في قصص عبد النبي دشين «لا أحد ينتظرني» طريقة سرد متماثلة، تتكرر في جل النصوص القصصية وذلك التكرار ينم عن خطة سردية معتمدة من قبل الكاتب، وبالتالي فهي حامل لقصدية محددة ويمكن الحديث من ثمة عن وجهة نظر، وعن تعريف وتصور بمعنى ومفهوم القصة والكتابة.
أولا لم يستعمل الكاتب مفهوم القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا رغم أن القصص في عمومها لا تتجاوز الصفحة الواحدة أو الصفحتين، باستثناء القصة الأخيرة رقم 24 تحت عنوان» البحر كان يعرفني» التي تميزت بطولها مقارنة مع أخواتها ولذلك دلالة نراها مهمة على مستوى المستوى القصدي وعلى مستوى الكتابة، وعلى مستوى حالة الوعي القصصي. لقد جاءت القصة الأخيرة مختلفة من حيثُ روحُها وفكرتُها الشعرية المتمثلة في كسر حاجز الضيق والقصر والعتمة والانطواء على الذات، من خلال حالة الحزن والشعور بالضياع والرغبة في مغادرة العالم؛ عالم خلا من الصَّحْبِ ومن الأهل والأحبة والأشياء المحيطة بالذات، تلك الكائنات والموجودات المجاورة والتي بها تقوم الذات، وبها يتحقق وجودها. وفي حال الغياب بالموت أو بغيره، تشعر الذات بالنقصان وبالحاجة إلى أجزاء منها ضيعتها. في القصة الأخيرة وهي بوابة نحو أفق جديد لما سيأتي. إنه الأمل الرابض هناك خلف العتمة، القادم من العدم في قلب قنينة زجاجية- كما تردد في القصص والحكايات القديمة- تحمل ورقة ملفوفة كتب عليها قدر جديد:» اليوم أعد نفسي أن أترك الماضي خلفي. سأعيش للحظة، وأفتح بابا جديدا للحياة، سأغفر لنفسي أخطائي وسأحب نفسي كما أنا». الصفحة 120 .بمعنى أن كل القصص السابقة كانت الطريق الطويل للوصول إلى هذه القناعة، التي يسميها ميشيل فوكو «الاهتمام بالذات»، وهي مرحلة متقدمة في تاريخ تطور البشرية أو بمعنى آخر تطور الحضارة. إن الاهتمام بالذات يسعى إلى تحرير «الأنا» من عقالها وتحريرها من مخزونها الخفي والخبيء، أو ما يسمى في التحليل النفسي المكبوتات، تلك الأعمالُ والأحلام والرغبات الضائعة المقيدة، التي لم يُكتبْ لها التحول إلى الفعل (الإشباع) فبقيت هناك قابعةً تتحكم في سلوك الفرد قولا وفعلا وسلوكا عاما وخاصا. يعتبر الاهتمام بالذات من أهم اللحظات التي ترتقي إليها المعرفة بالذات وغاياتها ومقاصدها وطبيعة تشكلها. إنها لحظة الانفراج والخروج من عتمة الأفكار المحبطة ومن التأمل والوقوف خارج «الأنا». إن القصص في «لا أحد ينتظرني» غالبا ما تبدأ بفعل «العودة»، كالرجوع من الخارج؛ من العمل أو من الشارع أو من التسكع في طرق الأحلام ومسارب الذاكرة، وهذا الفعل الإنجازي يدل على مقابل له عامٍ، هو الخروج عن الأنا والاهتمام بالآخر وبالعالم الخارجي، الآخرِ الجحيم كما يقول فيتجنشتاين والخارجي الصاخب بالصراع الجانبي، الصراعِ الذي يشوش على الأنا وعلى حضورها، الصراع الذي يُبْعِدُ التفكير في «الأنا» ويعزلها عن جوهرها وقضاياها الحقيقية. إن الفرد في المجتمع