اغتراب الروح بين الوحدة والعزلة

شعرية الانتظار والتأمل في نصوص الشاعر إبراهيم قازو

 

في قصائد الشاعر إبراهيم قازو، ينبثق شعور حاد بالاغتراب، ليس كحالة شعورية فردية عابرة،بل كمنظومة وجودية تنعكس في كل تفاصيل الحياة. تتداخل الوحدة والعزلة بشكل يعمق الإحساس بالنفي الروحي والتأمل في الوجود والعدم. هذه النصوص تتجاوز الإطار التقليدي للشعر لتصبح فضاء مفتوحًا على التأملات الفلسفية حول الوجود والزمن والموت. يظهر الشاعر كمنفصل عن كل ما هو مادي وحسي، كما لو كان محاطًا بغلاف من التأملات التي تتركه غارقًا في لانهائية الحيرة والانتظار.
الوحدة جوهر متأصل في الكينونة ذاتها، وليست مجرد شعور بالانفصال عن الآخرين. في إحدى القصائد، يقول الشاعر:

«وهذا المساء سميك
كصدر الغياب».

إن العبارة،على بساطتها الظاهرية،تعكس بُعدًا رمزيًا عميقًا؛فالغياب ليس غيابًا ماديًا فحسب،ولكنه حالة من الفراغ الوجودي الذي يضغط على الروح. إنه غياب المعنى،غياب الآخر،وربما غياب الذات في مواجهة ذاتها. هذا التحول يجعل المساء يبتعد عن كونه مجرد وقت يومي، ليصبح كيانًا مكثفًا يجسد الغربة والانعزال.
وفي كثير من النصوص يظهر الاغتراب كحالة من الانفصال عن الذات، حيث يصبح الشاعر غريبًا عن جوهره. هذا الانفصال يتجسد في شعور الشاعر بعدم الانتماء إلى ذاته المتكلمة، وكأنه يعيش في واقع موازٍ منفصل عن الزمن والوجود المحيط به. يقول الشاعر في أحد المقاطع:

«جوار الصمت
أنصت لصدى الروح».

فالصمت هنا ليس غياب الكلام،وإنما الفراغ الذي يتسرب إلى أعماق النفس، وكأن الذات تفقد قدرتها على التعبير والتواصل. الصمت، في هذا السياق، هو مجاز للفقدان العميق للذات، وللغربة الداخلية التي تمنع أي تواصل فعلي مع العالم الخارجي أو حتى مع الداخل.
والعزلة قدر محتوم يتجسد في كل تفاصيل النصوص،أكثر من كونها خياراً . الشاعر لا يعبر فقط عن تجربة شخصية، ولكنه يجعل من العزلة جوهرًا للوجود الإنساني بأسره. الليل والنهار يتبادلان الأدوار في هذه العزلة الوجودية:

«الليل و النهار
صديقان حميمان

النهار ينام في حضن الليل
كلما تعب من الركض

الليل ينام في قلب النهار
كلما تعب من السهر «

فالنهار، كرمز للحركة والنشاط، والليل كرمز للسكون والتأمل، يتجسدان هنا ككيانات متواطئة في دورة دائمة من الركض نحو العدم. هذه الصورة العميقة تجعل من العزلة ليست حالة طارئة أو عابرة، ولكنها جزء من النظام الطبيعي للوجود، حيث يحتاج النهار إلى الليل كما يحتاج الحي إلى الموت في دائرة مستمرة لا تنتهي.
الموت في النص الشعري لدى ابراهيم قازو لا يمثل النهاية فقط، وإنما مواجهة يومية مع اللاشيء، مع فكرة الفناء التي تسكن الروح وتغذي هذا الإحساس بالاغتراب. يقول الشاعر:

«و أنا أهيئ موتي
أضع الحنوط في جيوب
القصائد
حين تتمدد في كفن
من مجاز».

فالموت، في هذه الصورة، يتجاوز كونه حدثًا بيولوجيًا، ليصبح تجربة شعرية، يتقاطع فيها المجاز مع الفناء. القصيدة ذاتها تتحول إلى كفن، وكأن الكتابة بحد ذاتها تمثل استعدادًا للموت، أو ربما محاولة لإطالة الوجود أمام حتمية النهاية.
أما الانتظار في قصائد الشاعر، فهو ليس انتظارًا لتحقيق رغبة أو لتحقيق هدف، ولكنه ترقب دائم للاشيء. الانتظار يصبح تجربة وجودية، تُعمق الإحساس بالزمن كمفهوم متجاوز للأبعاد التقليدية. يقول الشاعر:

«وحيدا تحت مظلة
الحيرة
أغني في شارع الحياة
وألوح للعابرين إلى ساحة العدم
بسلال الدهشة».

