الأقنعة في الأفلام: امتدادات الإنسان

 

يصنّف مارشال مكلوهان في كتابه «فهم وسائل الإعلام: امتدادات الإنسان» الأزياء كواحدة من هذه الوسائل، بوصفها امتدادًا للبشرة والسطح الخارجي للجسم، سواء بالمعنى الفيزيولوجي للكلمة، عبر حفظ وإعادة توجيه الطاقة والحرارة، أو بالمعنى الاجتماعي، كوسيلة لتعريف وتحديد الذات اجتماعيًا.
يوفر علم الأنثروبولوجيا الكثير حول موضوع الأزياء أيضًا، مع الاهتمام المتزايد بهذا الجانب في العقود الأخيرة، وتقاطعه مع مجالات دراسة أخرى، تحلل بموجبها الأزياء حسب المواد المستعملة في صناعتها والجانب الاقتصادي لتغير المواد، أو بتقاطعها مع مجالات دراسة تاريخ الفن والتصميم وغيرها، ليصبح بالإمكان النظر إلى الزي كتجسيدٍ للخطابات والقوى المتصارعة في مجتمعٍ ما.
خلال العام المنصرم، مثّلت الأقنعة أحد أبرز ملامح 2020. إلّا أننا في هذا المقال لا نتطرّق إلى الأقنعة بوصفها أداة وقاية صحية في زمن الجائحة، وإنما بوصفها أداة ارتبطت خلال العقود الفائتة بالاحتجاجات العامّة، وخصوصًا في منطقتنا خلال سنوات الربيع العربي، متفحّصين التسلسل التاريخي للأقنعة ضمن هذه الفترة، باحثين في أصل بعضها وما مثّلته.

 

