الأرضية التي على أساسها تولى إدريس لشكر الكتابة الأولى للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية

أجرأة المشروع الاشتراكي الديمقراطي تحتاج لإرادة سياسية ملتزمة بتحقيق توزيع عادل للفائض الاقتصادي

السياسة الاجتماعية تكمن في وضع استراتيجية نوعية تحدد مجالات التدخل بشكل دقيق لتكسير مسلسل التهميش

 

سجل إدريس لشكر، في الأرضية التي قدمها لدعم ترشيحه كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال المؤتمر التاسع للحزب في دجنبر 2012، المرجعية الفكرية التي قام عليها مشروعه السياسي. ويتعلق الأمر بالمشروع الاشتراكي الديمقراطي الذي ينهض على مواصلة الاهتمام بتقوية شبكات إعادة التوزيع والمؤازرة الاجتماعية، وعدم الخضوع لمنطق التدخلات الظرفية في غياب تام للرؤية الاستراتيجية. كما ينهض على تدبير الإدماج الاجتماعي، واعتماد منهجية تشاركية تفتح مجالات للنقاش و الحوار حول قضايا المواطنين، فضلا عن إيلاء التنظيم الجهوي أهمية خاصة وتمكينه من كل الصلاحيات في التدبير وإدارة الحزب على المستوى الجهوي..

 

يعيش الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية محطة من أهم محطات تاريخه النضالي والسياسي. ولا تكمن هذه الأهمية فقط في المستجدات الطارئة، على صيرورة مجتمعات المنطقة، في سياق ما يصطلح عليه بالحراك العربي، بل تتعدى ذلك لطرح أسئلة ضاغطة وملحة على الحزب داخليا وخارجيا. أسئلة منها ما يتعلق بالذات الاتحادية في قوتها وضعفها، نجاحاتها وتعثراتها، أشكالها في التعبير وفي العمل، منظومتها الفكرية وأساليب ممارستها.
كما أن هناك أسئلة أكثر سياقية، في ضوء الموقع الحالي للحزب في المعارضة، بعد أن ساهم في التدبير لفترة ثلاثة عشر سنة تقريبا. هذا الموقع يطرح سؤالا استراتيجيا، حول الجانب الوظيفي للاتحاد داخل المنظومة السياسية العامة. وهو الموقع الذي يتطلب منا تدقيق هوية الحزب حتى لا تُختزل المعارضة في المشاكسة البرلمانية. ولا سبيل لنا لتوضيح المهام المطروحة على الحزب، دون ضبط مواصفات حقل الصراع في مغرب اليوم، على ضوء مستجدات المشهد الحزبي المغربي، و ما يفرزه من فاعلين جدد أو متجددين، مستحدثين أو تاريخيين.
إن صياغة أجوبة واضحة على موضوع هويتنا  و مهمتنا التاريخية، ووظيفتنا السياسية، لا يمكن إنجازها في دائرة مغلقة، نحاور فيها ذاتنا بمعزل عن التراتب الجديد لمعطيات الصراع السياسي، والمؤسسي والأيديولوجي. فموضوع الهوية ليس فكريا فقط بل إنه عملي كذلك لأنه سيمكننا من تكييف خططنا السياسية، عند أجرأتها وتصريفها في مجالات أساسية، مثل التحالفات السياسية سواء الاستراتيجية أو السياقية أو الموسمية، أو مجالات ثانوية في إطار التنسيقات والاتفاقات الظرفية.
إن مؤتمرنا التاسع مطالب بمعالجة هذه الإشكاليات، من منظور التجديد والتغيير، وذلك انطلاقا من السؤال الكبير المطروح بشكل ملح على كل القوى الحية، وهو سؤال المغرب كمجتمع، كدولة وكاقتصاد : إلى أين يسير المغرب؟ وإلى أي حد يمكن أن نتبوأ مكانة مؤثرة في حركية تطوره المستقبلي وما هي متطلبات ذلك؟ وهي أسئلة في الأوراق التي حضرتها اللجنة التحضيرية وسيكون على كافة الاتحاديات والاتحاديين مناقشتها داخل تنظيماتهم والتداول بشأن نتائجها في المؤتمر القادم.
في ضوء هذه الإشكاليات الضاغطة، فإن قيادة الاتحاد الاشتراكي مطالبة بالتعاطي مع العمل السياسي بحنكة وعزم وقدرة صدامية، من أجل استعادة المكانة المعنوية للحزب الذي أصبح في حاجة لطاقات بشرية، وقدرات فكرية، وأدوات تنظيمية قادرة على الفعل ورد الفعل، بصوت واضح ومسموع لا محتشم ولا متهور؛ صوت الاتحاد الاشتراكي الذي يمسك بالإشكاليات المطروحة، بعيدا عن الأسلوب الدبلوماسي، المجامل والمستوى سياسيا، المحبوس في الشكليات والعقيم في الجوهر.
إن نظرة صريحة لتجربتنا السياسية والتنظيمية، تؤدي بموضوعية إلى خلاصة أساسية، هي أننا سجنا مشروعنا السياسي في حدود إكراهات البنية الفوقية، وتحملنا عبء النظام السياسي العام، كأننا حراسه المؤتمنين على استقراره واستمراريته. وكانت نتيجة ذلك أننا تركنا مجال التعبير الحر والمستقل، والرأي الصريح والصارم لآخرين، وظهر كأننا عديمي الموقف من القضايا الأساسية التي يطرحها المجتمع على نخبه. وما زاد الأمر ضبابية وتعقيدا، أننا لم ننتبه للإيقاع الجديد الذي أصبح يطبع الحركة الاجتماعية.  فبدل استباق الأحداث أصبحنا نجري وراءها، وبدل تأطير القوى الفاعلة في المجالات الثقافية والمجتمعية بقينا حبيسي منطق الدفاع عن المواقع المكتسبة في الماضي، والتي تآكلت بفعل التحولات العميقة والواسعة التي طرأت على التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية. وترتب عن كل هذا نوع من الشلل والعقم في تجديد الرؤى، وحتى في تحيين المواقف والمنظومة الفكرية التي تنبني عليها.
إذا كنا نعيش اليوم اضمحلال نفوذ الحزب وتأثيره على توجه الأحداث، فذلك لأن نضالنا هو ما كشف أزمة التدبير، بعد ذلك تحملنا المسؤولية في تدبير هذه الأزمة، وتوغلنا في أزمة تدبير الأزمة، وهي الدوامة التي يتعين علينا اليوم أن نكسرها بصياغة أجوبة – وليس جوابا واحدا – قادرة على ملامسة تمظهرات الأوضاع في وحدتها وفي تعددها. ولا شك أننا جميعا واعون بضرورة التحدث بلغة واضحة، وبدون مجاملة ولا تردد، آخذين بعين الاعتبار شيئا واحدا، هو مصلحة الوطن ومستقبله بالنظر للمستجدات التي تفرزها تطلعات المغاربة، هذه التطلعات التي قد تتحول لتصبح تهديدات تمس في الصميم مقومات التواصل بين الدولة والمجتمع، وتعصف بالمكتسبات في مجال الحريات العامة والفردية، وتناسق السلط، والتوزيع العادل لثمرات النمو الاقتصادي، وتماسك النسيج الاجتماعي.
إن أخطر ما يتعرض له المغرب اليوم، هو سوء تقدير درجة الحرمان ورديفه المتمثل في التطلع للأفضل، فبقدر ما يمكن أن نعتبر أن الحرمان يجد طريقه للتعبير عن نفسه، بقدر ما تبقى صياغة التطلع للأفضل من مسؤولية القوى الحية، وفي مقدمتها قوى اليسار وروافد الحركة الوطنية. لذلك يتعين علينا كحزب اشتراكي ديمقراطي أن نضطلع بمهمة صياغة وأجرأة منظومة فكرية وأيديولوجية وسياسية تتكون من بدائل مدققة، تقطع الطريق على مستغلي شقاء الناس أو فطرتهم وحشرهم في مشاريع مدمرة على المدى الطويل.
