فريق دولي يكتشف الدور الذي يؤديه أحد البروتينات في مساعدة فيروس كورونا المستجد
على التمسك بخلايا الجسم لفترة كافية قبل اقتحامها،
ما يمهد لتطوير علاجات قادرة على فك هذا الارتباط
دخل العالم بقوة في موجة ثانية أكثر شراسةً من انتشار فيروس كورونا المستجد، مع وصول الإصابات إلى مستويات قياسية في أوروبا وأجزاء أخرى من العالم، في وقت لم تفلح فيه جهود المؤسسات البحثية وشركات الأدوية حتى الآن لاعتماد لقاح يوقف هذا الانتشار السريع، رغم وصول عدد منها إلى مستويات متقدمة من التجارب السريرية.
ولا تزال السرعة غير المسبوقة التي يغزو بها الفيروس خلايانا، قبل أن ينتقل إلى مضيف جديد، لغزًا محيرًا يعكف العلماء على تفسيره، على اعتبار أن مفتاح المواجهة الحقيقي هو فهم الآلية التي يسلكها هذا الفيروس للاستقرار داخل الجهاز التنفسي، قبل أن ينتقل بسرعة كبيرة إلى أعضاء أخرى خارج الجهاز التنفسي، مثل الدماغ والقلب.
وفي محاولة جديدة لتفسير هذا اللّغز، اكتشف فريق دولي يقوده علماء من جامعة بريستول البريطانية، بالتعاون مع الجامعة التقنية في ميونيخ بألمانيا وجامعة هلسنكي في فنلندا، مفتاحًا ثانيًا لاتصال كورونا بالخلايا، يجعل الفيروس أكثر عدوى وانتشارًا بالجسم.
وأوضح الباحثون في دراستهم المنشورة في العدد الأخير من دورية ساينس (Science) أن هذا المفتاح هو بروتين يدعى «نيروبولين-1» (Neuropilin-1)، يتوافر في خلايا بطانة تجويف الأنف، ما يجعله مناسبًا للفيروس لتأسيس ملجأ داخل أجسامنا، والتكاثر لتكوين عائلة فيروسية، قبل الانتشار عبر الانتقال إلى مضيف جديد.
وكشفت الدراسة أن «نيروبولين-1» يُعد بمنزلة «قطعة إضافية» من البروتينات التي تتيح لفيروس كورونا التمسك بالخلايا المضيفة فترةً كافية قبل اقتحامها.
وعادةً ما يؤدي هذا المستقبل في الظروف الطبيعية دورًا في الاستجابة لعوامل النمو المهمة في الأنسجة، خاصةً بين الأعصاب، بالإضافة إلى دوره في تكوين الأوعية، والأنشطة الخلوية، لكن بالنسبة للعديد من الفيروسات ومنها كورونا، يُعَد هذا البروتين بمنزلة مقبض مناسب للتمسك بالخلايا المضيفة مدةً كافيةً لاقتحامها.
مفاتيح كورونا
ومن المعروف لنا أن المفتاح الأول لاتصال كورونا بالخلايا البشرية، هو «مُستقبل الإنزيم المحول للأنجيوتنسين-2» (ACE2)، الذي رصدته دراسات عدة، أبرزها دراسة سابقة كانت قد عقدت مقارنةً بين فيروس كورونا المستجد وأقرب أقربائه من عائلة الفيروسات التاجية، وهو فيروس «سارس» SARS، وتوصلت إلى أن طفراتٍ وراثيةً طرأت على «كورونا» جعلته أكثر شراسةً وخطورةً من «سارس»، ورغم أن كلا الفيروسين يرتبط بمُستقبِل (ACE2)، لكن كورونا ذو قدرة على الارتباط بالمستقبل بشكل أكثر إحكامًا، وهذا ساعده على الانتشار بدرجة أكبر من «سارس».
ولإصابة البشر، يجب أن يلتصق كورونا أولًا بسطح الخلايا البشرية التي تبطِّن المسالك التنفسية أو المعوية. وبمجرد التصاقة، يغزو الخلية ثم يكرر نفسه نسخًا متعددةً تسرع انتشار الفيروس في الجسم.
ويتم تنفيذ عملية ارتباط الفيروس بالخلايا البشرية وغزوها بواسطة بروتين (S) أو «سبايك» (Spike) يُعرف بـ(بروتين الحَسَكَة)، الذي يشكل النتوءات الشوكية الموجودة على سطح الفيروس، التي تمنحه الشكل التاجي المميز.
ويُعد فهم العملية التي يتعرف بها هذا البروتين على الخلايا البشرية أمرًا محوريًّا في تطوير العلاجات واللقاحات المضادة لمرض (كوفيد-19)، وفقًا للدراسة.