يعاني معاناة مضاعفة فكرية ونفسية وجسدية ووجودية، لأنه ببساطة يهتم بغيره، يهتم بغير نفسه ويهمل أناه، يهتم باللباس والأثاث والطعام والشراب والوظيفة والمركز الاجتماعي والوضع الاجتماعي والأصدقاء والأعداء والخطابات التي تَلُفُّ العالم وتُتْلِفُ الحقائق في خطابات مغالطة ومزيفة (مفبركة)، وفي خطابات أخرى موازية من الرموز والإشارات التي ترفع من درجة ضغط وحرارة العالم المحيط بنا وتغمرنا بأهوالها وأوهامها وتضعنا في النسيان، في قلب النسيان الذاتي وتحرمنا من العودة الحقيقية إلى أنفسنا واكتشاف ذاتنا (ككينونة عامة ومشتركة) أو اكتشاف ذواتنا (كأنوات مفردة). إن الاهتمام بالذات يمر عبر لحظة اكتشاف الذات، ولا يمكنك اكتشاف الذات، وهي لحظة إدراك، أي ما يسبق لحظة الوعي بالذات الذي هو لحظه الاهتمام بالذات، وكل ما تُعَبِّرُ عنه القصصُ في «لا أحد ينتظرني» الخمسُ وعشرون (25) قصةً، محاولة اكتشاف الذات وانتباه إلى الأنا الضائع في غمرة الأوهام، وقد أدى اكتشاف الذات إلى الانتباه إلى الأشياء المحيطة بالإنسان؛ الكرسيِّ والمرآةِ والصورِ والكتبِ والشارعِ والجريدةِ والعملِ وامرأة الشارع ورجل الشارع وضيقِ الزقاق وعتمة الممرات وحزن الرجوعِ وكآبةِ المكان وجمود الزمان، وفراغ المكان الذي هو السبب في الشعور بالخواء وبالنقصان والشعور باللا جدوى. تلك الكائنات الخفية الحية التي يراها الفرد والإنسان الضائع في حياتنا المعاصرة المليئة بالرموز وبالصور والإشارات والأصوات والضجيج والآلات وما يسمى تكنولوجيا، وهي في الحقيقة أي تلك الأشياءُ جزء حي من تجربة الوجود الإنساني ووجهٌ من وجوه الإنسان الواعي بحقيقة وجوده المهتم بذاته الساعي نحو معانقة حقيقةِ أناه، وبذلك يتخلى الإنسان الواعي عن وحدته وعزلته؛ وحدته النفسية وعزلته الجسدية ومحنته الفكرية ليحقق السعادة الآنية لأن الحقيقة الجوهرية تكمن في الحاضر/ الآن في الأنا التي هي شفرة الكائن وليست الذات التي هي المادة الحسية للأنا وخارجها وغطائها غلافها الشفاف. إن مفهوم «العودة» الذي تحتفل به القصص في «لا أحد ينتظرني» هي عودة نحو العودة إلى الرحم عبر الممرات والمسارب والطرق الضيقة المعتمة التي نبنيها لأنفسنا عبر أوهام الوحدة والأحزان وأسوار الخوف. إن الفرد في المجتمعات المعاصرة المحاصر بالخطابات المضللة غالبا والأحداث الجسام المهولة يصغر أمام العالم فتنكمش إرادته وتتقلص قدراته ويسقط دون وعي منه في شرك الخواء وخيوط الكآبة المدنية. هل هو ذاته الإنسان الصغير عند فيلهيلم رايش؟ هل هو الإنسان المضطهد عند فوكو، هل هو الإنسان الذي فقد ظله أو المرأة التي فقدت ظلها أو هو الظل الذي فقد ظله في القصة رقم (18) تحت عنوان «ظل الظل»؟، هل هو الإنسان الأخير عند نيتشه؟ إنه كل ذلك، وهو عنوان المرحلة الكابية التي يعيشها الفرد المعتقل طواعية في الحجر الصحي في عالم التكنولوجيا وعالم بعد كورونا، كوفيد -19.