وفي هذا الصدد نقترح أن تتولى الكتابة الأولى للاتحاد الاشتراكي تعبئة القيادات الوطنية والجهوية و الإقليمية والمحلية، الترابية والقطاعية، وإشراكها في مهمة ومسؤولية تدبير شؤون الحزب بإرادة واعية وحضور متواصل على كل الأصعدة، بهدف تجميع القوى واستقطاب الطاقات الجديدة من نساء ورجال، فاعلين اجتماعيين وثقافيين، مبدعين واقتصاديين ومفكرين، وكل صانعي الفعل المهيكل، وذلك في إطار برنامج تقوده أربعة أهداف أساسية :
أولا؛ انبعاث المشروع الاشتراكي الديمقراطي،
ثانيا؛ النهضة المغربية المتأصلة والمنفتحة على الإنسية العالمية،
ثالثا؛ التحرك المتميز في المجال السياسي والعمل من أجل تطوير المنظومة السياسية برمتها،
رابعا؛ اتحاد الغد : استعادة المبادرة في الفعل والريادة في الموقف.
انبعاث المشروع الاشتراكي الديمقراطي:
في تسعينيات القرن الماضي، تعرض المشروع الاشتراكي لهجمة قوية من طرف النمط الرأسمالي، حيث سادت أطروحة: «قليل من السلطة للدولة، والسلطة كل السلطة لقوى السوق». وفي هذا السياق حاولت الحركة الاشتراكية العالمية التأقلم مع هذا المد العارم عبر صياغة ما اصطلح عليه بالطريق الثالث الذي عرف أوجه مع تجربة الحزب العمالي البريطاني. وهو الطريق الذي لخصه زعيمه وقتها في مقولته الشهيرة : «ليس هناك سياسة يمينية ولا سياسة يسارية، بل هناك سياسة جيدة وسياسة سيئة»، بحيث توحي هذه المقاربة بأن اشتراكية الألفية الجديدة تحكمها البراغماتية والتحالف الاستراتيجي مع قوى السوق.
غير أن تجربة بعض البلدان في أمريكا اللاتينية مثل البرازيل والشيلي والأرجنتين، وفي آسيا مثل الفيتنام، تؤكد أن الاشتراكية ابتكرت طرقا أعطت نتائج جد مفيدة. والسؤال الذي يطرح هنا هو : أين نحن من تلك الأطروحة التي صادفت كذلك تحملنا للمسؤولية في إطار التناوب التوافقي ؟
من المؤكد أننا كجزء من الحركة الاشتراكية العالمية مساءلون حول الطريق الذي يتعين اتباعه من الناحية البرنامجية :
ما هو المشروع الاقتصادي الاجتماعي الذي سيحقق التنمية الضرورية لبلادنا في هذه الظرفية بالذات، المتميزة بغياب أية رؤية واضحة لدى الحكومة الحالية ؟
كيف يمكن تعبئة موارد جديدة ؟ وما هي قطاعات إنتاج القيمة المضافة ؟
ماذا عن توزيع الأدوار بين الفاعلين الاقتصاديين من دولة ومقاولات ؟
أين تكمن مَواطن الادخار وما هي سبل تعبئتها ؟
كيف نواجه الاختناقات الحالية والمتعاظمة مستقبلا، والتي قد تشل  بصفة خطيرة نظام الحماية الاجتماعية ؟
كيف يمكن الحد من تدهور الموازنات العامة من ميزانية الدولة وميزان الأداءات وميزان التجارة ؟
ما هو النموذج البديل لسياسة الارتجال التي تطبع برامج محاربة الفقر والأمية ؟
ما هي المؤسسات والأدوات التي يتعين وضعها أو تفعيلها لصياغة سياسة إنتاجية ناجعة، في ضوء محدودية البرامج التي تم وضعها في قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة ؟
ما هي معالم منظومة تنمية الموارد البشرية خاصة في مجال التعليم والتكوين؟ الخ.
كل هذه المواضيع و غيرها تشكل إلى جانب تأهيل البنيات السياسية الفوقية، في ضوء الدستور الجديد وما يحمله من مستجدات هيكلية بالنسبة لتوزيع وتناسق السلط على المستوى المركزي والجهوي والمحلي، قضايا ملحة تستوجب الحل.
من بين الصعوبات التي تَعترِضُنا في المغرب حين ننكب على صياغة التصور العام للمشروع الاشتراكي تلك التي تجعل كل مقاربة للنمط الاشتراكي أمام إكراهين :
الأول : إنشاء وتفعيل الخدمات العامة المرتبطة بتيسير الإدماج الاجتماعي .
وفي هذا الصدد لا بد من تسجيل التباطؤ الكبير الذي طبع السياسات العمومية بعد تجربة حكومة التناوب, حيث أن الحكومات المتعاقبة لم تعد تميز بين المساعدة الاجتماعية والتنمية الاجتماعية. وبدل مواصلة الاهتمام بتقوية شبكات إعادة التوزيع والمؤازرة الاجتماعية ظلت خاضعة لمنطق التدخلات الظرفية في غياب تام للرؤية الاستراتيجية، فكانت النتيجة فشل البلاد في الحد من الهشاشة وتدحرج رتبة المغرب فيما يخص مؤشر التنمية البشرية على المستوى العالمي. وإذا كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تعد خطوة إيجابية إلا أنها لن تحقق الطفرة الاجتماعية المأمولة بالمستوى المطلوب.
إننا نؤكد أن السياسة الاجتماعية المتميزة تكمن في وضع استراتيجية نوعية، تحدد مجالات التدخل بشكل دقيق لتكسر مسلسل التهميش وتطلق مساراً بنيوياً يقوم على ثلاث ركائز:
تقويم دور مؤسسات الحماية الاجتماعية بما يمكن من توسيع دائرة المنخرطين بها وتمنيعها من مخاطر الإفلاس،
وضع سياسة تمويلية تمكن من مأسسة التضامن الاجتماعي وذلك عبر سياسة إعادة توزيع جديدة تُيسر تحويل الموارد لفائدة المعوزين وتستبق مفعول التحولات الديموغرافية والمجالية ،
فتح منابع جديدة لتنامي الاقتصاد الاجتماعي على مستوى الأنشطة الإنتاجية وعلى مستوى الخدمات التمويلية الصغرى (أو كما يصطلح عليه بالتبنيك المتوجه لذوي الدخل المتواضع).
الثاني : تحريك دورة الإنتاج.
من الواضح أن السياسة الاقتصادية وإن تمكنت من تأمين التوازنات ‹الماكرو-اقتصادية› لم تفلح كثيرا في تحرير طاقات الإنتاج رغم النوايا الحسنة التي طبعة البرامج الكبرى مثل مخطط الإقلاع الصناعي (Emergence)، والمغرب الأخضر وبرنامج تطوير الصيد البحري(Halieutis) والمغرب الرقمي ورؤية 2020 للسياحة الخ. إن ما جعل هذه المخططات لا تف بوعودها، لا يعود إلى ضعف ما في صياغتها النظرية، بل هو من جهة الاصطدام بواقع ضعف رأس المال الوطني، ومن جهة أخرى محدودية في تحقيق الإيقاع السريع المرتقب للتنمية.
فمن الواضح أن أهم الإنجازات المسجلة في العشرية الأخيرة تكمن في المجهود الهائل الذي بُدل على مستوى تقوية شبكة التجهيزات الكبرى بالنسبة للبنية التحتية. وهي إنجازات من صنع الاستثمار العمومي. ما يؤدي بنا للتأكيد على أن رأس المال العمومي مطلوب لتزعم دورة الإنتاج خاصة في المجالات التي يتمتع فيها المغرب بميزة تنافسية على المستوى الجهوي. هذا لا يعني أن القطاع الخاص لا دور له، على العكس من ذلك، إنما المطلوب هو وضع آليات جديدة تحدد الاستراتيجيات وتوزع الأدوار وتُقَوم النتائج.
إن المشروع الاشتراكي الديمقراطي المتجدد يستهدف، من جهة، تقوية الوظائف الاقتصادية للدولة عبر الاستثمار المنتج ومصاحبة القطاعات الإنتاجية الأكثر استهلاكا لرأس المال أو المعرضة لمخاطر المنافسة الجهوية، ومن جهة أخرى، خلق مبادرات مشتركة مع الرأسمال الخاص ودعم نسيج المقاولات الصغرى والمتوسطة. إنه مشروع مزدوج المقاربة : من جهة تشجيع المبادرات الخاصة، ومن جهة أخرى ريادة الدولة في القطاعات الاستراتيجية.
