الألوانُ في حياتي

هل بالإمكان العيش من دون رؤية الجمال، من دون أن نحياه ونَتَملاَّه، ونستطيب لقياه في أي وجه أو عنصر تَمَثَّل وتجلى؟. وهل بالإمكان تعريف الجمال وتحديده بعبارة كافية شافية، وتفسير دقيق حقيق؟؟ هل يُرى؟ هل يُسمع؟، هل يشم؟ هل يُتذوق؟، هل يلمس ويحس؟، هل يعقل؟ هل يعاش؟
أجازف بالقول، نعم: إنه يُرى ويُسْمع ويُشَم، ويُتذوق ويُلمس ويُحس، ويُعقل ويُعاش. فكل الحواس تتضافر وتتشابك لتحضنه، وترفل فيه وبه، وتعيشه وتستبطنه، وتبتهج به متَمَثَّلا في عناصر ومظاهر الطبيعة كلها، وفي الكائنات جميعها، وفي الجمادات والنباتات والفضاءات والأنهار والبحار والجبال، وغيرها. الجمال يحيط بنا أماما وخلفا وفوقا وتحتا ومرجعا وأفقا. فلولاه لما استساغ الإنسان الإقامة في الأرض، ولا ابتهج وانشرح صدره، وتفتح عقله وحواسه، وانْسَرَرَتْ جوارحه، وصفَّقَتْ فرحا « أجنحته». لنتصورـ لحظة ـ كيف كنا سنكون لو أن الخالق قدَّرَّ أن تكون الحياة صفحة واحدة مُرْبَدّة باطنها السوادُ، وظاهرها البياضُ ليس إلاّ. الأشجار سوداء، والنباتات داكنة عابسة، والناس قاطبةً سُمْرٌ سمرةً غامقة، والجبال صلعاء وقرعاء، والفواكه برمتها صفراء، والحيوانات والأنعام والهوام، والفَرَاش، والطيور بلون واحد موحد، أو بلونين إذا تسامح الخيال: بيضاء وسوداءُ حَسْبُ. زد على ذلك، المحيطات والبحار والأقيانوسات دامسة داكنة غُدافية المياه، والزبد والأسماك والمرجان، ونبات الألك؟.ألاَ تصيبنا الحسرة والدوخة، ويركبنا القنوط والضجر، وينخر أرواحنا المللُ والقلق، وينتابنا اليأس والكآبة، فنرتقب زيارة الموت لينقذنا من سوء ما نحن فيه، ومن سوداوية مميتة تَخِزُ أرواحنا، وتشل أفكارنا، وتُعْشي أبصارنا؟. ومن ثَمَّ، فالله جَلَّ جلاله جميلٌ يحب الجمال. أمَرَ الجمال بأن يكون فكان: تَذَرَّر على هامات الكون، وربوعه ومرابعه، وسُوحِه، وجهاته: أدانيها وأقاصيها، ومخلوقاته بحسبانٍ، ملونا إياها بما يجعل الحياة راغبة ومرغوبة، وراكبة ومركوبة، تعاش بالطول والعرض لأنها أهلٌ لذلك، ومناطٌ للسعي والإقبال على ما تعرضه الطبيعة من مفاتن ومباهج أخاذة، ومناظر خلاّبة، وألوان وأصباغ جذابة، بفضل الاختلاف والتعدد اللوني، والتلاقح الأجناسي، والتفاوت الطولي والعرضي، والعمقي والأبعادي، والتجلي الرائق الرقراق لسحر وبديع التراكب والتمازج والتخالط المُهَنْدَس بحكمة الحكيم، وبراعة الأمهر المبدع العظيم. إذ كلٌّ مسخرٌ لِمَا خُلِقَ له. وكُلٌّ يسَبِّحُ ضمن مربعه المتاح له، وكلٌّ يضيف إلى الفيض الدافق المتدفق، لوناً سخيا حارا وزاهيا، دفعا للرتابة والروتين، ودرْءاً للنظر الواحد المستكين، وترغيبا، من جهة أخرى، في ولوج تجليات الجمال اليقين. إنها الفصول ودوْراتها ودورانها الأبدي، ما يضفي ويسبغ على المناظر والمشاهد في الطبيعة والأرض، أردية قشيبة زاهية حارة اللون أو باردته، ولكن مختلفته بطبيعة الحال. ولم تكن زمنية الفصول التي تَتْرى وتتعاقب، شيئا عبثيا، أو مسألة أنطولوجية صُدْفوية ومزاجية ليس غير. ولكنها أُسُّ دورة الحياة ومتاعها ومعاشها، وصيرورتها، وجمالها أولا وأخيرا. وجمالها ـ كما لا نختلف ـ مُسْتقى ومُتأتٍ من ألوانها الرقراقة المتناسلة والمتداخلة حارةً كانت أم باردة؟
لنتدبر الحكمة التالية في قوله سبحانه: ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) سورة البقرة ـ 164 . وقوله: ( ألم تَرَ أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها، ومن الجبال جُدَدٌ بيضٌ وحُمْرٌ مختلفا ألوانها وغرابيبُ سُودٌ.. ) ـ سورة فاطرـ آية 27.
