الأنثربولوجيا التاريخية

تُحيل عبارة الأنثروبولوجيا التاريخية من حيث التداول الإبستمولوجي إلى الاتصال المنهجي الذي حدث بين توجهات مدرسة الحوليات وعلم الأنثربولوجيا بعد الحرب العالمية الثانية. والعبارة في حد ذاتها كانت ترمز وقتها إلى ولادة فرع معرفي يجمع بين دراسة الفاعلية البشرية والتغيرات الاجتماعية. واضح جدا أن النظر إلى الأنثروبولوجيا التاريخية انتعش في خضم النقاشات الإبستمولوجية التي عاشت على إيقاعها فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية والتي قادها فلاسفة وعلماء اجتماع وأنثروبولوجيون ومؤرخون…هكذا بعد الحرب تكاثفت جهود هؤلاء من أجل إحراق مراكب ما كان يُنعت ب»التاريخ التقليدي» وكسر حدود الرؤية التاريخية الضيقة وتجاوز الخنادق التي كانت تعيق تطور الكتابة التاريخية، وفي مرحلة ثانية، انتقل المسعى إلى كسب معركة نفوذ التاريخ على باقي العلوم الاجتماعية…يقول المؤرخ الفرنسي فرنسوا دوس في توصيف الوضع: «كانت هناك جدران مرتفعة جدا…حتى أنها تحجب النظر، إننا نريد أن نثور ضد هذه الانقسامات المخيفة…يحدث التجمع ضد شيء ما…وفي هذه الحالة ضد المدرسة التاريخية العجوز».
مع الجيل الثالث من مدرسة الحوليات أو كما يُفضل البعض تسميتها بمدرسة التاريخ الجديد، انخرطت الكتابة التاريخية في تنزيل مقاربة الأنثربولوجيا التاريخية من أجل الكشف عن عُمق التحولات البطيئة التي لا يمكن قياسها إلا عبر استثمار مفهوم الأمد الطويل البروديلي…وبالعودة إلى سياقات التشكل، جرى هذا التلاقح المنهجي تحت تأثير رجع الصَّدى الذي مارسته عطاءات الحقل الأنثربولوجي وخاصة كتابات كلود ليفي ستراوس أولا، وتحت تأثير أعمال المدرسة الدوركايمية التي كانت تنشر في مجلة السَّنة والسوسيولوجية ثانيا.
عادة ما يُرافق توظيف عبارة الأنثربولوجيا التاريخية، التفكير في مسألة الحدود المنهجية، بين ما ينتمي إلى مجال التاريخ في ما يتصل بتعقب الجذور والوقائع والأحداث، وبين ما ينتمي إلى الراهن في ما يتصل بممارسة الملاحظة والمعاينة. هذه الحدود تصاحبها باستمرار أسئلة منهجية من قبيل: ما هي حدود الالتقاء بين التاريخ والأنثروبولوجيا؟ بين ما مضى وبين ما هو آني من حيث الملاحظ والمعاش والملموس؟ ولمَّا كان التاريخ بمقتضى رؤية الحوليات يسعى تشييد موضوعه بناء على الوثائق والشواهد والمرويات؛ كانت الأنثروبولوجيا تستند على منهج المشاهدة العينية والملاحظة المباشرة لتحليل الوضع الإثنوغرافي للمجتمعات.
وقبل ذلك، كانت افتتاحية العدد الأول من مجلة حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الصادرة عام 1929م قد أشارت لأول مرة إلى عبارة «الأنثربولوجيا التاريخية» في سياق الإفصاح عن مشروعها المنهجي الذي يرغب في تحقيق وحدة العلوم الاجتماعية على نحو ما تتأسس عليه رؤية المؤرخين لوسيان فيفر ومارك بلوك. سبق لمارك بلوك أن وجَّه دعوته إلى وجوب بناء تصور جديد للتاريخ، يقوم على التحليل والتركيب عوض السرد الكرونولوجي؛ بعبارة أوضح، تاريخ إنساني شامل عوض تاريخ سياسي ضيق ومحدود…الثابت، أن رهان تحقيق ذلك لا يتحقق إلا بإسقاط الجُدران العازلة بين التخصصات، وكسر عقلية التخصص، وفتح آفاق الكتابة التاريخية لتشمل التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والديموغرافي والذهني…
لا يقاس الانقلاب الذي طرحته مدرسة الحوليات بتقديم منظورات جديدة في فهم التاريخ فقط، بل بالدعوة إلى إعادة بناء الماضي بناء جديدا مُشيَّد على أساسات إشكالية ومفهومية وتركيبية…وحتى تتمكن من ذلك توجهت مدرسة الحوليات رأسا نحو هدم قواعد الكتابة التاريخية المتعارف عليها في الوسط الأكاديمي الفرنسي أولا، والانتقال نحو محاولة كشف الجذور البطيئة للتحول التاريخي التي تتصل بالثقافة والدين ثانيا.
