أزمة كورونا ومحنة الزلزال أثبتتا أن الدولة في المغرب قوية وحاضرة
في الحدود المتأبية على الاختراق بين الفلسفة والفقه والأدب والتاريخ، يعبر بكل رشاقة مسلحا بعدة لغوية ومعرفية تأتت له من واسع اطلاع على أمهات الكتب في التاريخ كما في الفلسفة والفقه والأدب والفكر السياسي. انشغل مبكرا بإشكالات الحداثة وعملية التحديث في العالم العربي عموما، وفي المغرب خصوصا، في مرحلة الاستقلالات، والتي لم تنفصل عن معارك التحرير حينها . لامس قضايا التراث والتجديد الفكري، وحدد مكامن أعطاب النهضة والتقدم قبل أن يمسه سحر الرواية ومتعتها، عابرا إلى قارة التخييل وقد راكم عدة معرفية ارتوت من مشارب الفلسفة والفن والفقه والتاريخ لتُسْكَب في قالب فني غايته الإمتاع .
في هذا الحوار مع المفكر والأكاديمي المغربي سعيد بنسعيد العلوي، يأخذنا الحديث إلى قضايا شتى، ندخلها من باب المواطنة بحثا عن العدالة، قبل أن نتساءل عن وعود الربيع العربي، وتجارب الإسلام السياسي، لنصل إلى قارة الأدب والثقافة المُغيَّبة.
صدر للأستاذ سعيد بنسعيد العلوي: «قول في الحوار والتجديد»، و«المسلمون والمستقبل»، «خطاب الشرعية السياسية في الإسلام السني»، «أدلجة الإسلام بين أهله وخصومه»، «الفكر الإصلاحي في المغرب المعاصر محمد بن حسن الحجوي نموذجا»، «الاجتهاد والتحديث دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب».، «أوروبا في مرآة الرحلة»، « دولة الإسلام السياسي (وهم الدولة الإسلامية» بالإضافة إلى خمسة أعمال روائية: «مسك الليل»، و»الخديعة»، و»ثورة المريدين»، «سبع ليال وثمانية أيام»، «حبس قارة»، في انتظار «مجهول الحال» العمل الروائي الجديد الذي سيرى النور قريبا.
o مفهوم «الدولة الاجتماعية» كما جاء في تقرير النموذج التنموي الجديد لا يقتصر فقط على الحماية الاجتماعية، بل يتعداه ليشمل العدالة المجالية وترجمة كل ذلك على مستوى السياسيات العمومية. كيف تقرأ هذين المفهومين اليوم على ضوء فاجعة زلزال الحوز؟
n في البداية أترحم على الشهداء الذين هلكوا في الزلزال، وأدعو بالشفاء للجرحى وأعبر عن المواساة لمن فقدوا العائلة أو المأوى.
ربما هي نقمة في طياتها نعمة. صحيح أن ما حدث كارثة طبيعية لا يملك المرء أمامها شيئا، ولا يزال العلم عاجزا عن التوقع بشأنها. هذا مع العلم أن إحدى سمات المعرفة العلمية هي القدرة على التوقع، لكن أهم ما خرجنا به من هذه الفاجعة هو أنها كشفت عن معدن نفيس لدى المغاربة، وهو روح التضامن العالية التي تستحق التنويه. والإيجابي أكثر والذي يستحق التنويه، أيضا، من أجل الوعي بالذات واستمداد الروح الإيجابية، ونحن في حاجة إليها، هو أن الدولة في المغرب قوية وحاضرة: قوية بالمعنى الهيغيلي للدولة بمعنى حضور العقل في الإدارة والتسيير، الدولة حاضرة في ما يخص التدبير والتسيير والتنظيم. وهذا الشعور بالحضور الإيجابي للدولة ، لمسناه في مرحلة سابقة وأقصد بها مرحلة وباء كورونا.
مفهوم العدالة المجالية بالنسبة لأدبيات السوسيولوجيا وعلم الاجتماع السياسي، مفهوم متقدم بالنسبة لمفهوم الدولة الاجتماعية أو الدولة المواطنة(دولة الرفه). فإذا عدنا مثلا إلى مفهوم الدولة الحديثة، منذ القرن 17 مع فلاسفة العقد الاجتماعي، فإننا نجد أن الدولة تُرَد إلى عاملين اثنين:
العامل الأول هو ما به تكون الدولةُ دولةً، وهو السيادة التي تعطي للدولة قوتها وتماسكها، أو كما قرأها روسو الدولة كحصيلة أخرى للإرادة العامة التي تشمل روح الانتماء، المواطنة…
– العامل الثاني هو مفهوم المواطن، أي أن إسعاد المواطن هو الغاية من تأسيس الدولة أيا كان نوعها، ونعني بالدولة، الدولة في مفهومها القانوني البسيط:(التراب – الشعب – السلطة الحكومية).
