلغت مبيعات كتبه ما يزيد على 20 مليون نسخة في العالم.
أجاد أمادو المزج بين النقد الاجتماعي والغنائية الفولكلورية، مانحا كتابته لغة غنية ومتشعبة العواطف. كما استطاع نقل سحر البرازيل بمكوناتها العرقية، وهو سحر يختلف عن ذلك الذي ارتبط بنظيره في الكتابة الروائية الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز بعوالمه الغامضة التي ترتبط بمناخات مختلفة. ولكن أمادو كان متعدد الموهبة، إذ كتب في المسرح والقصة أيضا.

حكايته مع عن نوبل

ظل أمادو حتى موعد رحيله مرشحا دائما لجائزة نوبل، لكنه لم يكف عن ترديد تلك العبارة التي ظل يقولها مع كل موعد يتحدد للإعلان عن الفائز بها: «أنا لن أكون سعيدا إذا فزت بها»، كان يتمنى ألا تصل إليه نوبل، في حين لم يفعل ذلك مع الجوائز العالمية العديدة، التي كان من بينها جائزة ستالين للسلام، وجائرة لويس دي كاموس البرتغالية الرفيعة عام 1995، وجائزة سينو ديل دوكا عام 1998، وجائزة بابلو نيرودا (موسكو 1994)، أو حتى عند نيله عام 1983 عضوية فيلق الشرف الفرنسي.
وكان أمادو قد كتب ما يزيد على 25 رواية طويلة، وكتابين للذكريات، وسيرة ذاتية لكل من الشاعر كاسترو إلفيس، وصديق كفاحه لنصرة الشيوعية لويس كارلوس بريستس، في حين بدأ تمرده يتبلور منذ روايته الأولى «بلاد الكرنفال» ضد ما هو سائد في المجتمع، ونضج مع روايته الثانية «كاكاو» التي تم توزيع 120 ألف نسخة من طبعتها الأولى.
وفي سيرته يحدد جورجي أمادو مرات اعتقاله، ويؤكد أن عددها يبلغ 12 مرة، وخلال المطاردات التي تقصدته، تم إحراق عدد من كتبه، كما تم منع ما لم يكن قد أحرق منها، بسبب التحاقه بالحزب الشيوعي. وقد ظل على هذه الحال، حتى قرر هو اتخاذ المبادرة، ونفى نفسه إلى الأرجنتين، قبل أن يقرر العودة بعد ذلك بـ3 سنوات. وفي هذا الصدد، يقول في واحدة من الحوارات التي أجريت معه:
«لقد ناضلت من أجل القضايا العادلة، قاومت الأفكار الجاهزة، وتجرأت على ممارسات مرفوضة، وجبت السبل المحظورة، كنت الضد، وكنت اللا، أهدرت نفسي، بكيت، وضحكت، تألمت، وأحببت، وتسلّيت».
واقع وأسطورة
وإذا كانت روايات أمادو قد عكست واقع الحياة في البرازيل، فإنها أيضا قد صورت حياته وحياة من حوله، وشكلت جزءا من تجربته الذاتية، بعد أن اختار الأبطال في رواياته من بين معارفه وأقربائه والناس من حوله، وكلها شخصيات أسطورية عاشت في واقع خرافي، وإن كان حقيقيا جدا. وعلى وجه خاص، كان من بين هؤلاء عمه ألفارو أمادو، الذي تمتع بجاذبية خاصة، وكان مقامرا من الدرجة الأولى، كما كان داهية وله تأثير كبير على شخصية جورج أمادو الطفل. كما أنه اختار أماكن رواياته من تلك التي نشأ فيها، وكانت زراعة الكاكاو وقتها هي النشاط الرئيسي لسكانها، الذين كانوا يعانون من سوء التغذية وعدم التوزيع العادل للثروات. في حين كانت هذه الأرض متعددة الثقافات، وكان يعيش فيها الأوربيون البيض، والأفارقة السود، وسكان البلاد الأصليون من الأصول الهندية الذين يمكن تصنيفهم إلى فريقين فقط: أغنياء مستغلين ومعدمين يحيون بمشقة.
في هذه الظروف، ولد أمادو في إحدى مزارع الكاكاو في باهيا في العاشر من غشت 1912، وكان والده عقيدا في الجيش. درس أمادو في مدرسة دينية، ثم فرَّ منها وهو في الـ14 من عمره ليمارس الصحافة، ثم انضم إلى «جمعية المتمردين»، وهي جماعة من الشباب، كجماعات «القوس والسهم» و»سامبا»، التي كانت تدعو إلى اتجاهات جديدة في الأدب، وكانت تميل إلى الشيوعية وأفكارها التي كانت جديدة في ذلك الوقت.

