الأزموري بين التاريخ والتخييل

قراءة في رواية « جزيرة البكاء الطويل» لعبد الرحيم الخصار

 

«جزيرة البكاء الطويل» لعبد الرحيم الخصار، صدرت بعد ديواني «عودة أدم» و»القبطان البري» اللذين يعرضان نماذج من الجحيم البشري، يكابدها بطل مأساوي، بسردية غنائية مميزة. ولأن الرواية – بشهادة الكاتب /المؤلف – كتبت بالتزامن معهما، فهذا يعني وجود وشائج عميقة بين الأعمال الثلاثة، هو ما حدا به/بالمؤلف لأن يجعل من الرواية فضاء لتجديد سؤال الأنا والآخر، من خلال سرد سيرة غيرية لبطل مشحون بطاقة رمزية: «الأزموري» الذي لا تسنده وثيقة تاريخية محكمة موثوقة أو أسطورة مكتملة المعالم بل هو سجلات تاريخية متباينة وأحيانا متضاربة، إذ تورد الوثائق أنه بيع للمستعمر البرتغالي في القرن السادس عشر خلال مرحلة تجارة العبيد، الثلاثية، بسبب الفقر والقحط الذي ضرب المغرب، وفي رواية أخرى أنه سيق أسير معركة ضارية بين البرتغاليين والمغاربة… الخ كما أن نهاية «البطل» أكثر غموضا من بدايتها، ففي رواية ينتهي معالجا لسكان قبيلة من الهنود الحمر أو معتقلا، وفي رواية مغايرة ينتقم الهنود منه حرقا بتهمة خيانتهم الخ. نستنتج من هذا الشتات أنه شخصية غير مكتملة، بل حكايات متشظية ومبتورة في تاريخ ملتبس. لقد وجد الكاتب في الأزموري فرصة لترويض الوثائق التاريخية والمرويات التراثية الشفوية بالخيال الروائي، لصياغة رؤيته للذات وللعالم، وهي مغامرة جعلته يتعقب حقيقة الأزموري وأثره أو بالأحرى حقائقه النسبية المتضاربة، لدواع سياسية ودينية وثقافية واقتصادية، محاولا استنباته في مجال أو سجل مختلف أساسه الفن والخيال والاحتمال، ومن أجل ذلك، وجد نفسه مضطرا الى استنطاق البياضات والمسكوت عنه، لإعادة الاعتبار لرمز مغربي إفريقي مختلف عن البطل الغربي الأبيض والأحمر الهندي.
إن شغف الكاتب بالأزموري والهنود الحمر ليس حالة طارئة، بل كان حاضرا في أناه العميقة، نقرأ في ديوانه «أنظر وأكتفي بالنظر»:
(حين أنظر إلى وجه جدتي
كأنما أنظر إلى وجه امرأة من الهنود الحمر.)
ثم يطالعنا الهندي مرة أخرى في «القبطان البري»:
(بصوت مبحوح
أردد أغنية رفعها رجل هندي
قبل أربعة قرون في الشعاب
وأدفع قطيعا من الكلمات البرية
جهة الغرق)
هذا الحضور الهندي في الرواية يجد ينابيعه الأولى في الطفولة والشعر والثقافة الشعبية والسينما أيضا، نحدس ذلك من نهاية الرواية التي تتناص مع نهاية كثير من أفلام الهنود الحمر حيث يتوارى البطل بين الجبال وخلف الوهاد:
(وقفت مثقلا بما كنت أفكر فيه، أدرت ظهري لنهر الزوني، ومشيت بين الوديان والأدغال، عبر مرتفعات ومنحدرات وعرة، وفي طريق لا أعرف إلى أين تنتهي).
نهاية مفتوحة على ممكنات سردية وأسئلة تاريخية عن نهاية بطل كسير بلا ذهب ولا بطولة، وقد أودعنا رسالة إنسانية:
(لا تشغل بالك بالبحث عن الذهب، ابحث عن نفسك فأنت هو الذهب)
لذا يظل هاجس المبدع هو الحفر في الذات:
(الرجل الأعمق وهو الأجدر بأن يحكي ويجلس الآخرون ليصغوا إليه) وبلوغ العمق اقتضى منه التنقيب في سجلات مختلفة، لعل أهمها ما يحفل به السجل الأدبي من ذخائر شعرية، كأشعار الهنود الحمر وأساطيرهم، وقد استثمر بعض أناشيدهم وأدعيتهم مثل:
«من أشعار الهنود الحمر» – هوغو جاميوي ت. وليد سويركي
«من صلوات الهنود الحمر» ت. فوزلا محيدلي –
«تيكومساه زعيم قبيلة الشاوني». ت إبراهيم درغوتي –
« ستندينغ بير زعيم قبيلة لاكوتا». ت احمد حميدة)
والأكيد أن الكاتب اطلع على المنجزات السردية – المغربية خاصة- عن الأزموري مثل «ما رواه المغربي» رواية رحلية للكاتبة المغربية ليلى العلمي ت. نوف الميموني، وكذلك «ابن الشمس» رواية تاريخية بالفرنسية لابن ادريس… الخ واستند على مدونات أنثروبولوجية وسوسيولوجية وتاريخية عديدة، بلغات مختلفة، منها كتاب «استيبانكو الأزموري» لمصطفى واعراب، فضلا عن مراجع مترجمة عديدة عن المغرب والأندلس وإسبانيا والبرتغال وأمريكا خاصة خلال القرن السادس عشر، تتعلق بأنماط عيش السكان وعاداتهم وأنظمة إقطاعية غربية تقوم على محاكم تفتيش واستكشافات وحروب وهجرات جماعية…