وبالنسبة للعدالة المجالية، من العسير القول إن دولة واحدة يمكن أن تجتمع لديها كل أسباب الغنى، لذا نجد أن دساتير الدول تنص على التضامن بين جميع المكونات الجغرافية للبلاد.
في بلدنا، هناك أمر إيجابي وهو ما جاء في دستور 2011 الذي لا يشير إلى العدالة المجالية فحسب، بل نجده في الفصل 142 ينص على إحداث صندوق يمكن من تحقيق هذه العدالة بين الجهات. فمثلا لنأخذ جهة مراكش تانسيفت الحوز التي وقع فيها الزلزال، فهي تضم 4.5 مليون نسمة، تعتبر أغلبها ساكنة فقيرة، وهذا الخصاص تشترك فيه مع جهات أخرى كجهة الشرق( الاحتجاجات الاجتماعية بجرادة)، وجهة درعة تافيلالت (فالريصاني تسجل أقل مدخول مالي في المغرب)، وهذا من صميم مسؤولية الدولة الحديثة، رغم أن المواطن المغربي هو نفسه في جميع الجهات وله نفس الاحتياجات والحقوق. فالدخول إلى الحداثة يحتكم في المقام الأول إلى المواطنة التي تتأسس أولا على الكرامة.
ملاحظة ثانية تتعلق بحضور الدولة والمجتمع المدني أثناء الفاجعة. فهذا المجتمع أبان عن حضور قوي أثناء الزلزال، عكس المجتمع السياسي، وهذا من السمات المميزة للحداثة. من سمات الحداثة، أيضا، التمييز بين المجال العام والخاص، والمجتمع المدني، والمجتمع السياسي رغم أنهما، أي المجتمع السياسي والمجتمع المدني، يلتقيان في الاهتمام بالشأن العام، لكن بينهما فارقا جوهريا إذا انتفى الفارق، فإننا نقع في الفوضى. هذا الفارق يكمن في أن غاية الحزب هي امتلاك السلطة التنفيذية عكس المجتمع المدني، وهو ما يميز الأنظمة الديمقراطية عن الأنظمة الشمولية، وهنا أطرح سؤالا : لماذا اختفى المجتمع السياسي أثناء الفاجعة؟ هذا سؤال عريض يحتاج إلى إجابة عنه.
o نصت وثيقة النموذج التنموي أيضا، ضمن توصياتها، على ضرورة إيلاء أهمية قصوى للمكون الثقافي كرافعة للتنمية. هل يمكن أن نتحدث عن بناء مغرب حداثي ديمقراطي بعيدا عن الاهتمام بالمسألة الثقافية وإعطائها الأولوية؟
n سأعود إلى ما أسلفنا الحديث عنه في البداية، أي إلى الدولة الحديثة في مفهومها القانوني والتي تنتظم حولها مجموعة من المفاهيم: الأمة، المواطن، الشعب، السيادة، العيش المشترك …وكلها مداخل تتغيا نفس الهدف. وهنا نتساءل: ما الذي يجعل شعبا ما، شعبا؟ ما الذي يجعل مجموعة من المواطنين، مواطنين؟
الجواب هو اشتراكهم في أشياء روحية، ليس بالمعنى الروحي الوجداني الصرف، بل الاشتراك في الانتماء إلى ثقافة واحدة كما يصفها ليفي ستراوس ب»الحالة الأعلى مباشرة من الحالة الأولى أي الطبيعة». الثقافة تشمل الدين والأعراف والتقاليد والأنماط الثقافية والتصورات الجماعية المشتركة بين الأفراد، مع اختلاف التعبيرات الثقافية لكل منطقة. إن ما يجمعنا هو البنية الثقافية العميقة التي تتصل، حسب أدبيات علم الاجتماع الثقافي، بـ»اللاشعور المعرفي»، أو ما أسميه «المشترك الثقافي». فنحن المغاربة ما يجمعنا هو هذا «المشترك الثقافي»، الذي يجعل جميع المغاربة يشعرون بنفس الشعور إزاء حدث: مقابلة للمنتخب المغربي أو فوز عداء مغربي في مسابقة عالمية…