غاي فوكس والجوكر:
ماذا تخفي تلك الابتسامة؟

يعرف الكثيرون غاي فوكس كـ«رجل الخامس من نوفمبر»، حين حاول مع مجموعة باتت تعرف بـ«مخططي مؤامرة البارود» ذات يوم من عام 1605، تفجير البرلمان الإنجليزي خلال جلسته الافتتاحية، بغرض اغتيال الملك جيمس الأول، على خلفية الصراع الكاثوليكي-البروتستانتي في البلاد.
لم يكن فوكس قائد المجموعة، بل الرجل المسؤول عن حراسة براميل البارود، وأول من سيلقى القبض عليه ويعذّب بعد اكتشاف المؤامرة، إلى حين رضوخه بعد أيام واعترافه بوجود المخطط وكشفه عن هويته الحقيقية وهوية المشاركين. اليوم، وبعد مرور عدة قرون على هذا الحدث، يصعب النظر إلى إرث فوكس نفسه بدقة؛ فبينما يصفه الكثيرون بالرجل الثوري، إلا أن آخرين يعترضون ويسوقون المحرك الديني وراء فعلته وعلاقاته بإسبانيا، فيما يتعلق بإنكلترا نفسها وقتاله مع القوات الإسبانية خلال حرب الاستقلال الهولندية.
عودةً لليوم، فإن «وجه» فوكس الذي نعرفه وصلنا بالتقريب، بعد قرون من الاحتفالات -وهي احتفالات بفشل مخططه، للمفارقة-، اعتاد خلالها المحتفلون ارتداء أقنعة ورقية تعرف باسم «أقنعة غاي فوكس»، وبعد إعادة تصور الرسام دايفد لويد له في الرواية المصورة التي كتبها آلان مور وبدأت بالصدور عام 1982، وفيلم «الثاء رمزًا للثأر» (V for Vendetta) عام 2005. علاوةً على أن القناع يلبس كرمى لـ«V»، بطل القصة ذاته إن صح القول.
يمكننا القول إن نجاح هذا القناع بالذات يرتكز إلى عوامل عدة، كالاقتباس الذي حفظناه عن ظهر قلب؛ «وراء القناع فكرة والأفكار لا تموت» والذي يرد على لسان بطل الفيلم المقنّع. من شأن مقولة كهذه أن تحول القناع إلى النصف المرئي للحكاية، إذ إننا وقد عجزنا عن رؤية الأفكار، يمكننا أن ندرك وجودها حالما نرى القناع الذي يتقدمها. كما أن عالم الرواية، بحكومته الفاشية المتأثرة بتاريخ الكتابة خلال الفترة التاتشرية، يخلق عدوًا يسهل التعاطف مع البطل الذي يقارعه، وقصة تبدأ بالفردي وتنتهي بالجماعي، بتناغمٍ وتصاعدٍ مثاليين.
ولمّا كانت البداية التطبيقية الأولى لاستعمال القناع مرتبطةً بحركة «أنونيموس» (Anonymous) والاحتجاج ضد كنيسة السينتولوجيا عام 2008، كوسيلة لحماية هويّة المتظاهرين و«إعادة إحياء» مشهد الاحتجاج الكبير في نهاية فيلم «الثاء رمزًا للثأر»، فإن القناع بات رمزًا للحركة ذاتها ومرافقًا لمجمل عملياتها، وبكل حال فإن الاستعمال بات أكثر شمولًا في السنين اللاحقة، وحينها بدأت الانطلاقة الحقيقية.
تاريخيًا، يقسّم باولو جيربودو في كتابه «القناع والعَلَم» الاحتجاجات التي تلت الأزمة المالية العالمية إلى أجزاء متسلسلة، تبدأ بالموجات الأولى من احتجاجات الربيع العربي في منطقتنا، ثم الاحتجاجات المناهضة للتقشف في منطقة حوض المتوسط، وتحديدًا في إسبانيا واليونان، ومن ثم موجة الاحتجاجات التي نظمتها حركة «احتلوا» (Occupy) في الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها التي اندلعت لاحقًا في بلدان مثل تركيا والبرازيل.
ورغم صعوبة شمول هذه الاحتجاجات بذات الأسباب أو النتائج أو الأشكال، إلا أن ثمة قواسم مشتركة بينها، سواء كانت متعلقة بالفترة الزمنية اللاحقة لأزمة 2008 المالية، أو بالاستراتيجيات المشتركة في التنظيم والاحتجاج وتسخير وسائل التواصل الاجتماعي لهذا الغرض.
ويقول جيربودو إن الاستعمال المشترك لهذا القناع هو واحد من أبرز تجسيدات الثقافة التي باتت مشتركة ومعولمة بين كل هؤلاء المحتجين، المتباعدين زمنيًا ومكانيًا، والذين يتعرضون للمضامين ذاتها.