وهو، أي الانتظار ، في جل قصائد الشاعر ابراهيم قازو لا يهدف إلى تحقيق غاية أو لقاء مرتقب؛ إنه حالة من الترقب المفتوح على المجهول، حيث يتحول الزمن إلى مساحة فارغة تلتهم الذات وتضاعف غربتها. الشاعر لا ينتظر حدثًا معينًا، بل ينتظر في الفراغ، في ما يشبه رحلة داخلية تتشابك فيها مشاعر الضياع والصمت. الانتظار هنا ليس فعلاً إراديًا،بل قدرا محتوما يعبر عن عزلة الروح أمام اتساع اللامعنى. إنه فعل مستمر، يشبه النبض البطيء لحياة مؤجلة، حيث تتحول اللحظات إلى مرايا تعكس الإحساس المتعاظم بالفراغ والضياع. في هذا السياق، الزمن ليس حركة بل انحباس، وغياب لا يشبع إلا باستمرار العزلة. والدهشة ليست دهشة الفرح، هي دهشة الوجود أمام العدم، دهشة من يدر كأن الزمن يمر دون أن يحمل معه أي أمل في الخلاص.
إذا كان الاغتراب والعزلة هما الجوهر الأساسي في أغلب قصائد الشاعر، فإن المجاز هو الوسيلة التي تجعل من هذا الجوهر تعبيرًا شعريًا متفوقًا. المجاز في هذه النصوص يتعدى كونه مجرد زخرف لغوي، إنه بنية يبني عليها الشاعر عالمه. في هذا السياق،لا يمكننا سوى الوقوف أمام قدرة الشاعر على تحويل التفاصيل الصغيرة إلى رموز شاملة تعبر عن المعاني العميقة للوجود. يقول الشاعر:

«لا وردة
في مزهرية المساء

لا غيمة
في جيب السماء

لا يد
توبخ الريح حين تعدو
بقميص الهباء
«.

في هذا المجاز البسيط نجد كيف تتحول الريح إلى كيان حسي يلبس الهباء. الهباء، كرمز للعدم والفراغ، يصبح رداءً للريح، مما يعمق الإحساس بالعبث و اللاجدوى. المجاز هنا ليس فقط وسيلة للتعبير، وسيلة للوجود ذاته، وليس فقط وسيلة للتعبير، ليتحول كل شيء إلى رمز يعبر عن حالة الاغتراب التي يعيشها الشاعر.
في نص آخر، نجد استخدامًا متفردًا للمجاز في قوله:

«الوردة
تضئ للفراشات
ليل القصيدة».

هنا يتحول ليل القصيدة إلى فضاء ممتلئ بالحياة، والوردة التي قد تبدو مجرد زهرة، تتحول إلى مصدرا للضوء والحياة في هذا الليل. الفراشات ليست كائنات عابرة،بل هي حاملة للنور،مما يخلق توازنًا بين النور والظلام، بين الحياة والموت. هذه الصورة المجازية تعبر عن قدرة الشاعر على اختراق الحدود التقليدية للمعنى، ليخلق من خلالها عوالم جديدة تتيح للغة أن تكون أداة للتعبير عن أعماق الوجود.
يتفوق الشاعر إبراهيم قازو في استخدام المجاز كوسيلة رئيسية للتعبير عن شعور الاغتراب والعزلة. فالمجاز لا يمثل لديه أسلوبًا شعريًا فقط، ولكنه النسيج الذي يُبنى عليه النص بأكمله، يتحول معه كل تفصيل إلى رمز يحمل دلالات وجودية عميقة.إن الشاعر،عبر استخدامه المتفرد للمجاز،ينجح في خلق عوالم شعرية تنبثق من تجربة داخلية تتسم بالتأمل والحيرة،مما يجعل النصوص الشعرية لا تعبر فقط عن تجربة فردية، بل عن معانٍ إنسانية شاملة تتجاوز حدود الذات الفردية لتصل إلى أعماق الروح البشرية.


الكاتب : الحسين خاوتي

  

بتاريخ : 23/10/2024