التفكير في التنمية يجب أن ينطلق من قناعة مفادها أن شق طريق التقدم لا يمر عبر بناء المطارات والقطارات دون الإسهام في بناء الإنسان لأن الثقافة مكون أساسي للشخصية. المؤسف في الأمر أن الخلل يكمن في كون من يتولون مناصب المسؤولية التدبيرية، والذين لا يعترفون بالثقافة في شموليتها ويحصرونها في الثقافة العالِمة، قاصرون في تصوراتهم ومشاريعهم التي لا تعترف بالثقافة ولا ترى فيها مصدرا ممكنا مدر للدخل المالي أيضا. إنهم يرون فيها مصدرا للإنفاق فقط ولا يتصورون أن في إمكانها أن تكون رافعة للتنمية، ومساهمة في تنمية الدخل الوطني. ذلك ما نجده في عدد من الدول التي اشتغلت على المكون الثقافي وهنا لا يجب أن نغيّب دور الرأسمال الوطني في تحمل هذه المسؤولية إلى جانب الدولة التي تترجم النسبة الضئيلة التي تخصصها لميزانية وزارة الثقافة، نظرتها إلى الثقافة (0.1 في المائة). فهناك أطراف أخرى عليها أن تتحمل مسؤوليتها في هذا الباب: القطاع العام، القطاع الخاص، الجهات، المستثمرون، وليس هذا من باب المساعدة والإشعاع لهذه المؤسسات فقط، بل اعترافا بفكرة مفادها أن بإمكان الثقافة أن تكون مساهما في إنتاج القيمة المادية المضافة.
وفي التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، نجد أمثلة عديدة للدول التي استثمرت في الثقافة واستطاعت أن تخلق صناعات ثقافية تساهم في الناتج الداخلي الخام بنسبة أعلى أحيانا من بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية (كوريا، فرنسا، اليابان، إسبانيا…).
o هذا الإجحاف في حق الثقافي هل يمكن فصله عن أزمة السياسة اليوم، وغياب المثقفين وتراجعهم داخل المشهد الحزبي؟
nأحد المؤشرات الكبرى على الفعالية السياسية في بلد ما هي الاستحقاقات الانتخابية، وخاصة التشريعية منها. إذا ما ألقينا نظرة سريعة على برامج الأحزاب السياسية في الاستحقاقات التشريعية 2021، فإننا سنجد أن أربعة أحزاب فقط، من أصل32 حزبا ، هي من تقدمت ببرنامج ثقافي كجزء من رؤيتها الحزبية للشأن العام. وهنا أرى أن من الضروري مطالبة جميع الأحزاب بتقديم كتاب أبيض حول الشأن الثقافي بالمغرب.
وهنا قد تثار مسألة فصل السياسي عن الثقافي، ولكن هذا الفصل يتم في مستوى التدبير، أما في مستوى التصور، فلا يمكننا فصل السياسي عن الثقافي.
عندما نتحدث عن علاقة المثقف بالحزب وسلطته داخل هذا الحزب، وتأثير هذه العلاقة على الاهتمام بالشأن الثقافي، يجب أن نستحضر معطى أوليا هو أننا في تصورنا العام الشعبي للشأن الثقافي، نلاحظ أنه لا يحظى بالاهتمام والاحترام الواجبين، وهذا أمر مرده للتصور العام للثقافة الذي ينظر إليها كما لو كانت مفصولة عن الواقع. صورة المثقف ودوره اليوم يحيلان على أن هذا الأخير في حالة عسر ليس داخل حزبه فقط، بل التساؤل اليوم يمس طبيعته كمثقف، مما يجعلنا أمام تعدد في تحديد هذه الطبيعة: من هو المثقف؟ هل هو العالِم في مخبره؟ هل هو الخبير الذي يؤدي خدماته بمقابل مادي؟، أم إن المثقف الذي يتميز عن كل هؤلاء بالالتزام السياسي والوعي الناتج عن هذا الالتزام الذي يجعله مهتما بقضايا مجتمعه؟
الخلاصة أن الوعي بأهمية الثقافي غائب لدى صناع القرار الحكومي. فعندما نتحدث عن ديبلوماسية سياسية وديبلوماسية حزبية وأخرى موازية، لماذا يتم تغييب الديبلوماسية الثقافية؟. هل نملك حقا مؤسسات ثقافية قادرة على القيام بهذا الدور؟ وهنا أفتح قوسا بخصوص الدبلوماسية الثقافية لأقول إننا لن ننجح، مهما سعينا في الإعلان عن وجودنا في إفريقيا، ومهما اجتهدنا في إبراز بعدنا الإفريقي ما لم نمنح للثقافي المكانة اللائقة به. وفي عبارة أخرى، فإن التقارب مع إفريقيا لن يتحقق دون الاهتمام بالثقافي، ودون الإعلان بقوة عن إفريقية المغرب ثقافيا وعن البعد الإفريقي الثقافي للمغرب. ذلك أن النفوذ المغربي في إفريقيا لايزال ضعيفا ما لم نجعل في الحسبان أهمية الاشتغال على الذراع الثقافي في خلق ديبلوماسية موازية.