إن المشروع الاشتراكي الديموقراطي في عالم اليوم، وخصوصا بمغرب اليوم، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار عدم رهن مستقبل الأجيال القادمة، ولذلك فإن أجرأته تحتاج لإرادة سياسية ملتزمة بتحقيق توزيع عادل للفائض الاقتصادي بين ما يهم تقليص رقعة الإقصاء والتهميش وما يتجه نحو التراكم الاقتصادي. ومن الناحية المذهبية فإنه مشروع يندرج في إطار منظور يعمل بمبدأ اقتصاد السوق وليس بمجتمع السوق.
المشروع الاشتراكي الديمقراطي، يتطلب الابتعاد عن الحسابات الظرفية الضيقة، ويفرض المراهنة على تعبئة الطاقات التقدمية والوطنية، المستعدة للانخراط في مسار تدريجي. وهو ما يتطلب القطع مع أساليب التردد والتدبدب. فلن يكون هذا المشروع مسموعا وقابلا للتصريف، دون وحدة الموقف  داخليا وخارجيا. وهو ما يتطلب منا طي صفحة السجالات المتنافرة وصراع الأنانيات، ونبذ أساليب الإقصاء.
لذلك نرى أن أولى الأولويات في المرحلة المقبلة، ستكون هي تجميع القوى المتشبعة بمبادئ المشروع الاشتراكي الديمقراطي، مع التأكيد على أن المنهجية المقترحة لبلوغ هذا الهدف، لا تقوم على توافقات فوقية بين القيادات، أو تصريحات موسمية،  بل إن المطلوب هو تكوين قناعات مشتركة حول الحلول المقترحة، لمعالجة الإشكاليات السالفة الذكر. فتجديد الرؤية سيكون نتاجا لمقاربة تشاركية عبر مسلك تصاعدي، يمكن من استصدار مواقف وتصورات نابعة من الطاقات المتواجدة بالقواعد، حيث تجتمع النخبة والقاعدة، كي يتملك كل واحد الخلاصات التي ستكون هي أساس الالتزام العملي والإشعاعي، بحيث يتحمل كل فرد نصيبه من المسؤولية دون تأثير أو استئثار.
النهضة المغربية المتأصلة والمنفتحة على الإنسية العالمية:
لقد أدى تسارع التحولات الاجتماعية والاقتصادية إلى إفرازات جديدة على مستوى البنية الديموغرافية وتوزيعها المجالي، توقعتها وتنبأت بها و استشرفتها أدبيات الحزب وخاصة «التقرير الأيديولوجي» ووثيقة «أزمة المجتمع والبناء الديمقراطي». من نتائج هذه الإفرازات بروز نخب من نوع جديد هي في الحقيقة من صنع أزمة الحواضر التي لم تكن مهيأة لاستقبال وإدماج الطاقات البشرية سواء الناشئة أو الوافدة عليها، والتي كانت عرضة لتأثيرات متباينة نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر:
الوسائط المستقطبة  للفئات المحرومة، والمستغلة للحرمان بإقامة شبكات زبونية تشكل مخزونا انتخابيا سريع التعبئة. إنها وسائط من عينة الأثرياء الجدد، والذين يتكئون على الحضور الموسمي الاجتماعي لنسج ولاءات محلية. لقد تجدر هذا الأسلوب في العمل السياسي، والمنقول عن منظومة الأعيان التي سادت في البوادي،
إلى جانب هذا النوع الجديد من الوسائط هناك الفئات التي اتجهت إلى المرجعيات الدينية والسلفية. بعضها بسبب الأعمال التضامنية، وكثير منها بفعل تأثير الحركات التبليغية، والتي تنامت في سياق تكاثر الفضائيات وتدفق البرامج المعادية للحداثة والمستغلة لفطرة المشاهد.
لقد تمكن هذان النموذجان من الوسائط من استقطاب الفئات الأكثر هشاشة من الناحية الاجتماعية، سواء بفعل الحرمان الاقتصادي أو بفعل التدني الاجتماعي خصوصا منها النساء والشباب باعتبارهما الأكثر عرضة للهشاشة. هذا الوضع، ساهم بشكل حاسم في صنع ميزان قوة سياسي جديد لا يجب اعتباره عابرا. فبقدر ما يشير التأثير المتنامي لهذه الشبكات الزبونية على فشل، أو على الأقل محدودية، السياسات العمومية في تحقيق الإدماج الاجتماعي، بقدر ما يتضح أن  تأطير الحقل الديني، إن نجح على المستوى الفوقي، فقد ظل محدود التأثير على المستويات المتوسطة والدنيا.
إن مقاربة واقعية للوضع الحالي، في نتائجه السياسية، ليست بالأمر اليسير ذلك أن الحركة الاجتماعية تم استقطابها إلى أطروحة الأزمة الأخلاقية، باعتبارها المتسببة في اضمحلال العمل السياسي وتنامي التفسخ السلوكي. إن مواجهة الاتجاه المناهض للحداثة، لن يتم بتقمص لباس الدين أو تبني الخطاب التخليقي. فما سيهزم الوسائط غير الديمقراطية في النهاية، هي الحركة الواقعية للمجتمع. هذا المجتمع الذي لا يختزل تطلعاته في ما تطرحه التيارات الدينية والسلفية، المساءلة بدورها – بعد أن أمسكت بدواليب الحكم – حول قدرتها وبرنامجها وعملها على إيجاد حلول لمعضلة الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي. فالواقع المعيش لا يرتفع بمجرد الدعوة إلى التخليق، والمطالب لن تنته لأن «الأخلاق» ستسود فجأة بين الناس. ولذلك فالمطلوب هو تنويع وتطوير أساليب الحضور الاجتماعي ودعم التنظيمات الجماهيرية. وتجربتنا في هذا المجال ستكون عنصر الفصل في الموقع الذي نتبوؤه كفصيل معارض أساسي.
يجب أن تكون قناعاتنا راسخة بأن النهضة المغربية منطلقها البعد الاجتماعي.  فكما تأثر المغاربة بثقافة الفضائيات جاء، ما يصطلح عليه بالربيع الديمقراطي، لتحرير الطاقات الشبابية، فأبرز أنواع جديدة للتعبير، وفك قيود المحظور، وفرض تسريعا في وثيرة الإصلاحات، خاصة الدستورية منها، والتي كنا السباقين إلى طرحها أثناء أشغال المؤتمر الوطني الثامن. غير أن الحركة العفوية بقدر ما كانت تحركها دوافع تحديثية، بقدر ما سهُل تحويلها عن غاياتها، بحيث تم استقطاب واستغلال دينامياتها في اتجاه غير حداثي.
لا شك أن المقاربات الجيوسياسية التي طبعت مواقف الغرب من الحراك العربي، والهادفة إلى تطبيع العلاقة مع الحركات الإسلاموية تستدعي التأمل و التحليل. وفي هذا الصدد فقد بدا واضحا أن الغرب يراهن على استدراج الأنظمة الجديدة إلى منظومة الشرعية الدولية، في كل عناصرها القانونية والثقافية والمبدئية، والتي تجعل سيادة أية دولة رهينة بتوافر عنصري الشرعية الداخلية و الشرعية الدولية، وما يلازمهما من متطلبات معيارية لقيام الاعتراف الداخلي والخارجي.
بناء على ذلك، فإننا كحزب اشتراكي ديمقراطي حامل لمشروع يجمع بين تأصيل المجتمع انطلاقا من  مرجعيته الدينية، وقيمه المجتمعية النبيلة، وبين الانفتاح على المنظومة الإنسية والفكر التنويري، مطالبون بتوسيع رقعة الانخراط المجتمعي في مشروعنا المتفرد، بخصوصيته الجامعة بين الهوية والانتماء للعصر. فالتجربة التاريخية للمغرب تؤكد أن بلادنا لم يسبق أن أغلقت أبواب الانفتاح على الحضارات الأخرى، بحكم امتدادها الأندلسي شمالا والإفريقي جنوبا.
إن موقعنا الجغرافي في تقاطع الطرق بين مشارب حضارية مختلفة هو ثروة لا يمكن تبديدها أو تبخيسها بفعل الدعوة إلى مرجعية ماضوية تَبْتُر تاريخ الحضارة الإسلامية من ألمع فتراته الشاهدة على الدور المتميز للعلماء والمفكرين المسلمين الأوائل في الحركة التحديثية العالمية عبر نشره للعِلم الوضعي والفلسفة العقلانية والفن والإبداع. لذلك نعتبر أن كل محاولة تروم إلى تقليص رقعة المرجعية الحضارية للمغرب هي بمثابة بتر عضو حيوي من الجسد المغربي ،وبالتالي إضعاف مناعته الثقافية وتعقيم خصوبته الفكرية. إن حديثنا عن الحضارة المغربية يعني الحديث عن المغرب كتجربة تاريخية في شموليتها، بمخزونها الثقافي المتنوع و تراكماتها الفكرية و الإبداعية وبمشاربها الأيديولوجية وأرصدتها المعرفية وممارساتها التعددية المتنوعة.