وبالعودة إلى تاريخانية الكتابة التاريخية في فرنسا تحديدا، يُمكن استجلاء ثورتين منهجيتين في هذا المسار: الأولى كانت صدى لهزيمة 1870م أمام ألمانيا، وكان من نتائجها ظهور المدرسة الوضعانية «الوثائقية» مع كل من شارل سينوبوس وفيكتور لانغلوا؛ والثانية كانت سنة 1929م مع كل من لوسيان فيفر ومارك بلوك التي هيأت المناخ الفكري لظهور ما يُسمى بالتاريخ الجديد أو الأنثروبولوجيا التاريخية. مع تقدم الزمن ووضوح الرؤية صار التاريخ أنثربولوجيا اجتماعية، يهتم بدراسة الكتل الاجتماعية التي بقيت على هامش السلطة ويعيد الاعتبار إلى المهمشين والمقصيين والمنبوذين والفقراء والعمال…باختصار، إلى من لا صوت لهم في الماضي.
ارتبطت التطبيقات المنهجية لهذه المنظورات الجديدة بالجيل الثالث من مدرسة الحوليات، والذي يوافق سبعينيات القرن الماضي. وقبل هذا الزمن، كانت كل الإيحاءات التي تهم مقاربة الأنثربولوجيا التاريخية مندسة في أعمال الجيل الأول والثاني، لكن بشكل غير كثيف وواضح. لقد عاتب مؤسسو الحوليات اقتصار التاريخ على الرؤية الضيقة التي تهتم بدراسة التاريخ السياسي، واقترحوا ضرورة توسيع الرؤية ومغادرة أرض السياسة والاهتمام بالمشاهد والسكان والديموغرافيا والمبادلات والعادات…إجمالا، كتابة تاريخ بخلفية مادية أو لنقل أنثربولوجيا مادية.
اقتضت هذه الرؤية توسيع مساحة الرؤية إلى المصادر التي يجب أن تنفتح على القوائم والإحصاءات والجداول ولوائح الديموغرافيا وجذاذات علم الآثار…بدل الاقتصار على الجُهد التأويلي المرتبط بالوثائق المكتوبة، كما وجَّهت مدرسة الحوليات نقدا شرسا إلى مسألة تقديس الحدث وحيادية المؤرخ المزعومة. لقد دعا مارك بلوك المؤرخين إلى ممارسة فعل التدخل النشيط في الوثيقة وفي الأرشيف، ودافع عن حضور ذاتية المؤرخ في الكتابة التاريخية، لأنه في الواقع، كل شيء يبُنى، ولا شيء يُعطى كما كان يردد الفيلسوف غاستون باشلار. يتوجب على المؤرخ حسب الحوليات أن يبني مواد بحثه، لأن عملية البناء هي التي تُميز المؤرخ عن الإخباري، وتفصل بين البناء الإشكالي للماضي عن النقل والاسترداد السردي للماضي؛ هي التي تُميز أيضا المؤرخ البناء عن المؤرخ الناسخ…ليس الماضي هو الذي يُنتج المؤرخ، بل المؤرخ هو الذي يُولد التاريخ كما يقول فرنسوا دوس في كتابه التاريخ المفتت.
رهان تجديد الكتابة التاريخية يرتبط في المقام الأول بتكوين المؤرخ. على المؤرخ أن يبتكر فرضيات جديدة غير مألوفة، وأحيانا، قد تتضمن نوعا من الجرأة والمغامرة. على المؤرخ أن يمارس مبدأ الشك الدائم في قراءة سرديات اجتماعيات الفكر البشري، وحينما يستشير الأرشيف عليه أن يقابل صِدق أو زيف الفرضيات اعتمادا على الوثائق التي تَحَّصل عليها، كما يتوجب عليه أن يستعير مفاهيم من علوم اجتماعية واقتصادية مجاورة مثل الظرفية، التركيبة، الأسعار، النمو، التقدم، الأزمة لخلق حوار مفتوح مع عطاءات هذه المباحث من جهة، وتجديد الكتابة التاريخية من جهة ثانية. وقضية التجديد لا ترتبط بإعادة القراءة وحتى الكتابة وفقط، بل بتجديد الدلالة والمعنى والسُّيولة التاريخية. والقصد من ذلك، دلالة المفاهيم وتغيير النظرة إلى سرديات الماضي من أجل التأسيس لـ»إبحار علمي جديد» بالعبارة الشهيرة للمؤرخ جاك لوغوف.
يشترط الإبحار العلمي الجديد حسب جاك لوغوف ثلاثة مقتضيات رئيسية: أولها يتصل ببناء تصور جديد للوثيقة، أو بناء عقد منهجي جديد مع الحوامل التاريخية. بمعنى بناء منهج جديد لنقد الوثيقة، لأن الوثيقة بالنهاية غير بريئة، لأنها نِتاج تصورات ذهنية المؤرخ الذي حاول فرض رؤية سردية معينة على الواقع، بهذا، المؤرخ من خلال الوثيقة نقل لنا صورة من ضمن صور أخرى قائمة، وثانيها بإعادة النظر في مفهوم الزمن من خلال تحطيم فكرة الزمن المتجانس أو الخطي وتبني مفهوم الزمن المتعدد الذي يرجع في الأصل إلى السوسيولوجي موريس هالفاكس M. Halbwachs، وثالثها، إلى اعتماد منهج المقارنة وعدم السقوط في مقارنة الأشباه بإسقاط مفهوم تاريخي على وضع قد يكون غير متطابق مع الواقع التاريخي.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 31/05/2024