يقول بوريس سيمونيتي، الباحث في مختبر كولين، وقائد المجموعة البحثية: «عند النظر إلى تسلسل بروتين سبايك (النتوءات الشبيهة بالعصا على سطح كورونا، التي تمكِّنه من الالتصاق والدخول إلى خلايانا) أدهشنا وجود سلسلة صغيرة من الأحماض الأمينية التي يبدو أنها تحاكي تسلسل البروتين الموجود في البروتينات البشرية التي تتفاعل مع (نيروبولين-1)».
وأضاف في تصريحات لـ»للعلم»: «تلك الملحوظة قادتنا إلى التساؤل: هل يمكن أن يرتبط سبايك الخاص بكورونا بـ(نيروبولين-1)، للمساعدة في العدوى الفيروسية للخلايا البشرية؟».
وأوضح أن «الإجابة عن هذا التساؤل مكَّنتهم من إثبات أن «سبايك» يبدو أنه يستخدم مستقبلًا ثانيًا لدخول الخلايا؛ فبالإضافة إلى المستقبل الرئيسي ACE2))، يتعرف أيضًا على بروتين (نيروبولين-1)، ويُسهم هذا التفاعل في سرعة انتشار عدوى كورونا».
استخدم باحثو الدراسة الأشعة السينية لتحديد التركيب البلوري ثلاثي الأبعاد للمركب الناتج عن ارتباط الفيروس مع مُستقبلي (ACE2) و(نيروبولين-1).
ومن خلال توصيف الأساس الجزيئي لهذا التفاعل، أثبت الفريق أن بروتين «سبايك» يشرك جيبًا موجودًا على سطح (نيروبولين-1). وفي المقابل، يحد حظر هذا الارتباط من العدوى الفيروسية في النماذج المعملية لفيروس كورونا.
يقول «سيمونيتي»: إن الفريق تمكَّن أيضًا -عبر مراقبة خلايا بشرية في المختبر مصابة بفيروس كورونا- من إظهار أن التفاعل يعمل على تعزيز غزو الفيروس للخلايا.
سلوك الفيروس
من جانبه، قال محمود شحاتة، باحث الفيروسات بالمركز القومي للبحوث في مصر: إن نتائج الدراسة تقدم معلومات جديدة تساعد العلماء والباحثين على فهم سلوك فيروس كورونا، عبر تحديد علاقة بروتين (نيروبولين-1) ودوره في مساعدته على الدخول إلى خلايا الجسم.
وأضاف في تصريحات لـ»للعلم» أن فهم سلوك الفيروس وتحديد أسباب سرعة انتشاره في خلايا الجسم، والوسائل التي تساعده في هذه العملية، يُسهم بشكل كبير في التوصل إلى علاجات دقيقة ولقاحات فعالة لمواجهته؛ لأن جزءًا كبيرًا من فشل العالم حتى الآن في التوصل إلى علاجات ولقاحات معتمدة، ربما كان ناتجًا عن عدم اكتمال الرؤية في هذا الشأن.
وتابع أن بروتين (نيروبولين-1) موجود بشكل طبيعي في الجسم، ويقوم بوظائف خلوية، لكن الدراسة حددت دورًا آخر لهذا البروتين، وهو أن فيروس كورونا يستغله للدخول إلى الخلايا، وهذه سمة في العديد من الفيروسات البشرية شديدة الضراوة، التي تستغل بروتينات موجودة في الجسم لتسهيل دخولها إلى الخلايا، ومن ضمنها فيروس إيبولا وفيروس نقص المناعة البشرية «الإيدز».
واتفق معه سامي «قاسم»، أستاذ الفيروسات المساعد بكلية الطب البيطري بجامعة كفر الشيخ، واستشاري الفيروسات بوزارة البيئة والمياه والزراعة بالمملكة العربية السعودية، مؤكدًا أن نتائج الدراسة تقدم معلومات مهمة، فيما يتعلق بالدور الفعال لبروتين (نيروبولين-1) في مساعدة فيروس كورونا على غزو الخلايا.
وعن آلية دخول الفيروس إلى الخلايا، أضاف «قاسم» في حديث لـ»للعلم» أن فيروس كورونا يتميز بسلسلة من الأحماض الأمينية التي اكتسبها عبر طفرات وراثية، مكَّنته من الانتشار السريع داخل خلايا الجسم؛ إذ يستخدم بروتين (S) للتفاعل مع مستقبِلات الخلايا، عبر إنزيم يسمى «الفرين» (Furin) الموجود في الخلايا البشرية، ويقوم بفصل بروتين (S) الخاص بالفيروس إلى جزئين هما (S) و(S2)، ويؤدي هذا الانقسام إلى تخليق سلسلة من الأحماض الأمينية الخاصة ببروتين (S) التي تتفاعل مع (نيروبولين-1) وتتخذه عاملًا مساعدًا لسرعة غزو الخلايا البشرية.