يتقاطع في هذه الجزيرة الروائية التوثيق التاريخي بأدب الرحلة واليوميات والسيرة الغيرية والشعر والخبر الصحفي والثقافات الشعبية… الخ، لكن يظل السرد جامع هذه التوليفة لأنه القيمة المهيمنة ممثلة في تأطير المحكي والسرد برواة متعددين من زوايا مختلفة لتنسيب الحقيقة، أو في تنظيم المحكي بمتتاليات سردية ومقاطع وصفية وبفواصل من أشعار الهنود الحمر، لتأمل ما جرى، واستشراف ما سيجري لاحقا، مانحا نوعا من الاتساق لنسق الشخصيات في علاقاتها بالمكان والزمان.
أنجز الأزموري خلال تهجيره القسري المأساوي أدوارا عدة، وتلبس بالعديد من الأقنعة: (عبد ومصطفى وبن حدو واستيبانكو واستيفانيكو وابن الشمس والزنجي والطبيب…) وهذا يدل على غنى شخصيته المأساوية وغموضها. وبلا شك، وجد الكاتب في هاته الشخصية ثقلا رمزيا، جعله يبحث عن الشكل الأنسب لكيفية نقل الواقعة التاريخية والاجتماعية من المعيش اليومي إلى حدث سردي بجماليات فنية خاصة. وقد أوكل لمهمة السرد راويا عليما بالمرويات والأخبار والسير، أسند سردياته لرواة سمى بهم فصول الرواية أو أجزاءها: (استيفانيكو وأماريسو دورانتيس وكابيزا دي فاكا ومصطفى وحدو)
أسماء اختبر فيها الأزموري إرادته الحرة في سبر أهوال الاستكشافات الغازية وفظائع التيه والمجاعة، والتي تجاوزت تخوم الغرابة، فبلغت حدا لا يمكن توقعه، مثل ما عاينه الأزموري في «جزيرة البكاء الطويل»، حيث يتم التعبير عن الفرح بالبكاء أيضا، أو في واقعة أكل لحوم البشر المتمثلة في افتراس المستكشفين الأربعة بعضهم بعضا، ونجاة واحد منهم، لم يجد من يفترسه في النهاية. وقد صيغت الواقعة هاته، بسرديتين مختلفتين أولا بلسان استيفانيكو الذي سمعها عن غيره. وثانيا من زاوية كابيزا دي فاكا عن طريق المشاهدة العينية لذات الواقعة، لذا نميز من بين زمن السرد وزمن وقوع الأحداث في مجرى التاريخ الفعلي بما هو تبدل وصيرورة.
ومهما يكن، نلاحظ أن الراوي خرق الزمن الكرونولوجي في سرد الأحداث، بتأخير ما حقه التقديم، والاسترجاع والاستباق والتوازي والوصف الفاصل لمتتاليتين سرديتين والمشهدية الحوارية الخ، لكن يلزم التأكيد هنا أن الزمن السردي والتاريخي ليسا مجرد تقنية سردية، لأن فعل التخييل يشمل «خلق» الموصوفات والأشياء والأمكنة والشخصيات بالترميز والإيحاءات والاستعارات، يقول د. عبد الرحيم جيران في مقال «التخييل التاريخي والوعي التاريخي واللغة» بجريدة القدس العربي:»إنه (إذا ما صار التاريخ مادّة للتخييل، فمعناه خضوعه لمنطق صناعة التمثيل هذه، وإدخال الإيجاد في قلب التاريخ، بما يُفضي إلى تحويره وفق منطق مُعيَّن، انطلاقًا من نظرية العوالم الممكنة في علاقتها بالحقيقة)
تختلف المنجزات السردية في تمثلاتها للتاريخ بحسب فاعلية التخييل، معرفيا وجماليا وإيديولوجيا، فرواية «مجنون الحكم» لسالم حميش تعرض تاريخ الحاكم بأمر الله وصراعه مع أخته وأبي ركوة لمساءلة الخطاب السياسي الديني مجددا، استند فيها على بلاغة بديعية وبيانية خطابية، بينما تستثمر ليلى العلمي في « ما رواه المغربي» بلاغة أدب الرحلة للدفاع عن هويتها المغربية في المجتمع الأمريكي، غير أن ما يميز الخصار هو أنه يقترح علينا في روايته «جزيرة البكاء الطويل» سردية تمتح من التصوير الشاعري والغنائية كما لو كان الأزموري تجسيدا سرديا لـ»عودة آدم» في مرحلة تاريخية فارقة .

خلاصة:

نخلص، من قراءتنا هذه، إلى أن الرواية يتقاطع فيها الملمح التراجيدي والأثر المأساوي، مع الصوت الشاعري الغنائي، وأن الكاتب إذ يعيد خلق شخصية الأزموري فإنما ليتملكه أدبيا، ويحرره من خطاب استشراقي وتبشيري، محاورا من خلاله تاريخا مليئا بالثقوب والبياضات، بل مُحورا الحقيقة التاريخية بالتخييل، لتجديد النظر في السيرة الغيرية للبطل، وفي نفس الآن مساءلة أدبية الأدب في علاقته بالتاريخ.


الكاتب : جمال الفزازي

  

بتاريخ : 15/07/2022