ذلك أن الحكمة من وراء التنويع والتعديد للألوان، والأصباغ الإلهية التي لا تَحُولُ، والتي تزخرف جماليا الأرض وما عليها ومن عليها من دواب وأنعام وحيوانات ضارية، وإنسان ونبات، غاية في الاختلاف والجمال. وشجر وورد وأزاهير عنوان ناطق بالبهاء والجلال، الحكمة من ورائها جميعا، ومن غيرها مِمّا يزركش ويُجَمِّلُ الكون، إنما لدفع الملل والسأم أولا بأول. فالمناظر والمشاهد والمجالي حين يحتويها البياض والسواد كل وقت وحين، تثير الإحساس بالوَضَاعة والضحالة والسطحية، وواحدية البعد، وانقفال المسالك والآفاق؛ مع أن السواد أصلٌ في الألوان، والبياض تابع له في الأصل والأساس. فالليل والنهار آيتان. ومع أنهما يتيحان، وقد أتاحا للعرف والمواضعة البشرية، إسْباغَ رمزية الحزن والشر والحداد على السواد (الوطواط ـ الغراب ـ المهاوي ـ اللحود )، ورمزية الصفاء والنقاء والهواء، والحداد أيضا على البياض في مناطق معينة من المعمورة ( شمال إفريقيا مثالا ).
من هنا، الأهمية البالغة للتعدد اللوني. فالشمس صفراء وحمراء بحسب الفصول والمواقيت. والسماء زرقاء لازوردية وسوداء ورمادية وبيضاء لُجَينية وَفْقا للجو والطقس، ودورات الفصول. والنجوم عيون وشهود تظهر وتختفي حسب منازل الأبراج. والبحار والمحيطات زرقاء أو خضراء بحكم الانعكاس والانكسار الضوئي، وتارة حمراء طينية تبعا للهيجان الموجي، والاصطخاب الأوقيانوسي العظيم. والنبات والشجر والجبال خضراء داكنة أو خضراء زاهية، أو صفراء بنية خروبية فاقعة باعتبار الربيع أو الخريف أو الصيف.
إن الحيز لا يسمح بالاسترسال في إيراد بقية العناصر الطبيعية والألوان، والإشارة إلى رموزها المتعددة النفسية والدينية والاجتماعية والميتافيزيقية. لكن، بالإمكان القول: إن الألوان شكلت لحظة ماتعة حية في حياتي، ملؤها الفرح والبشارة والانشراح والنشوة. ولا يزال فعلها حيّا فيَّ حيث ما أن تقع عيني على حديقة تتمايل أغصان أشجارها، وتميس أزهارها وورودها البهية الجميلة، ويأتيني عطرها متراقصا كأنثى في كامل عبقها وزينتها، حتى أقفز مرحا وطربا وانتشاء وتسبيحا كما كان يقفز ذات زمن، قلب الشاعر الرومانسي العظيم ويليام ووردزورث ( 1770 ـ 1850 ). كلما أبصرت عيناه قوس قزح وهو في سن الكهولة والشيخوخة، تماما كما كان يقفز قلبه إلى أعلى في صغره وصباه دهشا وانبهارا. ولعل قصيدته الجميلة الشهيرة التي يتخللها بيت شعري سائر، أن تكون برهانا على ما قلت. أما البيت الشعري االذائع كالحكمة، فهو: « الطفل أب الرجل:the childisfatherof the man
ومعناه أن الطفولة لا تبرح مسكنها أبداً حتى لو طال الأمد بمسكنها الذي هو الجسد وتَرَهَّل، فالذكرى قائمة حية، ونزق الطفل ولعبه ولهوه ودهشته وانبهاره بالبرق والرعد، والمطر، وقوس قزح، لا يخفت أبداً، بل يواصل حضوره وعنفوانه إلى أن يلقى المرْء وجه ربه. وهكذا، تكون الألوان قد لعبت في حياتي ولا تزال، كما أسلفت، دور المثير الأثير، والمنبه الوجداني والنفسي الرائع. فهي بهذا الوصف والتأثير جزءٌ من حياتي البديع المنير. ألاَ تراني ـ كما تكون أنت يا قارئي ( ئتي ) ـ كلما دخلت جنينة تهتز أعطافي تيها وعُجْبا وارتياحا. وكلما أبصرت حسناواتٍ يمشين متثنيات بخطو موقع كالنشيد بتعبير الشاعر أبي القاسم الشابي، تهت غراما وهياما، وسبحت الخالق العظيم فالق الحب والنوى الذي أبدع وسوَّى وخلق الجمال فإذا هو يرصع الأرض بالعطر واللون والدلال والبياض. والعيون الشُّهل والنُّجْل والحور. وإذا الفساتين تعوم وترفرف ضاحكات في الألوان والدمقس والحرير والديباج. وإذا الطيور كل الطيور رُسُل الجنة إلى الأرض. والفراشات الحور الرقيقات الرهيفات المتنقلات بين بيض وحمر وصفر وزرق الورد والزهر. وإذا الأطفال إناثا وذكورا، ملائكة ونجوم في الأرض يخلعون ويضفون عليها الضوء والنور والفرح حين يغيب، والأمل حين يغيض. لم يخطئ الشاعر الرائي أرثر رامبو عندما ـ في لحظة إشراق شعري مبهر ـ ساقَ للحروف ألوانا تخيلها، ترمز إلى الأبيض والأحمر والأخضر والأزرق، مفتّقاً معانيَ ودلالات وأبعاد كل لون على حدة.
فالحب والصداقة الحقيقية لوْنان من ألوان الجمال. والموسيقا والأغاني والأهازيج، والرقص، والشعر الذي تزدهي به اللغة وتُزْهِر، والفن التشكيلي، وغيرها من الإبداعات والفنون، ألوانٌ زاهية وضرورية من ألوان البهاء والجمال.
هل للجمال ألوان، أم أن الألوان ذاتها هي جَسْدَنَة روحية ومادية للجمال؟. غير أن القبح لا لونَ له وإِنْ حاولَ الشاعر الشاهق بودلير أن يرى فيه جمالا خاصا لا تراه الكثرة الكاثرة من الناس. وهو أمرٌ ـ حقا ـ مُحير ربما فتح الله به على الشاعر، وأقفله على غيره.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 16/02/2024