ولفت «قاسم» الانتباه إلى أن هناك جزئيةً مهمةً أثارتها نتائج هذه الدراسة، ربما تفسر أيضًا سبب سرعة انتقال الفيروس إلى أعضاء أخرى من الجسم، بخلاف الجهاز التنفسي، وإحداث أضرار فيها، وأبرزها القلب والدماغ؛ لأن الـ(نيروبولين-1) عبارة عن مستقبِل موجود على الخلايا البشرية، يؤدي دورًا محوريًّا في العمليات البيولوجية، بما في ذلك توجيه المحور العصبي للخلية، وتكوين الأوعية الدموية، بالإضافة إلى دوره في العمليات البيولوجية للخلايا والأعصاب، ودخول وخروج الدم للخلايا.
وتابع «قاسم» أن دراسات سابقة رصدت تأثير فيروس كورونا على الجهاز العصبي؛ إذ تعرَّض المصابون لمضاعفات عصبية تتراوح بين فقدان حاسة الشم إلى السكتة الدماغية، بالإضافة إلى التهاب الدماغ، والسكتة الدماغية، وتلف الأعصاب، والاكتئاب، فضلًا عن تأثيره على عضلة القلب.
علاجات جديدة
وعن الأهمية الكبرى لنتائج الدراسة والتطبيقات العلاجية التي يمكن أن تُبنى عليها، قال «سيمونيتي»: «لقد أثبتنا في تجارب أُجريت على خلايا مأخوذة من بشر أصيبوا بكورونا، أنه يمكن استخدام الأجسام المضادة أحادية النسيلة، وهي بروتينات تم إنشاؤها في المختبر وتشبه الأجسام المضادة التي تحدث بشكل طبيعي بعد الإصابة بالفيروس، أو دواء انتقائي يربك ارتباط بروتين سبايك بـ(نيروبولين-1)، لتقليل غزو كورونا للخلايا البشرية».
وأضاف أن هذه النتائج تثير احتمال استخدام الأدوية التي تستهدف (نيروبولين-1) لمنع «سبايك» من استغلاله كأداة لدخول الخلايا البشرية، وبالتالي، فإن تحديد هذا العامل المضيف الجديد يمكن أن يوفر وسيلةً علاجيةً جديدةً لمرض «كوفيد-19».
أما «شحاتة» فيرى أن التحدي أمام الفريق أن تُجرى تجربة مدى تأثير الأدوية التي تربك ارتباط بروتين (S) الخاص بكورونا بـ(نيروبولين-1)، على الوظائف الخلوية والحيوية الأساسية التي يقوم بها (نيروبولين-1) في الجسم، وهذا بالطبع سيحتاج إلى تجارب على الحيوانات لتحديد أمان الطريقة وفاعليتها، قبل الوصول إلى تجارب سريرية على البشر.
ووافقه الرأي «قاسم»، مشيرًا إلى أن ما يميز هذا الاكتشاف هو إسهامه في تطوير علاجات فعّالة للفيروس، أكثر من مسألة اللقاح؛ لأنه يركز بصورة رئيسية على طريقة دخول الفيروس إلى الجسم وعملية الاتصال بين الفيروس والخلايا، بالإضافة إلى نجاح الفريق في إرباك ارتباط البروتين (S) بـ(نيروبولين-1) عبر الأجسام المضادة أحادية النسيلة أو الأدوية، في تجارب أُجريت في المختبر.
وتابع أن هذا النهج العلاجي يحتاج إلى مراجعة، لرصد تأثيرات إرباك ارتباط بروتين (S) بـ(نيروبولين-1)، وآثاره المحتملة على وظائف (نيروبولين-1) المهمة للغاية بالنسبة للجسم، وهذا يحتاج بطبيعة الحال إلى استكشاف ذلك عبر تجارب تُجرى على الحيوانات، وإذا ثبتت فاعلية هذا العلاج وأمانه، فيمكن أن يُجرّب على البشر، قبل اعتماده بشكل نهائي كعلاج لكورونا.
وعقّب «سيمونيتي» قائلًا: «هذه الدراسة هي مجرد بداية. سنواصل أبحاثنا لاكتساب فهم أكثر شمولًا لكيفية تفاعل بروتين (S) و(نيروبولين-1)، للإجابة عن أسئلة، منها على سبيل المثال، هل هناك عوامل أخرى تُسهم في هذا الارتباط؟ وهل يؤثر ذلك على سرعة انتشار الفيروس وانتقال ضرره إلى أجزاء أخرى من الجسم مثل المخ؟ وكيف يمكننا استهداف هذا الارتباط بواسطة مضادات الفيروسات؟ علاوةً على ذلك، يجب تحديد تأثيرات تلك العلاجات على أجسامنا بدقة».
وتابع: «لهزيمة فيروس كورونا سوف نعتمد على لقاح فعال ومجموعة من العلاجات المضادة للفيروسات، إذ يفيد اكتشافنا لارتباط الفيروس بـ(نيروبولين-1) في معرفة طريقة جديدة ووسيلة غير مسبوقة لعلاج الفيروس، والحد من انتشاره في الجسم».