إن المغرب بلد التعدد الذي لا يمكن اختزاله في بعد واحد، أو إعطاء الغلبة لبعد على آخر.  وإذا كانت الدولة الواحدة تشكل أعلى مستوى للتعبير عن تماسك عناصر التعددية، فإنها لن تُؤَمن دورها في صياغة وتدبير تناسق مستويات ومجالات التعددية إلا إذا تمكنا من صياغة تعاقد جديد لا يختزل في دستور 2011، الذي لا يمكن اعتباره إلا بداية لصنع منظومة كفيلة بدرء مخاطر المس بالحريات أو انتهاك التعددية الفكرية والإبداعية ،أو الاستبداد بالقرارات السياسية، أو تهميش المشاركة الشعبية في صنع القرارات ومراقبة ومحاسبة تدبير الشأن العام.
وفي هذا الصدد، لا بد من استحضار تجربتنا التاريخية هذه، التي تؤكد أن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني كانت دائماً علاقة تعاون إلا في ظروف الاستبداد أو الاستعمار أو التعسف على التعبير الحر. والمجتمع المدني هنا ليس فقط المنظمات غير الحكومية، ولكنه كذلك كل أشكال التنظيم الاجتماعي والثقافي التي تساهم في التنشئة والتواصل التكويني وحماية وحدة الكيان. لذلك فإن مشروعنا الاشتراكي الديمقراطي، يعطي لمؤسسات وتعبيرات المجتمع المدني دورا مركزيا في صياغة توازن ديناميكي بين منابع السلطة على المستوى المركزي والجهوي، والمستوى المؤسسي، والمستوى المجالي.
إن مشروعنا يقوم على خمس ركائز :
تقوية التماسك الثقافي:
تثمين المكونات الأمازيغية للهوية المغربية يعني أن الموضوع لم يعد هو صياغة مطالب بشأن الاعتراف، و لا درجة التعامل مع القضية الأمازيغية، بل إننا اليوم أمام ضرورة التسريع بتنزيل المقتضيات الدستورية المتعلقة بها، و ذلك وفق أجندة محددة. إن موقع اللغة الأمازيغية بوصفها لغة وطنية تطرح ضرورة تفعيل هذا المبدأ حتى تصبح اللغة في متناول كل المغاربة. فلا يعقل أن تكون اللغات الأجنبية سهلة الولوج و تحظى بدعم و برمجة رسمية في المنظومة التعليمية (وهو أمر إيجابي) في حين تظل اللغة الوطنية الأمازيغية دون أية إجرائية ترقى الى المستوى المنصوص عليه دستوريا و المتفق عليه سياسيا. إن إخراج المقتضيات الدستورية في هذا الباب إلى حيز الوجود ليس مجرد شعار أو فكرة مرتجلة. بل إننا نضعها ضمن مقاربة هوياتية تقدمية لها نتائج مؤسسية أكيدة يتعين التوافق حولها. فمنطلقنا هنا هو أنه لا يمكن أن نقر دستوريا بالأهمية الكبيرة للثقافة واللغة الأمازيغيتين دون أن نترقب لهذا الموقف توابع و مستلزمات ستظهر عاجلا أم آجلا، خاصة على المستوى المؤسسي السياسي. ولذلك من الضروري الانكباب على المنحى الذي اختاره المغرب في مقاربة المسألة الثقافية، لكي نستشرفً شروط تصريفها بنجاح، و ذلك بوضع خارطة طريق تمكن من رفع كل الحواجز عن تنمية و ترسيخ الثقافة الأمازيغية كمكون هويياتي لجميع المغاربة، و تؤسس لكل مجالاتها في إطار الدولة الواحدة واللاممركزة. و في هذا الصدد لا بد من الانتباه إلى أن تعددية المشارب الثقافية التي أقرها الدستور ليست مجرد تِعداد لمساهمات متنوعة أفرزها تاريخ المغرب، بل إنها قد تفرز على المدى المتوسط مواقف تجعل كل فئة تعيش الهوية الوطنية من منظورها الخاص. و هذا بالضبط هو ما يحدو بنا في الاتحاد الاشتراكي إلى الدفع نحو تأهيل الحقل السياسي، ليصاحب و يستوعب هذه التطورات المحتملة، و التي يعتقد البعض أنه يمكن تخطيها بالاعتماد على المرجعية الدينية فقط. والحال أن هذه المرجعية، رغم اختراقها للخصوصيات الثقافية و الجهوية، فإنها لا تلغيها، ولا يمكن أن تمنعها من الظهور. وكما هو ملاحظ في التجارب السياسية الجديدة، و التي أفرزها ما يصطلح عليه بالربيع الديمقراطي، فإن المرجعية الدينية هي بدورها مرجعيات متعددة، وهي ليست لاغية للمسألة الثقافية. و عليه فكلما تقدمنا في وضع خطة تدريجية لأجرأة مبدأ ترسيم اللغة الأمازيغية، كلما تمكنا من تحقيق الطفرة النوعية المأمولة.
تفعيل البعد الجهوي:
إن تفعيل مقتضيات الدستور ينذر بتحولات بنيوية، خاصة بالنسبة لإنتاج النخب و تراتبية السلط و تصريف المشروع الاقتصادي التنموي. و سيكون تنظيم المجال الترابي – في إطار الجهوية – عنصرا أساسيا في التحولات المرتقبة  في العشرية المقبلة. و حزبنا مطالب بتنزيل برامجه السياسية و الثقافية على أرض الواقع آخذا بعين الاعتبار البعد الجهوي، وذلك تحت شعار : «مرجعية اشتراكية ديمقراطية واحدة، و منظومة تأطيرية متعددة». وهذا يقتضي ابتكار أساليب تنظيمية جديدة على كل الأصعدة، عملا بمبدأ التأقلم المستمر مع الخصوصيات المحلية ومواكبة الابتكارات المتسارعة للحركة الاجتماعية والثقافية.
إن السياسة الجهوية في حاجة ليس فقط إلى مؤسسات منتخبة ذات صلاحيات تنفيذية، بل إننا و في إطار مشروعنا الاشتراكي الديمقراطي يجب أن نعمل على أن لا تُختزل فكرة ومقاصد الجهوية المتجددة في مسألة البنية الفوقية. بل يجدر بنا أن نضع لكل جهة مشروعا اجتماعيا مجاليا، الهدف منه صياغة برامج تنموية تشاركية تفتح الفرص أمام الفاعلين المحليين لتملك المقترحات المتعلقة بالميادين الاجتماعية و الثقافية و البيئية.
و في نفس السياق، و انخراطا منا في مقترح الحكم الذاتي، كحل عادل و دائم لقضية الصحراء المغربية، فإننا مطالبون باقتراح وسائل تدبير محلي جديدة تتناسب و تطلعات الساكنة. من الضروري اليوم، إشراك جميع الفاعلين المحليين (منتخبين، جمعيات، نقابات، أحزاب و سلطات) في تحديد النموذج الأنسب لتحقيق النهوض الاقتصادي والاجتماعي بأقاليمنا الجنوبية، والقطع مع ممارسات الماضي المبنية على التحديد المركزي للسياسات التنموية و تصريفها عبر القنوات التقليدية للتشاور. هذه القنوات، و إن كانت ناجعة في وقت ما، فإنها قد أثبتت محدوديتها في تأطير و توجيه المجتمع خاصة في ظل مقترح الحكم الذاتي.
إن الحزب لا يمكن أن يظل حبيس الأساليب الماضية و التي تعتمد على تدبير عمودي لخطته و برنامجه السياسي، بل إنه مدعو للسبق بتدشين منهجية تشاركية تفتح مجالات للنقاش و الحوار حول قضايا و هموم و تطلعات المواطنين انطلاقا من القرية و الحي ووصولا إلى الجهة. و ذلك بإيلاء التنظيم الجهوي أهمية خاصة وتمكينه من كل الصلاحيات في التدبير وإدارة الحزب على المستوى الجهوي.