صعلكة وتقاليد

رأى عديد من النقاد أن السر في نجاح أمادو يكمن في تمسكه ببعض الأشكال الاتباعية، ممزوجة بالصعلكة ونكهة التقاليد العريقة في مسقط رأسه، مقاطعة باهيا، التي استخدم حواضرها وريفها لتكون مسرحا لكل رواياته. لكنه مع ذلك، انغمس في النشاط السياسي مبكرا، وقت أن انضم إلى الحزب الشيوعي البرازيلي، ومع أنه واجه بسبب ذلك السجن، لكنه في عام 1946 انتخب عضوا بالبرلمان. غير أنه استمر في إثارة غضب السلطات، وعلى وجه الخصوص في عام 1944 عندما نشر السيرة الذاتية لزعيم الحزب الشيوعي البرازيلي لويس كارلوس بريستس. وهو الأمر الذي دفع الحكم العسكري إلى حظر نشاط الحزب الذي ينتمي إليه أمادو، وإحراق رواياته في الساحة العامة في العاصمة البرازيلية، مما اضطره في ما بعد إلى العيش في المنفى، متنقلا بين فرنسا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفياتي، ولم يتمكن من العودة إلى بلاده إلا في عام 1952،إلى أن تأسس عام 1987 متحف أطلق عليه اسم أمادو، أقامته مجموعة من الفنانين والكتاب، ممن رأوا ضرورة الحفاظ على تراث هذا الكاتب الكبير، الذي تمثل في أعمال تُرجمت إلى نحو 50 لغة عالمية، وعُرضت عبر السينما والدراما التلفزيونية.
وقد اعتُبر أمادو من الكتاب الذين ارتبطوا بالمكان، وقد ظلت مياه بحر باهيا ورمالها مثل النبع الذي ظل ينهل منه، بعد أن راح يعبّر عن الحياة والناس، بدءا من روايته الأولى «بلاد الكرنفال» التي نشرها عام 1932 وحتى كتابه الأخير.
وكان أمادو قد نشر عام 1935 أول رواية من سلسلة أعماله عن باهيا، بعنوان «جوبيابا» وذلك تحت اسم «باهيا كل القديسين» وكانت روايته «بحر ميت» العمل الثاني في هذه السلسلة، التي كتبها في أثناء منفاه في بوينس آيرس، ورغم أنه انتهى من كتابتها سنة 1936، فإنه لم ينشرها إلا مع بداية الأربعينيات من القرن الماضي، وفي هذا العام أيضا كتب «فرسان الرمل» عن الصبية الضائعين في «باهيا»، ثم قدم «لويز كارلوس فارس الأمل».

