اكتشافات أثرية في المغرب تعيد كتابة تاريخ الحياة وترسم خارطة جديدة لتطور البشر 6- الأسماك الأحفورية في الفوسفاط المغربي تكشف طبيعة البحار القديمة

يعد المغرب واحدا من أغنى دول العالم بالمستحاثات، حيث تُخزّن أرضه تاريخا جيولوجيا يمتد لمئات الملايين من السنين، توثق تطور الحياة على كوكب الأرض.
فمن أعماق بحار العصر القديم إلى سهول العصر الطباشيري، ومن آثار الكائنات الدقيقة إلى حفريات الديناصورات، يقدم المغرب نافذة فريدة لاستكشاف العصور السحيقة.
تتميز التكوينات الجيولوجية المغربية بثرائها في أنواع مختلفة من الأحافير، بدءا من التريلوبيتات والأسماك المتحجرة التي تعود إلى العصر الأردوفيشي، وصولا إلى الزواحف البحرية والديناصورات الضخمة من العصر الطباشيري.
وقد كشف العلماء في مواقع مثل طاطا وأرفود وسفوح الأطلس عن حفريات لديناصورات نادرة، مثل “سبينوصور المغرب”، وهو أحد أكبر الديناصورات المفترسة المعروفة.
لكن الاكتشاف الأكثر إثارة كان في جبل إيغود، حيث تم العثور على أقدم بقايا للإنسان العاقل، مما أعاد رسم خارطة تطور البشر.
وتعد الصحراء المغربية مصدرا رئيسيا لمستحاثات بحرية فريدة، مثل الأمونيتات والأسماك المتحجرة، التي تحكي قصة المحيطات القديمة التي غمرت المنطقة.
وبينما يسهم المغرب بشكل بارز في الأبحاث الحفرية العالمية، تواجه هذه الثروة الطبيعية تحديات كبرى، مثل تهريب المستحاثات وغياب قوانين صارمة لحمايتها. ورغم ذلك، فإن استمرار الاكتشافات العلمية في البلاد يجعل من المغرب مختبرا طبيعيًا مفتوحا، يروي فصولا جديدة من قصة الحياة على الأرض.

 

في قلب المغرب، حيث تمتد مناجم الفوسفاط الشاسعة، تكمن كنوز علمية تحمل في طياتها أسرارا عن عالمٍ بحريٍ قديمٍ اختفى منذ ملايين السنين.
هذه الكنوز ليست مجرد صخور أو معادن، بل هي بقايا كائنات عاشت في محيطات غابرة، تحولت مع الزمن إلى أحافير تحكي قصصا عن تنوع بيولوجي مذهل وعن كيف كانت الحياة في تلك العصور السحيقة.
الأسماك الأحفورية، التي تم اكتشافها في طبقات الفوسفاط المغربية، ليست مجرد شواهد على وجود كائنات بحرية منقرضة، بل هي بوابة نستطيع من خلالها الاطلاع على عالم كان يعج بالحياة والتنافس والصراع من أجل البقاء.
تعتبر مناجم الفوسفاط في المغرب، وخاصة في حوض أولاد عبدون بالقرب من خريبكة، من أهم المواقع العالمية لاكتشاف الأحافير البحرية. هذه المناجم، التي تشكلت خلال الفترة الممتدة من العصر الطباشيري المتأخر إلى الإيوسين المبكر، أي قبل حوالي 70 إلى 45 مليون سنة، تحتفظ بطبقات سميكة من الرواسب الغنية بالأحافير.
هذه الرواسب ليست فقط مصدرا للفوسفاط، الذي يعد أحد أهم موارد المغرب الاقتصادية، بل هي أيضا كنز علمي يقدم رؤى قيّمة عن تطور الحياة البحرية عبر العصور الجيولوجية.
من بين الكنوز التي تم اكتشافها في هذه المناجم، تأتي الأسماك الأحفورية في المقدمة.
هذه الأحافير، التي تنتمي إلى أنواع مختلفة من الأسماك العظمية والغضروفية، تكشف عن تنوع بيولوجي كان يعيش في تلك المحيطات القديمة. من أسماك “إنكودوس” ذات الأنياب الطويلة إلى أسماك القرش البدائية، تحمل هذه الأحافير تفاصيلا دقيقة عن تشريح هذه الكائنات وعن كيفية تكيفها مع بيئاتها البحرية.
لكن الأسماك الأحفورية ليست مجرد بقايا كائناتٍ ميتة، بل هي شهادات حية على كيف كانت الحياة في تلك العصور. من خلال دراسة هذه الأحافير، يمكن للعلماء فهم النظام الغذائي لهذه الأسماك، وكيف كانت تتفاعل مع الكائنات الأخرى في بيئتها، وحتى كيف كانت تتأثر بالتغيرات المناخية والبيئية التي شهدتها الأرض في تلك الفترة. على سبيل المثال، تشير بعض الأحافير إلى أن أسماك “إنكودوس” كانت مفترسة شرسة، تعتمد على أسنانها الحادة لاصطياد فرائسها، بينما تكشف أحافير أخرى عن أسماك كانت تتغذى على الكائنات الصغيرة في قاع المحيط.
الأهم من ذلك، أن هذه الأحافير تقدم لنا لمحات عن التنوع البيئي الذي كان سائدا في تلك الفترة. فالمغرب الذي كان جزءا من محيط تيثيس القديم، كان يعج بالحياة البحرية، من الأسماك إلى الزواحف البحرية العملاقة مثل الموزاصورات، والتي كانت تهيمن على السلسلة الغذائية. الأسماك الأحفورية، بوصفها جزءا من هذا النظام البيئي، تساعد على فهم كيف كانت هذه الكائنات تتعايش وتتنافس في بيئة مليئة بالتحديات.
بالإضافة إلى قيمتها العلمية، تحمل الأسماك الأحفورية في المغرب رسالة مهمة عن التغيرات التي شهدتها الأرض عبر الزمن.
فالمغرب، الذي نراه اليوم أرضا يابسة، كان في الماضي مغمورا بمحيطاتٍ واسعة تعج بالحياة.
هذه الأحافير تذكرنا بأن الأرض في حالة تغير مستمر، وأن ما نراه اليوم ليس سوى لحظة عابرة في تاريخ هذا الكوكب الطويل.
الأسماك الأحفورية في الفوسفاط المغربي ليست مجرد بقايا كائنات منقرضة، بل هي جسور تربط بين الماضي والحاضر.
من خلال دراسة هذه الأحافير، نستطيع أن ننظر إلى المستقبل بعيون أكثر حكمة، مدركين أننا جزء من سلسلة طويلة من الحياة التي بدأت منذ مليارات السنين.
هذه الأحافير تذكرنا أيضا بتواضعنا أمام تاريخ الأرض، وتدفعنا إلى التساؤل عن مصيرنا كبشر في هذا الكون الواسع.
هكذا، تصبح الأسماك الأحفورية في المغرب أكثر من مجرد أحجار محفوظةٍ في الصخور؛ إنها رسائل من الماضي تحمل في طياتها حكمة عميقة عن الحياة والزمن والتطور.

 

 


الكاتب : جلال كندالي

  

بتاريخ : 07/03/2025