تسخير أنماط التواصل والإعلام الجديدة:
إننا في زمن السرعة والمعرفة الافتراضية والشبكات التواصلية الموازية للبنيات الاجتماعية. والظاهر أننا في بداية ثورة من نوع جديد، لا تتحكم فيها آليات التنشئة التقليدية، برغم أن هذا لا يعني نهاية هذه البنيات لسبب بديهي، و هو أن هذه المؤسسات التقليدية مثل الأسرة والمدرسة والحي والجمعية ومقر العمل والمسجد وغيرها، كلها منابع مغذية للشبكات الاجتماعية الافتراضية. غير أن الجديد هو عنصر السرعة في التواصل، والذي أصبح ينافس القنوات القديمة في الاتصال مثل الصحافة المكتوبة والسمعية-البصرية.
المقولة التي تقول « إن العالم أصبح قرية صغيرة»، تعني أن المسافة الجغرافية لم تعد عنوانا على المسافة المعرفية و لا الثقافية. إننا في صلب حرب للمواقع الإلكترونية بمواصفاتها الولوجية الواسعة المتاحة للجميع، دون تمييز بين الأعمار ولا الأجناس. و هو ما يعطي لبعض الإشكاليات، كالتكافؤ بين الرجل و المرأة، و إدماج الشباب في الحياة العامة، صيغا جديدة سِمَتُها  الأساسية تعاظم التطلعات و ملحاحيتها.
القضية النسائية في قلب صراع المشاريع المجتمعية:
اليوم أكثر من أي وقت مضى تبرز المسألة النسائية في صلب إشكالية التحديث المجتمعي والسياسي. سواء تعلق الأمر بدورها في البنيات الاجتماعية، مثل الأسرة، أو في ما يتعلق بتراتبية المواقع داخل المجتمع، أو بالنسبة للمساهمة في مجال الإبداع الاجتماعي والثقافي، أو في ميادين صياغة القرارات المهيكلة للسلط السياسية والقانونية والاجتماعية.
إن المرأة المغربية في قلب صراع المشاريع المجتمعية المتباينة، و لذلك لا يمكن للمشروع الاشتراكي الديمقراطي أن يتقدم و يكتسح مجالات جديدة، دون أن تتبوأ  النساء، داخل الحزب و الحركة الجماهيرية، مكانة ريادية. لذلك فإن برامجنا التنظيمية و السياسية المقترحة يجب ان تعرف تسريعا ملموسا لإدماج المرأة في الدواليب التقريرية للمشروع المجتمعي الحداثي، و ذلك عبر توسيع دائرة الحقوق، و فتح مجالات المعرفة، و تشجيع الإبداع و الابتكار الاجتماعي و الثقافي، و رفع المعيقات المادية و المعنوية لانخراط النساء في بناء المجتمع الحداثي.
لقد كنا سباقين في حكومة التناوب التوافقي الى طرح مبدأ الكوطا، ونجحنا في ذلك. غير أننا اليوم نستشعر مخاطر قد تعصف بالمكتسبات. إننا نقول بصوت مرتفع، أن حقوق المرأة ودورها مع الرجل، وعلى قدم المساواة، لن يقبل أي تراجع، و لا يمكن أن يخضع لتصورات أيديولوجية منافية للتوجه الذي اختارته بلادنا، والقاضي بالالتزام بالمواثيق و المعاهدات الدولية المنعشة لدور المرأة في المجتمع والحامية لحقوقها المادية والمعنوية.
إننا عازمون على العمل من أجل التطبيق و الإعمال الديمقراطي للدستور، و الإسراع في إحداث هيأة المناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز، و إخراج قانون لمناهضة العنف ضد النساء يضمن الوقاية و الحماية من جهة و عدم الإفلات من العقاب من جهة أخرى، وإصلاح القوانين الجنائية، المدنية، التجارية، الشغل إلخ.، و على الخصوص مدونة الأسرة، بما يضمن مبدأ المساواة بين الجنسين.
إدماج الشباب في الفعل السياسي والمجتمعي:
إن أساليب إدماج الشباب في الحياة العامة تغيرت، بحيث أصبحت واقعا في الحقل الافتراضي، فكيف يمكن أن تظل افتراضية في الحقل الواقعي؟ و حتى لا نستخلص من هذا التطور أننا أمام خيار ما، في مقاربتنا لمسالك التأطير السياسي، بين الطرق التقليدية والطرق والمستحدثة، فإننا  نقول أن الثورة الرقمية اليوم هي التربة التي تنبت فيها أساليب التنظيم و إنتاج الفكر و صنع و ترويج الخبر و صياغة الفعل قبل خروجه إلى أرض الواقع.
بناءً على هذا التحول الهائل، فإن المسألة التعليمية أضحت من الأولويات التي لم يعد ممكننا التعاطي معها من منظور ميثاق التربية و التكوين، الذي تقادم في جوانب عدة من مخططاته. إن معالجتها تتطلب تجديد الرؤى سواء على مستوى بنيات أو مناهج أو مضامين التكوين، مع الأخذ بعين الاعتبار التوجهات الحديثة في المنظومات التعليمية على المستوى العالمي. إن المنظومة التعليمية مدخل، في نظرنا، لتأمين المناعة الثقافية و الاندماج الاجتماعي. و الحزب لا يمكن أن يكون متخلفا عن هذه الثورة التي هي عنوان الحداثة بامتياز.
التحرك المتميز في المجال السياسي والعمل من أجل تطوير المنظومة السياسية برمتها.
يسود إحساس شبه عام لدى المناضلات والمناضلين بأن الاتحاد الاشتراكي في حاجة إلى خط سياسي واضح المعالم، و دقيق بما يكفي ليُؤَمن له هوية بارزة المواصفات، تشكل عناصرها المتباينة منظومة متناسقة يسهل على العموم ملامستها. إننا حزب اشتراكي ديمقراطي، قيمه التكوينية هي التضامن و التكافل و العدالة الاجتماعية و إنتاج الثروات في إطار التنمية المستدامة. و هي القيم التي نتقاسمها مع الحركة الاشتراكية الديمقراطية العالمية. فمرجعيتنا الأممية هي مدخلنا كفاعلين على الساحة الدولية انطلاقا من تشبعنا بالمنظومة الإنسانية. هل هذه المرجعية الكونية مزعجة أو منافسة أو متضاربة مع الهوية المغربية أو الحضارة الإسلامية ؟ هل هي كما يقولون «علمانية»، و بالتالي نقيض للمقومات الدينية؟ لا بد من الرد على الادعاءات التضليلية، التي لا نشاطر أصحابها اختزال الدين الإسلامي في بعد واحد هو الأصولية المتحجرة.
إننا – وفي إطار التوضيح – نضع هويتنا الحداثية في امتداد الفكر الإسلامي العقلاني، و هو الأمر الذي يعني رفض المقاربات التي تدعي أن سبب ما يوصف باضمحلال الحضارة الإسلامية يعود إلى شيء يسمونه التخلي عن المنظومة التي أفرزتها فترة الأسلاف الصالحين. إننا نقول لهم، إن ما يقترحون كنموذج لا يمكن أن يعيد إنتاج التجربة التاريخية السابقة، بل إنه يؤدي إلى التعصب، و الاستبداد بفرض هيمنة الرأي الواحد، و في النهاية تشجيع التشيع و التطاحن العنيف و التهميش عن التاريخ الحديث. و تشهد عدة حالات على ما أدت إليه الحركات الأصولية من انتكاسات بالنسبة للوحدة الوطنية و البناء المجتمعي.