تقدير لائق

من بين روايات أمادو هناك رواية «كاكاو» التي صدرت عام 1933، وقد حظرتها الرقابة، و»عرق» (1934)، و»جوبيابا» (1935)، و»البحر الميت» (1936)، و»ربابنة من رمل» (1937)، و»خليج جميع القديسين» (1935)، واتخذت كتاباته طابعا جديدا في الخمسينيات حيث اكتسبت الغنائية وروح الفكاهة. واقتُبس عدد من أعماله في المسرح والسينما حيث لقي بعضها رواجا دوليا كبيرا، مثل فيلم «غابرييلا» من بطولة مارتشيلو ماستريوياني وسونيا براغا، غير أن الرواية التي منحته التقدير العالمي اللائق به، وجعلته يتمتع بشعبية جارفة لم ينافسه فيها سوى اللاعب الكبير بيليه، فقد كانت رواية «غابرييلا قرنفل وقرفة» التي نشرها عام 1958، وقد تتابعت من بعدها أعماله المكتوبة للأطفال، إضافة إلى المجموعات القصصية والروايات، ومنها «دونا فلور وزوجاها، دروب الجوع، وطفل الكاكاو، وتوكايا الكبير، وتيريزا باتيستا التي أرهقتها الحرب»، في حين كان للعرب والأتراك مكان بارز في رواياته، وعلى وجه الخصوص، في الفصول الأخيرة من روايته «بحر ميت».
وفي إحدى رواياته، يقول أمادو: «حكت والدتي أنهم غسلوا البلاط الأسمنتي ببعض الماء، لم يكن ثمة أي مصدر للعون والمساعدة، لا أدوية لا ممرضات.. لا أطباء، فقد كانت تلك الأراضي تقع في أقصى العالم».ويضيف: «من يدري؟ لعل هذه التجربة التي عشتها في طفولتي، حصنتني من الجذري إلى اليوم، لم تؤثر علي قط أي حقنة ضد الجذري من تلك التي غرسوها في لحمي لسنوات.. حتى الحقنة الأولى، وكانت اكتشافا في المنطقة سنة 1918 حيث كانوا يشجون الجلد بسكين.. كانت ماريا الخادمة الصغيرة تعاني من بثور عبر جسدها. وكان جميع من يعاني من الحمى منتفخي الذراع ويتألمون، أما أنا فقد كنت أتسلق الأشجار دون خوف، وأركض على الشاطئ، كان الجدري جزءا من دمي».

صفاء الكاتب

كان هذا الكاتب الكبير يرى أن كثيرين من كتاب عصره المتميزين قد انفصلوا عن العالم، وكتبوا من وراء الجدران، ويضرب مثلا لذلك بكافكا ومارسيل بروست، أما هو شخصيا فقد آثر أن يشارك في الحياة نفسها، ويرتبط أكثر بالناس العاديين، لذا فإن أبطال رواياته هم أولئك الأشخاص الذين عايشهم، ولم يكن منتميا إلى كتّاب البرج العاجي، ويعترف بأن الشخصيات التي عرفها القراء، من خلال رواياته، وُجدت أساسا في الواقع. وهنا يقول أمادو إنه سار على نهج الكاتب الروسي مكسيم جوركي، فبالسذاجة كان يواجه تعقيدات الآخرين، وبالعدالة يتصدى للظلم، لكن السؤال هو: هل يمكن للآخرين أن يتفهموا معنى الصفاء الذي يتمتع به الكاتب؟
في كل الأحوال، ظلت شخصية الثوري تتماوج بداخل أمادو وتدفعه للكتابة عن المقهورين من أبناء «باهيا» (مسقط رأسه)، والقهر هنا ليس قهرا سياسيا، لكنه حياتي، فهؤلاء البسطاء يطلبون القليل من الدنيا، ويرتضون بما قسم لهم، ولذا فإنهم لا يحلمون بالخروج من دائرة المقاطعة، لأن العالم في منظورهم يقف هناك، وقد يأتي آخرون من عوالم أخرى إلى «باهيا» للإقامة بها. وهو يشير في رواية «كاكاو»، إلي ذلك، حين يقول:
«كنا نعيش، إن جاز القول، خارج العالم ولا أحد يهتم لبؤسنا. نعيش لنعيش. وكانت تلوح لنا في الأفق البعيد، فكرة تقول، إن الأشياء قد تتغير ذات يوم. بأي طريقة؟ لا نعلم. لكنه لن يتسنى لنا أن نصير جميعنا مُلاكا».

«عن الجزيرة نت «


الكاتب : زكريا عبد الجواد

  

بتاريخ : 28/08/2024