o فشل الإسلام السياسي، إلى حد الآن، في تجذير ممارسة سياسية تحتكم لقواعد اللعبة السياسية بعيدا عن أدلجة الدين. ألا ترى أن موجة الربيع العربي عجّلت بخفوت هذا التيار لصالح خطاب سياسي حداثي منفتح على الكوني والإنساني المشترك؟
n من الناحية النظرية، وفي العمق، أرى أن هناك تشابها بين الإسلام السياسي وبين الربيع العربي .الربيع العربي انتفاضة وليس ثورة، ولكن هذا الربيع فيه جانب إيجابي هو أن من قاموا به كانوا شبابا في عمر الربيع. لماذا لا نسمه بـ»الثورة»؟ بكل بساطة، لأن التحولات الكبرى يجب أن تمهد لها تحولات نظرية وتصورات فكرية ورؤية واضحة. كل حركة من هذا القبيل، سيكون نفسُها قصيرا وستؤدي للفوضى. والدليل على ذلك هو أن التذمر الذي حرك هذه الانتفاضة لا يزال موجودا بالرغم من أن الانتفاضة نجحت كما نجح الربيع العربي، بفضل الأنترنيت وسلطة العالم الافتراضي، وهذا المعطى الأخير يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند قراءة هذه الفترة، مع الانتباه إلى مناطق الظل الثاوية خلف دور هذه الوسائط في تأجيج الاحتجاجات، وقتها، والغايات الكامنة وراءها. هذا الربيع عبر عن أزمة، لكنه لا يمتلك حلا لها، ولا يستطيع تجاوزها.
وبما أن أحد أشكال التعبير عن الربيع في المغرب هو حركة 20 فبراير، فإن هذه الحركة لم تكن لتذهب بعيدا لسببين. كان على هذه الحركة أن تسلك أحد طريقين:
إما أن تكون قوة سياسية منظمة لها سند جماهيري واضح وقوي وإيديولوجيا واضحة؛
2 – أو تنخرط في العمل السياسي المنظم مع الأحزاب الوطنية التي تعاني بدورها من أزمة، وتشتكي كلها من عزوف الشباب عن العمل السياسي. كان في إمكان لهذه الحركية الشبابية أن تشكل إضافة لهذه الأحزاب بضخها دماء جديدة في شرايينها.
وبما أنه لم يتم سلوك أحد هذين الطريقين، فإن هذا «الربيع» سيبقى مجرد ترمومتر يعبر عن أزمة نمو.
موضوع الإسلام السياسي تحدثت عنه بوضوح في كتابي «وهم الدولة الإسلامية»، وفيه أكدت أن الإسلام السياسي لا يستمد جذوره من التقليد السياسي في الإسلام، لا من الفقهاء ولا من الفلاسفة أو المتكلمين، وبعيدا عن ذلك فهو ينتقد الفكر السياسي الغربي فبالأحرى أن يستمد منه.
بالنسبة للإسلام السني، الركن السياسي ليس جزءا من العقيدة، بل إنه خارجها. والملاحظ أن الفقهاء والفلاسفة الذين اعتبروا أن الدولة أو الإمارة ضرورية للحفاظ على الدين والدولة، يذهبون إلى غير ذلك.