إن خططنا السياسية ستظل وفية لتاريخنا السياسي، الذي يجعل من البناء الديمقراطي مشروعا مجتمعيا شموليا محاوره الأساسية كالآتي :
تنزيل الدستور عبر قوانين تنظيمية متقدمة تعطي النص التأسيسي المدى الذي يفتح المجال أمام  قفزة نوعية في البناء الديمقراطي، خاصة منها تنمية الجيل الجديد من حقوق المواطنين والمسؤولية تجاه الأجيال المقبلة؛
تنظيم سلطة الدولة و أجهزتها انطلاقا من مبادئ فصل السلط ومراقبتها، وسيادة كلمة الشعب عبر الانتخاب الحر و النزيه و المحصن من تدخل اللوبيات، وسيادة القانون فوق كل السلط، و ذلك بإخضاع الجميع للمحاسبة على انتهاك المساطر و النصوص الضامنة للحريات الفردية و الجماعية و الحامية لحرية التعبير؛
مواصلة الإصلاحات الدستورية للوصول إلى إقامة ملكية برلمانية ديمقراطية و اجتماعية؛
إصلاح منظومة العدالة بما يحقق الاستقلال الفعلي للقضاء و دعم دور المؤازرة القضائية؛
توطيد مقومات المناعة الوطنية و حماية الوحدة الترابية و الوطنية؛
تنويع أساليب المشاركة الشعبية في صنع القرارات؛
حماية الحريات النقابية و الجمعوية و إلغاء عقوبة الإعدام و نبذ أساليب التعذيب، وضمان المحاكمة العادلة؛
التشبث بالبناء المغاربي كمشروع استراتيجي كفيل بانخراط منطقتنا في الشراكة المتوسطية و إحداث طفرة اقتصادية حقيقية؛
مواصلة الانخراط في المواثيق الدولية المؤهلة للأنظمة السياسية و الحقوقية و الثقافية و الجماعية و البيئية و المساهمة في استتباب الأمن الجهوي و الدولي.
إن هذه المحاور التي نسوقها على سبيل المثال لا الحصر يمكن أن تشكل قاعدة لتكوين جبهة ديمقراطية مع القوى الوطنية و في مقدمتها قوى اليسار. إن حزبنا من موقعه الحالي، يحمل على عاتقه مهمة إصلاح النسق السياسي الحزبي، لكي تسترجع الممارسة السياسية نبلها و جاذبيتها بالنسبة للقوات الصاعدة. و في هذا الصدد فإن أبواب الاتحاد الاشتراكي مفتوحة أمام الحركة الجماهيرية الشبابية المطالِبة بالتخليق و الإصلاح. ونحن لن ندخر جهدا لبلوغ هذا الهدف، سواء في المجال السياسي أو النقابي أو الجماهيري عموما.
لقد شهد المغرب نقاشا مفتوحا و واسعا حول الإصلاحات السياسية و المؤسسية و هو ما يشكل في حد ذاته نقلة نوعية في الفضاء السياسي. لقد سقطت الطابوهات، و أُطلق العنان للتعبير الحر، و أثر كل هذا في صيرورة الإصلاح. و لا بد أن نقول بأن باب النقاش لا زال مفتوحا، و لا يمكن للاتحاد أن يتخلف عن القيام بدوره في إغناء هذه الصيرورة بتجربته و حنكة مناضليه. إن البلاد في حاجة للنطق بالكلمة الجريئة الملتزمة و التي لا يُطلب منها شهادة حسن سيرة كي تُسمع من أي جهة كانت. و في هذا الصدد لا بد من الرد الصارم على كل من يتخيل بأن الاتحاد في حاجة لنبراس خارجي يقود تفكيره أو مواقفه أو عمله.
إن الموقف المستقل ليس مطلبا بل إنه أمر حيوي. و ما يؤمن استقلال القرار هو وضوح الخط المذهبي و السياسي و الجرأة في الدفاع عن قرارات الحزب في كل محطة محطة، والمحاسبة المستمرة للقيادة التي لا تتصرف بموجب تفويض بل بحكم دفتر للتحملات ينص على الأهداف و يحدد الوسائل و يضبط تقويم النتائج. و هذا يعني أن قيادة الاتحاد في المحطة المقبلة يجب أن تكتسي طابع الزعامة الجماعية فالمنتظر هو استرجاع زعامة الحزب داخل المجتمع و ليس إفراز زعيم أو زعماء داخل الحزب. إن الاتحاد الذي سينبثق عن المؤتمر التاسع لا يمكن أن يعيد إنتاج أساليب في التعبير و الفعل داخله لا تتناسب و تطلعه نحو التحديث و الدمقرطة. إن رهان المؤتمر التاسع هو التجديد في إطار الثوابت و أهمها هو أن يعلم الجميع بأن اتحاد اليوم هو ذلك الحزب الذي جعل من النضال من اجل الديمقراطية و التحرير عنصرا بنيويا في تشكيل كينونته.
وإذا لم نعمل بمبدأ الجرأة في الخطاب و الإقدام في الحركة، فإننا سنكون قد تخيلنا عن هويتنا و عن ديمومة رسالتنا. فقيادة الاتحاد إما أن تكون مِقدامة أو لا تكون. الحركة الجماهيرية تنتظر منا أن نُهيئ إطارا لاستقبال الرأي الديمقراطي و الحداثي المتميز، مهما كلف ذلك على المدى القريب. فالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لن يحيا إلا على كلمة الحق و لن يسمو إلا بحمل هموم و تطلعات الجماهير الشعبية.
المطلب الديمقراطي اليوم واضح، تتوسطه إشكالية تطوير المنظومة السياسية برمتها بما فيها المؤسسة الملكية. و نحن الذين ناضلنا عقودا عديدة من أجله، أدرى بمتطلبات ذلك وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتدرج نحو الملكية البرلمانية. نحن، الاتحاديات و الاتحاديون، بوعينا التاريخي نقول أنه يتعين التخلص من الطقوس و العادات المخزنية، و توضيح أكثر لتراتبية السلط و توزيعها. إننا بقولنا هذا، لا نساير نوعا من الموضة الخطابية، بل إننا نضع مطلبنا هذا ضمن مقاربة تاريخية تَعتبِر أن الملكية اليوم فاعل أساسي في المشروع الحداثي بقدر ما كانت بالأمس عنصرا حاسما في المشروع الوحدوي و قبله المشروع التحريري.
التغيير و الابتكار المجتمعي يتم عبر قناتين : إما أنه ينبثق من القاعدة عبر نضج التحولات الاجتماعية و الثقافية، أو من القمة عبر تدخل الدولة في سن قوانين و ضوابط تحديثية. إن تجربة المجتمعات النامية شاهدة على ضرورة تدخل سياسة و أجهزة الدولة في مسار التحديث. لذلك فحين نقول بضرورة تطوير نظامنا الملكي فإننا نربط هذا بتحليل مفاده أن ملكية عصرية أنجع من ملكية تقليدية في الدفع بالتحديث السياسي و المجتمعي. إن مطلب الاصلاح يجب أن لا يظل محبوسا في مقاربة معيارية قانونية بل يجب أن يسمو إلى المستوى التاريخي كي يكون التأهيل الديمقراطي شموليا و غير قابل للانحراف عن مقاصده الحداثية. فالملكية في بلادنا تقف على رجلين : من جهة إمارة المؤمنين التي تسهر على تأمين وحدة العقيدة و المذهب، و من جهة ثانية على تحفيز و مصاحبة دينامية التحديث.
إننا سنكون قد دشنا لعهد و تعاقد جديد إذا تمكن كل فاعل، من موقعه، من إقامة توازن ذكي و فعال بين المكونات الأصيلة للحضارة المغربية و انفتاحها على منظومة القيم الإنسانية الكونية. إلا أننا لن نبلغ هذا الأفق اذا لم ننتبه إلى استراتيجيات الفاعلين السياسيين تجاه الدولة. و في هذا الصدد فإن الدولة بُعدين : أجهزة الدولة التي يمكن أن يلجها الفاعلون السياسيون عبر صناديق الاقتراع، و سلطة الدولة التي يجب أن تخضع للمقومات التأسيسية لدولة الحق و القانون، و نعني بها الكتلة القانونية و المبدئية التي لا تتأثر بتغير الأغلبيات الانتخابية، وفي مقدمتها الوحدة الوطنية والترابية والخيار الديمقراطي.
إنها كتلة مرجعية، لا شك أنها قابلة للتطور في أفق توطيد الحقوق الفردية و الجماعية والانخراط الأوسع في منظومة المبادئ المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية. فقوة هذه الكتلة هي التي تمنع المنافسة السياسية من أن تتحول الى إقصاء سياسي، و التفوق الانتخابي إلى هيمنة مؤسسية، و سلطة الدولة إلى استبداد شمولي، و الصراع السياسي إلى شقاق مجتمعي.
إننا مطالبون بمواصلة النضال من أجل توسيع و تقوية هذه الكتلة التي تمنح المشروعية للحاكمين أو تنزعها عنهم اذا تخطوا حدودها أو انتهكوا حرمتها. إن الدستور بوصفه الإطار الجامع لمكونات هذه الكتلة القانونية و القيمية هو المرجع الذي يتعين على بلادنا أن تحسم في مكوناته الأساسية في الأجل المنظور حتى تتوضح للأجيال الصاعدة الآفاق المستقبلية للانخراط في تشييد مغرب الغد.