عُرِض فيلم «جوكر» من إخراج تود فيليبس نهاية عام 2019، بعد أن شغل العالم بأسره، الذي كان يتلقف بنهم أي خبر عن الفيلم وبطله خواكين فينيكس. ومع النجاح التجاري للفيلم، ترك الكثير من النقاط ليتساءل عنها المشاهد، خاصةً فيما يتعلّق بجوانبه السياسية. مع ذلك، كانت وسائل الأخبار في تشرين أول 2019 قد بدأت بالفعل بتغطية هذه المشاهدات، من هونج كونج إلى بيروت وبغداد وتشيلي وغيرها، وبدأ الجوكر يسير جنبًا إلى جنب مع غاي فوكس، محتجًا ومعلنًا الحرب على المؤسسة والنخب الحاكمة، معيدًا إحياء مشهدٍ من الفيلم أيضًا.
يفصح فيليبس عن أولى نقاط التشابه بين العملين، حين يقول إن نسخته من الجوكر متأثرة بنسخته في فيلم «باتمان: النكتة القاتلة» (Batman: The Killing Joke) التي عمل عليها آلان مور، وحاول عبرها تقديم الجوكر بطريقة مغايرة. لكن، وعلى عكس «في فور فينديتا»، لا يقدم فيلم الجوكر اشتباكًا سياسيًا مباشرًا. وبينما يشترك البطلان بحملهما آثارًا وندوبًا خلّفتها البنية السياسية، إلا أن طريقة تعامل كل منهما مع ذلك تختلف كليًا، مثلما تختلف العوالم المتخيلة لكل منهما أساسًا، وهو أمر ظهر جليًا لمن تابع تعليقات تود فيليبس ومحاولته تخفيف النغمة السياسية للفيلم بتصريحاته.
عند هذا الحد، يبدو من المثير للاستغراب تبني القناع بهذه السرعة، لأسباب عدة، كالاختلاف الجذري من حيث الصراع وطبيعته وشخوصه بين الجوكر و«الثاء رمزًا للثأر»، وتبني حركة هائلة كـ«أنونيموس» للأخير، ما ساهم في زيادة شعبيته. إلا أن الإجابة عن هذا التساؤل ممكنة. فرغم غياب الوعي السياسي عن شخصية الجوكر، إلا أنها تمثل في الوقت ذاته ضحية لإهمال النظام، حتى لو كان ذلك عبر مشاهد عابرة عن إهمال القطاع الصحي وإضعاف تمويله. لتبدو شخصية الجوكر مُحرِضة عبر التماهي مع حالتها وما تمر به ويدفعها لرد الفعل، عوضًا عن كونها حاملة لخطاب أو أيديولوجية ثورية، إضافةً إلى سرعة تناقل المعلومات ومعها الرموز، بين فترتين متباينتين كـ2008 و2019.
ورغم أن المقارنة تبدو كضربة بعيدة، إلا أننا لا نستطيع تجاهل ما ساقه بعض المحتجين من تجاوزهم لمرحلة التفاوض أو المطالبة أو «إيصال الرسائل» من جهة، وعدم حمل الجوكر بحدّ ذاته للرسائل من جهة أخرى. وقد يدلنا ذلك، بشكلٍ أو بآخر، على الفوارق بين مرحلتين وقناعين.
وفي كلا الحالتين، يصبح القناع المشترك المتماثل دليلًا على «الأفقية» الممارسة في هذه الاحتجاجات، كما يقول جيربودو. فحين يصبح الكل الفرد ذاته عبر التخفي، لا يمسي هناك مكان للقادة أو هرميات السلطة. وفي الحقيقة فإن هذه النقطة كثيرًا ما كان يشار إليها، على سبيل المدح أو الذم، مثلما يفعل مايكل كازين حين يحمّل «قلّة التنظيم»، كما يصفها، المسؤولية عن عدم نضج حركة «احتلوا» بما يكفي لتغيير المسار السياسي، بسبب افتقارها للبنية والاستراتيجية اللتين ستحددان اتجاهها، مقتبسًا ما تورده الكاتبة النسوية الأمريكية جو فريمان في مقالها، حين تحذر أن غياب البنية الواضحة لأي حركة يضعف من إحكامها على كيفية تطورها والنشاط السياسي الذي ستخوضه. وأهم من ذلك، فإن الحركات تخاطر بتحولها إلى مجرد «موضوع» يتم الحديث عنه عبر وسائل الإعلام أو انصهاره ضمن أساليب الحياة الفردية.
وفي الحقيقة، فإن العلاقة بين الأقنعة وأشكال الاحتجاج التي ترافقها ووسائل الإعلام، تبدو في مصلحة الجهتين بادئ الأمر؛ فبينما تسعى أي حركة احتجاجية للظهور الإعلامي بغرض التعريف بها ونشرها، فإن وسائل الإعلام أيضًا، بهوسها بالفريد والغرائبي، ستنجذب إلى المقنعين واللافتات المهضومة والذكية. وهي، دون الحاجة للقول، لا تضمن تغيّرًا بالمعنى المستدام كما بتنا نعرف اليوم.