فكرة الإسلام السياسي تتمحور حول دولة الخلافة الثانية، التي انتقدها مثلا عبد الرحمان الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» حين وصف الخلافة بأنها طرز عال لم يتحقق في التاريخ ولن يتحقق أبدا لأنه ينتمي إلى السياسة كما حدثت في الماضي. هذا التيار، تيار الإسلام السياسي، يعتبر الدولة القائمة دولة لا شرعية لها، ومن ثم وجب إسقاطها. الإسلام السياسي لا يعترف بالدولة الحديثة وبمؤسساتها كاملة. ومن هنا نستخلص أنه لا يعبر عن الإسلام السمح ولا يمثل الإسلام السني، بقدر ما يعبر عن أزمة راهنة ويجد تفسيره في ضوء الحاضر وفي ضوء الإشكالات المعاصرة، وهذا ما يبين، في نظري، الناظم المشترك بين الإسلام السياسي والربيع العربي رغم أنهما يقفان على طرفي نقيض. ويبقى السؤال مطروحا: هل استنفد الربيع العربي جميع إمكانياته؟
o تطرح مسألة الهوية اليوم إشكالا في مجتمعاتنا العربية إذا أخذنا بعين الاعتبار اشتراطات العولمة وتسارع وتائر التحولات الثقافية داخل المجتمعات، خصوصا في ظل الثورة الرقمية التي تلغي مفهوم الخصوصية. هل يمكن الحديث هنا عن مقاومة ثقافية ضرورية للحفاظ على هذا الخصوصي؟
n لست متفقا مع الرأي القائل بأن الثورة الرقمية تلغي الخصوصية والهوية، بل إنها تذوّب الأمكنة والأزمنة. الثورة الرقمية تُصيّر الإنسان «عاريا»، أي أن الشبكة العنكبوتية بطريقتها الحالية، أصبحت تعرف كما هائلا عن رغبات الإنسان وأهوائه ما دام يقدم بياناته ومعلوماته عن طيب خاطر، وهذا هو مكمن الخطورة.
بالنسبة للهوية هذا الأمر يطرح في كل مرحلة من التحولات المجتمعية بكيفية أو بأخرى. لنأخذ مثلا الجدل حول المدونة اليوم فهو يجيب عن هذا السؤال لأنه يعكس الوعي بهويتنا في هذه المرحلة التي نعيشها اليوم. فعندما يكون مجتمع ما متشبثا بهويته ومرتبطا ثقافيا بمجتمعه، لا يمكن أن نتخوف من هذا الذوبان. مسألة الهوية مرتبطة بالبناء الثقافي الذي نحن جميعا مسؤولون عنه، بمعنى بناء الإنسان الذي لا يمكن أن نتحدث عنه في غياب الثقافة كلبنة أساسية في هذا البنيان.
o بعيدا عن واقعية السياسة وأزماتها، تنتبذون أستاذ بنسعيد مكانا قصيا في باحة الخيال للإبداع الروائي المستند إلى معرفة يتداخل فيها الموروث بالسياسي، بالنفسي، بالفلسفي وبالديني أحيانا. إلى أي حد يمكن أن تساهم المعرفة في إغناء التجربة الروائية؟
nالثقافة الموسوعية للروائي، لا شك في ذلك، تفتح أمامه آفاقا واسعة إلى جانب مراكمة التجارب وتنوع الثقافات، لكن بشرط أن يصاحب كل هذه العُدة الثقافية، ذوق فني يحاول الروائي من خلاله تسخير العدة النظرية بطريقة غير قصدية في عمله الإبداعي، أي في إطار عمل تخييلي يحقق الإمتاع. الإمتاع هو المعيار الحقيقي لروائية الرواية، ومدى تمكن الروائي من صنعته.
بالنسبة لي، الرواية لا تُكتب بقرار إداري كما أنها ليست بيانا سياسيا للنشر، كما أنني أتحفظ على نعت «الرواية التاريخية». إنني أؤمن بأن الرواية رواية، والتاريخ تاريخ. كما أنني أحاول استيعاب التاريخ بطريقتي بشكل مبني على كذبة جميلة.