اتحاد الغد : استعادة المبادرة في الفعل والريادة في الموقف.
في فترات متعددة من تاريخ حزبنا وجدنا أنفسنا أمام سؤال تقييم التجربة والنقد الذاتي. فكان لكل فترة خصوصيتها:
في المؤتمر الثاني، سنة 1962، طُرحت مسألة الهوية و كان التقرير المذهبي، الذي أعده الشهيد المهدي بن بركة، أول و أهم محاولة للإجابة عن الهوية بطرحه الاختيار الثوري كأرضية أيديولوجية وبسط نقد ذاتي للتجربة الحزبية. في سنة 1965، طُرح موضوع التنظيم، و جاءت المذكرة التنظيمية لإرساء قواعد التنظيم الثوري على نمط المركزية الديمقراطية، و قامت الحركة التصحيحية التي قادتها اللجنة الإدارية في يوليوز 1972 وفصلنا في موضوع وحدة القيادة و وحدة التوجيه.
شكل المؤتمر الاستثنائي سنة 1975 طفرة نوعية مفضلا اجتناب الخوض في تفاصيل التجربة الاتحادية و التركيز على تدقيق الخط الأيديولوجي، و حل المؤتمر الثالث سنة 1978 لإقرار خط سياسي راديكالي ينشد إقامة ملكية برلمانية و جدد المؤتمر الرابع سنة 1984الصلة بالاجتهاد الفكري عبر وثيقة «أزمة المجتمع و البناء الدمقراطي» التي ظلت معلقة،
كان المؤتمر الخامس، سنة 1989، مؤتمر أزمة تخلخلت فيها بنية الحزب باقتحام الحركة النقابية حلقة الصراع الحزبي الداخلي. و خلال كل هذه المحطات كانت أبواب الولوج إلى القيادة موصدة, حيث كانت الفعاليات الشابة تصطدم بجدار المشروعية التاريخية. ولم تفتح نافذة المشاركة في الجهاز القيادي إلا في المؤتمر السادس سنة 2001 الذي حل و الحزب يدشن منعطفا كبيرا في تاريخه عبر تحمله مسؤولية التناوب التوافقي.
انعقد المؤتمر السابع سنة 2005 الذي أدى إلى كشف أزمة تقاطع السياسي و التنظيمي. و لم نحسم لا في هذا و لا في ذاك حتى تفجرت إشكالية مشروعية القيادة و هو الأمر الذي فتح النقاش حول موضوع التجديد الهيكلي لنمط تدبير شؤون الحزب و خطه السياسي. خاصة بعد إنتخابات 2007 وما تلاها من نقاش حول الجدوى من استمرارنا في العمل الحكومي من عدمه، والذي انعكس على الشوط الأول من المؤتمر الثامن الذي تأكد عجزه عن تجديد المشروع السياسي وهو ما تم تجاوزه في الشوط الثاني من المؤتمر بسحب المشاريع التي لم يصادق عليها والتوافق على الأرضية السياسية والبيان العام. و تأكد للجميع أن تقويم دور الحزب في المجتمع لم يعد شأنا داخليا للاتحاديين فقط، بل أصبح يهم كل فئات المجتمع التي أصدرت حكما قاسيا في حقه. و لا نَعني هنا نتائج الانتخابات، بل إن أخطر ما يتعرض له الحزب هو النقد اللاذع الذي يصدر عن النخبة التي تلعب دورا أساسيا في تكوين الرأي العام.
إن استحضارا سريعا لبعض المحطات التي مر منها حزبنا، يبين أننا تطرقنا لمسألة تقييم التجربة في كل المؤتمرات و كل اللحظات الأساسية لمسارنا التنظيمي. و في كل مناسبة نؤدي بشكل أو بآخر ثمن المكاشفة غاليا. حيث أننا نظهر و كأننا نقوم بذلك التمرين لأول مرة، ناسين أو متناسين تراكمات النقاش الحاد الذي صاحب كل المقاربات المتباينة. في مؤتمرنا التاسع، نحن مطالبون باستحضار كل مغازي النقاشات السابقة آخذين بعين الاعتبار أننا لسنا بصدد هدم كل شيء لإعادة بناء كل شيء.
إننا بصدد صياغة أجوبة على أسئلة تطارد كل مناضل في كل المواقع التنظيمية والسياسية والمجتمعية. و من ثمة يتضح أنه من بين المهام الأساسية المطروحة هو أن لا نجعل من موضوع بناء الحزب و تقييم التجربة، موضوع شقاق و تنافر. نحن نَنْشُدُ ملامسة الواقع الحزبي من منظور تقريب الرؤى و رص الصفوف. كذلك فإن تفحص التجربة لا يمكن أن يكون مُوَفقا إذا اقتصر على قراءات فردية, لأن هذه الأخيرة تبقى جد ذاتية متأثرة بتجربة الأشخاص وليس بالتجربة الجماعية، الشيء الذي يجعل مثل هذه القراءة الفردية عرضة لإسقاط التمثلات الشخصية على الواقع الذي أفرزته تجربتنا المشتركة.
إن المؤتمر يعتبر لحظةَ التعبير الحر و الملتزم و كذلك فرصةَ التقوية و التلاقي حول الأساسي. إننا نناشد الجميع لنضع اليد في اليد كرد على أساليب الإقصاء التي سادات في أوقات سابقة. بالمؤتمر التاسع سينتصر المنظور النضالي و الوحدوي على المنظور الانتظاري والموقف التشاؤمي. ففي كل تراكمات تاريخ الاتحاد نجد مدخرا من الدروس التي ستساعدنا على فتح المسالك الفكرية و العملية المؤهِلة لتجميع القوة و تعبئة الطاقات المبدعة والصانعة للجديد المنتج. إن هذه الطاقات هي حليفنا في المشروع المُجَدِد و التحديثي للحزب. فالحادثة تبتدئ باعتماد منهجية عقلانية في مقاربة تجربتنا و عند صياغة البدائل الكفيلة بتحقيق نقلة نوعية تُدَشن لعلاقة جديدة بين المناضلين من جهة و بين الحزب والمجتمع ونخبه التقدمية من جهة أخرى.
كثيرة هي التحاليل التي تُرجع أزمة العمل السياسي، و تباطؤ مسار البناء الديمقراطي، إلى تقهقر الحضور الاتحادي في ميادين الصراع الفكري و الإيديولوجي، و تخلفه عن مواكبة وقيادة الحركة الاجتماعية الواقعية. والاتحاديات والاتحاديون، يشاطرون خلاصات هذه المقاربات، بل إن أصواتا متعددة تطالب – أكثر من هذا – بإحياء الفكر الاتحادي و العودة بقوة إلى الساحة النضالية. إنها مسؤولية ملقاة على عاتق القيادة الجديدة التي عليها أن تتحلى بالحنكة و القتالية، وأن تدشن الطفرة النوعية التي يتطلع إليها المناضلون والمتعاطفون والفئات الشعبية بصفة عامة. والبداية يجب أن تكون من إفراز قيادة متماسكة و متحدة حول التوجهات التي ستصدر عن المؤتمر وعن الهيئات المقررة الوسيطة. وعلى القيادة المنبثقة عن المؤتمر أن تكون عملية و حاضرة و مداومة على السبق و الرد والمبادرة. إنها في نظرنا قيادة وريادة؛ قيادة تُحدث تغييرا نوعيا في التعاطي مع المطالب المجتمعية وفي تدبير الشأن الحزبي.
من حيث التدبير الحزبي، على القيادة المقبلة أن تحدث قطيعة حقيقية مع طُرق الإدارة والتسيير من حيث تأهيل الموارد البشرية، تحديث الهياكل الإدارية، تفعيل الحكامة في التسيير بما في ذلك إخضاع ميزانية الحزب للافتحاص السنوي و تصفية الوضعية القانونية لكل ممتلكات الحزب، الخ.