عن الأفواه المكممة

عندما رحّبت البشرية بعام 2020، كانت بعض التوقعات، التي تصدر في خواتيم الأعوام عادةً، تنبئ بكونه عامًا سيشهد مزيدًا من الاحتجاجات. حينها، كان التفكير بجائحة عالمية أمرًا مستبعدًا وخارج الحسابات. لذا، عندما بدأت دول العالم تدخل وضعيات الإغلاق العام في بداية 2020، رأى المحتجون أن الحكومات كسبت وقتًا مستقطعًا وهدية لم تكن تستحقها.
في هذا الظرف المؤلم، بدأ الكثيرون بالتكيّف مع فكرة ملازمة القناع الطبي لوجوهنا لفترات طويلة، بينما رفض آخرون الفكرة من أساسها. وعند هذا الحد، بدأت أولى معارك تسييس القناع الطبي. لا شك أن الفكرة سببت الذهول للبعض، ممن يؤمنون بسيادة التخصص العلمي، وبأن مسلّمةً طبية كهذه ستمر دون مشاكل، غافلين عن الآلية المعقدة لإيماننا بأي فكرة، مهما بدت بديهية.
وعلى إثر ذلك، بات رفض ارتداء القناع مرتبطًا بالميل نحو اليمين السياسي، ومجموعة من المعتقدات التي تدور حول السيطرة على البشر، ولم تنعم البشرية بدعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لفكرة القناع، عبر ارتدائه علنيًا، إلا مؤخرًا. وبات من الطبيعي مصادفة مقاطع الفيديو التي تظهر الجدل بين من يرتدون القناع ومن يرفضون ذلك لشتى الأسباب.
في أماكن أخرى، حيث ينخفض مستوى الدخل الفردي للدرجة التي تجعل من شراء مستلزمات الوقاية الفردية أمرًا عسيرًا، فتح ارتداء القناع أو عدمه نقاشات كانت قد أجلت سابقًا، حول دور الدولة في توفير هذه المستلزمات ودعم القطاع الصحي بشكلٍ عام، وفي أزمة صحية خانقة كهذه بشكلٍ خاص، كما ظهر في إضراب الأطباء العراقيين في شهر أيلول العام الماضي.
إضافةً إلى ذلك، بدأت الأسئلة مطلع الإغلاق تُطرَح عن مستقبل علاقاتنا وأشكال تجمعنا وتفاعلنا، سواء في الحفلات الموسيقية أو أماكن العمل أو بالضرورة في الاحتجاج. ومع نجاح بعض أشكال تفاعلنا بالانتقال نحو «الافتراضي»، فشلت أخرى. وربما كان الاحتجاج أحد الأشكال التي لم تؤتمت بالكامل، كما ظهر في الاحتجاجات التي اندلعت بعيد مقتل الأمريكي جورج فلويد على يد الشرطة، أو في دولٍ أخرى.
ولمّا كان المحتجون على مقتل فلويد -بغالبيتهم الديموقراطية- أميل لأن يكونوا ذاتهم من الدعاة لارتداء القناع الطبي، بدأت فكرة استعمال القناع كحاملٍ للرسائل السياسية بالتوضح أكثر وأكثر، ليؤدي القناع بهذه الطريقة الأدوار المتعارف عليها سابقًا كرمزٍ مرئي يحدد هوية المحتجين ويوحدهم، ووسيلة للحماية وإخفاء الهوية، وأخيرًا الوقاية الصحيّة.
لم يقتصر هذا التغيّر على الولايات المتحدة الأمريكية، بل امتد إلى دولٍ أخرى كلبنان وصربيا والبرازيل والمملكة المتحدة، وغيرها من الدول التي استدعت الضرورة فيها الخروج إلى الشارع رغم ظرف الجائحة، وتحوّلت فيها الكمامة إلى يافطة أخرى تحمل رسائل سياسية.