o في روايتكم «ثورة المريدين» و»حبس قارة» نجد اشتغالا على التخييل الروائي للتاريخ، فيما رواية «الخديعة» تطرح العلاقة مع الدين، كيف يمكن للروائي أن ينتقل بين هذه الأراضي الملغومة دون أن تصيبه شظاياها؟
nإنني بطبعي قارئ شغوف بالتاريخ، وفهمي الشخصي للفلسفة لا يمكن أن يتم بشكل صحيح دون الرجوع إلى التاريخ، والشأن كذلك في دراساتي للفكر السياسي. في الرواية يكون التوسل بالتاريخ من زواية التوظيف وكيفيته حتى لا نسقط في وهدة التأريخ. بالنسبة لعملي الروائي «ثورة المريدين»، يدور بشكل عام حول الفكرة الإسلامية «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وهي الفكرة الموجهة للعمل ككل. كتابة هذا العمل تطلبت مني قراءة كتب تاريخية كثيرة عن مرحلة المهدي بن تومرت وتأسيس الدولة الموحدية وعن عبد المومن الموحدي، كما قرأت عن المرحلة المرابطية، وباللغتين العربية والفرنسية. غير أنني عند كتابة الرواية، حاولت أن أنسى كل ما قرأته، حيث يكون البعد التاريخي حاضرا في العمل لكن مع مراعاة الجانب الإمتاعي في الكتابة وهو ما يمنح التميز لرواية ما، أي قدرة التصور التخييلي على التحول من المادة الروائية إلى الروائية. فيما رواية «الخديعة» التي لامست موضوع الدين والتطرف وأحداث تفجيرات 16 ماي بالدار البيضاء، فهي تعكس، تخييليا، الخديعة الإيديولوجية .الرواية يقع فيها هذا التماس بين التخييل والتاريخ والفن كما في روايتي «حبس قارة» التي تطلبت مني قراءة مكثفة عن «أوجين دو لا كروى»، وعن غزو الجزائر وقدوم الرسام «دو لا كروى» إلى المغرب في ركاب سفير. لكني قاومت إغراء الانسياق وراء متاهات التاريخ، وهي كثيرة. بالنسبة للمزالق التي يطرحها هذا التماس، أرى أن حضور وتكوين الروائي له الكلمة الفصل في هذا الجانب.
أود أن أشير هنا بصدد هذا التماس الروائي مع الدين والسياسة، إلى أن روايتي الجديدة «مجهول الحال» (التي ستصدر في نهاية دجنبر المقبل)، اشتغلت فيها أيضا على التاريخ الراهن للمغرب وبالضبط في السبعينات، حيث أعود فيها إلى أحداث سنة 1973 في مولاي بوعزة. هي فترة حارقة في تاريخنا المغربي الراهن، بما صاحبها من اعتقال وتوقيف الزمن الديمقراطي مع فرض حالة الاستثناء. «مجهول الحال»عمل روائي تحركه ثلاث شخصيات رئيسية تمسك، رمزيا، بالرواية وتوظف بطريقة رمزية شخصيات دون كيخوطي المحيلة على العبث، وشخصية إيراسموس عبر تيمة الجنون، ثم أخيرا شخصية ابن الجوزي، بحيث أن النصوص الثلاثة الأخيرة (دون كيخوطي، مديح الجنون، أخبار الحمقى والمغفلين) تبدو كما لو كانت نصوصا موازية، أو نصوصا تتقاطع مع النص الروائي.
o مسار متميز جمع بين الفلسفة والسياسة والأدب والفكر، جدير بالاحتفاء. كيف تقرأ احتفاء مؤسسة منتدى أصيلة اليوم بمساركم في دورتها الرابعة والأربعين؟
nأكون كاذبا إذا لم أقل إن الأمر راقني كثيرا، وأشكر عليه رئيس» مؤسسة منتدى أصيلة» السيد الوزير محمد بنعيسى، والمجموعة التي تشرف على تنظيم هذا المنتدى، وخاصة الأستاذين عبد لله التهاني وأحمد زنيبر.
الاحتفاء يتخذ طابعين: أولهما الاحتفاء بمنجزي الأدبي والفكري، من خلال الشهادات والقراءات التي ستقدم، والجميل هو ترسيخ هذا الاحتفاء بأثر أدبي من خلال كتاب عبارة عن شهادات في شخصي، ساهم فيها أساتذة جامعيون من الجامعة المغربية ومن خارج المغرب وشخصيات ثقافية وروائية.
أما الطابع الثاني، فيتمثل في أن الاحتفاء تجسيد حي لما أؤمن به وما تحدثنا عنه سابقا، حول قدرة المجتمع المدني على صناعة الثقافي في أبهى صوره.
من الناحية الرمزية والواقعية، هذا الاحتفاء احتفاء بالثقافة المغربية، وأنا بنقط الضوء القليلة فيّ، وبنقط الضعف الكثيرة فيّ، أنتمي إلى هذا النتاج الثقافي.