على الصعيد الإعلامي، نحن مطالبون بدعم الإعلام الحزبي الداخلي و الصحافة الحزبية وتأهيلها لتحتل مكانة متقدمة في المشهد الإعلامي الوطني. فالاتحاد حزب التواصل والحضور المستمر و الناجع في كل المنابر : هذا هو ما سيساهم في قطع الطريق على المغرضين الذين يبتغون النيل من صورة الحزب داخل المجتمع. فلا بد أن نعي أن الاتحاد معرض بشكل خطير لحملات تنكيل الهدف منها تيئيس الرأي العام من العمل السياسي الملتزم و مضايقة التعبئة الجماهيرية من طرف القوى التقدمية. لا يمكن للحزب أن يخسر المعركة الإعلامية التي تبقى من بين التحديات المطروحة بإلحاح على القيادة الحزبية و في كل المستويات.
مصاحبة الطبقة العاملة عبر حركتها النقابية المناضلة في تطوير موقع قوة العمل داخل دورة الإنتاج وفي منظومة التوزيع العادل لفوائد التنمية الاقتصادية. و في هذا الصدد فإن حزبنا سيكون بجانب دينامية التقارب بين مكونات الحركة النقابية اليسارية و وحدة العمل النقابي الذي يشكل بالنسبة لنا صلب الحركة الجماهيرية المتجهة نحو التحديث والديمقراطية.
على الصعيد الدولي، فإن حزبنا الذي يحظى بحضور هام على الساحة العالمية يعتبر من الروافد الأساسية للحركة الاشتراكية الأممية و التي تساهم في صنع التوازنات الناجعة و الحاسمة مع النزعة الشمولية لقوى السوق. لذلك فالقيادة ستكون مدعِمة للتواجد الحزبي على الساحة الدولية و في ذلك إشارة للجميع على انخراط بلادنا في القيم التقدمية و التحررية الكونية.
من حيث الأنماط التنظيمية، فالاتحاد الاشتراكي حزب ذو تجربة طويلة و متنوعة في صياغة أنماط متقدمة مكنته من إنجاز الكثير في مجال تحديث أشكال التعبير و العمل والسلوك الحزبي في بلادنا. و لعل ما يميز تجربتنا أكثر هو قدرتنا على ابتكار مناهج كانت دوما عنوانا على الحداثة. و ليس بغريب ان تكون المسألة التنظيمية دائماً في صلب الإشكالات التي تباحثنا و تجادلنا و تصارعنا حولها و كانت النتيجة دوما هي مقاومة المقاربات المحافظة. و لم يقتصر عملنا الدؤوب في سبيل التحديث التنظيمي على تطوير أساليب وأشكال الحضور الحزبي في الساحة النضالية، بل يلاحظ أن مناهجنا أثرت في المشهد الحزبي العام في المغرب.
نحن اليوم بصدد تحولات سياسية و مؤسسية عميقة في البلاد، و لا يمكن أن نصاحبها ونؤثر فيها دون إدخال ابتكارات على مناهجنا، وذلك عبر الأخذ بعين الاعتبار ما يحمله مجتمع التواصل من مستجدات في مجال التعبير و التعبئة و الفعل و التوجيه. مما يستدعي إدماج مداوم في كل مقر حزبي متمكن من طرق التواصل الحديثة.
إن الثورة الرقمية توفر لنا فرصة ليعم العمل العقلاني و الحضور المتواصل كل فضاءات التنظيم الحزبي عموديا و أفقيا. و في هذا الصدد سيكون علينا أن ننكب و بسرعة على وضع خطة رقمية مع جدولة زمنية يكون أمدها الأقصى ستة أشهر قبل انطلاق الانتخابات المحلية و الجهوية. كما سيكون علينا حل مشكل المقرات بدءاً من الجهات التي لا بدا أن نوفر لكلٍ منها مقرا وصولا الى الأقاليم و الفروع. وأخيرا لا بد من مرجعة جدرية لطريقة عمل تنظيماتنا القطاعية خاصةً الشبيبية والنسائية.
إن الانبعاث الجديد للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لن يتحقق بالمشروع المجتمعي والخط السياسي والبرامج والأفكار وحدها، بل يحتاج إلى رجال ونساء وشباب من مختلف فئات المجتمع تؤمن بتلك المشاريع، وتترجمها في حياتها اليومية، وتجعلها نبراسا لها في خدمة مصالح الفئات الشعبية التي تستهدفها. وهو ما يقتضي النهوض بالوضع التنظيمي للحزب على جميع المستويات، للتغلب على الأعطاب التي رصدها الاتحاديات والاتحاديون في التقرير التركيبي لاستحقاقات 2007، وفي مشروع المقرر التنظيمي الذي عرض على المؤتمر الوطني الثامن وأحاله على الندوة الوطنية للتنظيم، وفي التقرير الصادر عن الندوة الوطنية حول التنظيم، وأيضا في التقارير والمقترحات التي أعدتها لجنة تفعيل الأداة الحزبية والتكوين المنبثقة عن المجلس الوطني، وأخيرا في مشروع المقرر التنظيمي المعروض على المؤتمر الوطني التاسع. إن هذا التراكم الغني بالأفكار والمقترحات، يمكن الحزب اليوم من التوفر على الأدوات والمساطر الكفيلة بمعالجة الأوضاع التنظيمية، علما بأن المساطر ليست كافية وحدها لاستنهاض هِمَم الاتحاديات والاتحاديين، بل يلزم أن تلعب القيادة الحزبية دورا أساسيا في إعادة اللحمة بين المناضلات والمناضلين في مختلف المواقع، واسترجاع روح الأخوة وقيم التضامن التي جعل منها قادتنا ومعلمونا في مدرسة الاتحاد أساسا وسندا في مواجهة المحن والشدائد ومحاولات الاجتثاث التي استهدفت الحزب في مسيرته الكفاحية الغنية بالدروس والعبر.
لنجعل من سنة 2013 سنة إعادة البناء وتوحيد العائلة الاتحادية:
إنني ألتزم أمام جميع الاتحاديات والاتحاديين بأن أعمل في حالة وُفقت لتولي مهمة الكاتب الأول للحزب، أن أجعل من مهمة إعادة بناء تنظيمات الحزب إحدى المهام الملحة والمستعجلة، حتى يكون الحزب جاهزا لمواجهة الاستحقاقات المقبلة بما يلزم من الحزم والجدية، وبما يمكن من إيقاف مسلسل التراجع الذي انطلق منذ الاستحقاقات الجماعية لسنة 2003.
سأحرص في القيام بهذه المهمة على ضمان انخراط جميع الاتحاديات والاتحاديين في مسلسل تجديد جميع الهياكل الحزبية خلال سنة 2013، انخراطا مسؤولا وواعيا، دون إقصاء أو تهميش لكافة الطاقات الحزبية العاملة منها والمُعطلة وسأحرص كل الحرص، إلى جانب أخواتي وإخواني في قيادات الحزب وطنيا، جهويا، إقليميا ومحليا، على جعل مناسبة تجديد الهياكل الحزبية فرصة لاستيعاب الطاقات والكفاءات التي يزخر بها المجتمع وتُقاسمنا قناعاتنا الاشتراكية الديمقراطية الحداثية، بما يساعد على انفتاح حزبنا على محيطه، وعلى تجديد نخبه، وعلى جعل تنظيماته جذابة، فاعلة، ومنغرسة في تربة المجتمع.
كما ألتزم بالعمل على إعادة توحيد الطاقات الاتحادية التي يجمعنا وإياها التاريخ النضالي المشترك، وفرقت بيننا وبينها ملابسات تدبير الخط السياسي في مراحل سابقة، يقينا مني أن هذه الوحدة هي رغبة جماعية لكل الاتحاديات والاتحاديين، وهي أيضا ضرورة نضالية تفرضها التطورات السياسية التي نعيشها اليوم، وحاجة مجتمعية يفرضها علينا جميعا مستقبل بلدنا وحماية مكاسبه الديمقراطية التي دفعنا من أجلها جميعا التضحيات الجسام.
ولتكن أهدافنا التنظيمية خلال هذه المرحلة:
توسيع قاعدة الحزب في أفق تغطية 50 في المائة من الجماعات الترابية بفروع حزبية مهيكلة،
تحقيق نسبة تغطية 70 في المائة من الدوائر في الانتخابات الجماعية المقبلة،
توسيع قاعدة المنخرطين الى 50.000 منخرط في أفق المؤتمر الوطني العاشر.
لهذه الأسباب مجتمعة وغيرها، نقترح أن يكون شعار المرحلة الحزبية المقبلة هو : «استعادة المبادرة»، بكل ما يتطلبه هذا الشعار من مسؤولية و عزم وثقة.


بتاريخ : 21/12/2024