بين الأطراف والمركز

يقدم لنا قناعا «الثاء رمزًا للثأر» والجوكر مثالين على رمزين مستوحيين من الثقافة الشعبية، وقد حوّر استخدامهما ليخدم قضايا راهنة في الدول التي ظهر فيها العملان، ومن بعدها مختلف دول العالم، التي تتلقى ذات الأعمال من هذه الثقافة. ثمة الكثير ليقال عن حركة التماثل هذه، أو المفارقات التي يمكن أن تورد عن الاحتجاج في عالمٍ رأسمالي تكسب فيه شركة وارنر بروس نسبةً من مبيع كل «قناع V»، أو السؤال الأهم عن لجوئنا بالمقام الأول لأعمال كهذه وحاجتنا إلى الأبطال.
ينتج النموذج السابق بالتالي أشكالًا قد لا تتفق بالضرورة مع «كل الأسواق» التي تصل إليها. وبينما لا يبدو ذلك إشكاليًا تجاه منتجات معينة، إلا أنه في حالة المنتج الاحتجاجي قد يصبح كذلك، لكونه -في حالة القناع- جزءًا من الخطاب الذي تتبناه الجهة المحتجة، وتعبيرًا عما تريده أو تتبناه أو تستند إليه. وقد تكون صور «شامان الفايكينغ» الذي شارك باقتحام مبنى الكابيتول منذ أيام في الولايات المتحدة الأمريكية خير دليل على ذلك. فبينما يرتدي هذا الشخص لباسًا يفترض إنه يمثل جماعة معينة هي الفايكينغ، بكل ما يفترضه ذلك كرمز عنصري دالٍ على تطرّفٍ أبيض، لا يدرك الشخص ذاته أن خوذ الفايكينغ الحقيقية لم تكن مزودةً بقرون، وأن ذلك محض اجتهاد شخصي من أحد مصممي الأزياء لأوبرا ريتشارد فاغنر «حلقة نيبيلونغ» عام 1876. وكأن المسألة بحد ذاتها بحاجة ما يجعلها هزلية أكثر من ذلك، بالنسبة لجماعة ذات خطاب ماضوي تجهل هذا الماضي.
ورغم حضور الأقنعة الأكثر «عالميةً» في منطقتنا واحتجاجاتنا، إلا أنها لم تكن الوحيدة بكل حال، وفي الواقع، فإن الكوفية لا تقدم مثالًا وحسب على رمزٍ «محلي»، رغم أنها قد لا تمثل قناعًا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، إنما تشق في الوقت ذاته طريقًا معاكسًا بالنسبة لنا، من حيث بدايتها كشيءٍ يخصنا -دون استيراد أو حضور في أعمال الثقافة الشعبية-، وانتقالها لتصبح جزءًا من منظومة أزياء «عالمية» بلا سياق تقريبًا.
يذكر معظم أفراد جيلنا استخدام الكوفية خلال الانتفاضة الأولى والثانية تحديدًا، وارتباطها بشخصيات وأحداث في الصراع العربي «الإسرائيلي». إلا أنها -بالأصل- قطعة استعملت لأسباب عملية بحتة، كتجنب التعرض للشمس والحماية من الرمل والعواصف، مع منشأ غير متفق عليه حتى الآن، ويقال إنه يعود حتى حضارة ما بين النهرين.
بدأ استعمال الكوفية الذي نعرفه اليوم خلال ثورة فلسطين الكبرى في ثلاثينيات القرن المنصرم، حين كانت الخطة بالنسبة للمستعمر الإنكليزي اعتقال ومضايقة من يرتدونها من الثوار، الأمر الذي أطلق دعواتٍ لتعميمها كجزءٍ من الزي، إعلانًا عن التضامن من جهة ولتعقيد مهمة الإنكليز من جهة أخرى، لتعلن الصحف الفلسطينية في 28 آب من عام 1938 التعميم باعتمادها، بدلًا من الطربوش، بكل التناقضات الطبقية بينهما، ودلالات الطربوش المتعلّقة بالمدن وأريافها.
إن هذا المنشأ، وعقودًا من الانحياز في تغطية القضية الفلسطينية، أثّر بدوره على طريقة النظر إلى الكوفية. إذ يوفر البحث عن كلمة كوفية مرفقة بمصطلحات كـ«العدالة الاجتماعية»، نتائج أقل بكثير من تلك التي تربط الكوفية ذاتها بمفردة «الإرهاب»، نجحت الكوفية إذن في التحول إلى رمزٍ بصري يرتبط بالمنطقة، سواء سلبًا أم إيجابًا، حتى باتت صورة مارادونا وهو يحمل الكوفية، واحدة من أكثر الصور التي ارتُكِز عليها أثناء نعي الأرجنتيني الراحل.
لم تكن الرحلة صوب العالمية سهلةً بالكامل، إذ وقعت الكوفية ضحية لما يسمى الاستحواذ الثقافي (Cultural Appropriation)، المتمثل باستخدام فردٍ من ثقافةٍ ما لممارسة أو نظرية ثقافية تنتمي إلى فردٍ من ثقافة أخرى، وكأنها ملكه، دون أي اعتبار لأحقية أبناء الثقافة الأصلية، وغالبًا ما يطبق هذا على أبناء «المستعمرات السابقة».
لا يمكن فصل التعريف النظري السابق عن حضور الكوفية -ونقشتها المميزة- ضمن مجموعات أزياء العلامات الفارهة، كـ«سيسيل كوبنهاغن»، أو تلك الأوسع انتشارًا كـ«بووهوو» و«أسوس»، وحتى لأجل المفارقة بعض العلامات الإسرائيلية كـ«دودو بار أور»، التي تبيع قطعًا كهذه بأكثر من ألف جنيه إسترليني، الأمر الذي يصفه مصمم الأزياء الفلسطيني عمر جوزيف ناصر خوري للغارديان بالعزل لما تمثله الكوفية من صراعٍ ضد «الاستعمار والتهجير الممنهج والاضطهاد والقتل» الذي يتعرض له الفلسطينيون اليوم، علاوة على طبيعته الاستغلالية وافتقاره للاحترام.

ابتسم، أنت أمام الكاميرا

إن كانت التحوّرات التي طرأت على فيروس كورونا المستجد قد أطالت من عمر الجائحة، وبالتالي من عمر ارتدائنا للأقنعة الطبية، فإن من الممكن كذلك القول إن الحاجة للأقنعة خلال الاحتجاجات ستظلّ هي الأخرى قائمة، بل وستصبح أهمّ مع الوقت، مع تطوّر تقنيات التعرّف على الوجوه، واستعمال السلطات لها.
تورد صحيفة الغارديان أن الولايات المتحدة قد استعملت هذه التقنيات خلال الاحتجاجات الأخيرة لحركة «حياة السود مهمة».
بسبب هذا التوسع في استعمال هذه التقنية، دعت منظمة العفو الدولية دول العالم إلى التوقف عن بيع هذه التقنيات، خاصةً أن التقارير الصحافية تشير إلى أن حجم مبيعات هذا السوق العالمي ستصل العام القادم إلى نحو سبعة مليارات دولار.


الكاتب : محمد استانبولي

  

بتاريخ : 23/01/2021