لا شيء سيعود كما كان لأن فعل العودة لا يعني أننا سنجد ما خلفناه كما هو، إنما العودة شعور نفسي ورغبة داخلية ترتكز عليها الذات لتستطيع فهم حركة الزمن وتدرك أيضا أن الأشياء التي مضت واللحظات التي مضت لن تتكرر مهما أكد نيتشه في فلسفته على «العود الأبدي»، على انغلاق الدائرة، على الحجز على الرجوع الحتمي إلى نقطة البداية. تأتي فكرة العودة وفعل العودة في قصص «لا أحد ينتظرني» على صور مختلفة؛ يأتي فعل العودة كنواة سردية (الجملة النواة) كحركة سردية تتحكم في مسارات السرد من بينها أول قصة تلك التي شملت المجموعة تحت عنوان «لا أحد ينتظرني»، وهذه الجملة نواةٌ في حد ذاتها، قابلة للتأويل واعادة التركيب، فهي جملة منفية ولامها نافية للجنس الفاعل المنتظِرِ؛ إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا أو جمادًا، لا شيء ينتظرني عند العودة عند عودتي من الخارج خارج ذاتي وأناي، يمكن أن أتمم الجملة كالآتي:» لا أحد ينتظرني إلا الفراغَ» أو «لا أحد ينتظرني سوى الكتبِ». إن محمول هذه الجملة النواة متعدد، وقد يكون إنسانا قد يكون مكانا قد يكون شيئا قد يكون مجرد شعور أو لا شيء كالفراغ والصمت والعتمة والحزن والوحدة والعزلة والذكريات والصور. يقول السارد:» عاد مثقلا إلى منزله، خطواته كانت كأنها تحمل أوزار العالم بأسره. كان المساء باردا والمدينة تنطفئ تدريجيا خلفه، لكنه لم يكن بحاجة إلى الضوء؛ فالظلام في داخله كان أكثر كثافة من أي عتمة خارجية.
وقف أمام الباب للحظات، وكأنه يتهيَّب الدخول. يعلم جيدا أنه ما إن يغلقه خلفه حتى يجد الفراغ يحيط به من كل جانب». الصفحة التاسعة (9)
هنا العودة من خارج الذاتي، من الشارع أو العمل أو النهار إلى الأنا والبيت والليل. إنها انتقال من الخارج إلى الداخل وانتقال من المشترك إلى الشخصي وانتقال من الوهم إلى الحقيقة. إن العودة تضع الذات أمام المرآة لترى حقيقتها بعيدا عن الضجيج والقشور وكل تلك المواضعات والأوهام التي يغلف بها الإنسان حقيقة وجوده ويملأ بها عتمات وقته، عندما يعود الإنسان إلى نفسه حيث لا أحد ينتظره الأصدقاء في الخارج والزوجة والأطفال والأهل في البيت، في تلك اللحظة الحاسمة تنقشع الأوهام والأحلام الوردية تصير كوابيس، فتستمرئ الذات ههنا الدخول في العتمة، هذه حال الإنسان في الأزمنة المعاصرة أزمنة الآلة والتكنولوجيا (التطبيقات الإلكترونية والعوالم الافتراضية واليوتيوبات الناعمة القاتلة المخصية لإرادة الفعل البشري)، وأزمنة هيمن عليها الرأسمال، أزمنة الليبرالية الجديدة المتغولة في المتاجرة في/ بكل شيء، العاشقة لجمع المال والتفاخر بالصفقات وتقليص حجم الإنسان وتضييق وجوده ليصبح بلا ظل يذل عليه وبلا صفات مميزة لجنسه ونوعه أو بلا قيم محددة للمشترك بين البشر، وصناعة الإنسان السلعة الإنسان اللاشيء. ليست الكتابة اليوم سوى فعل مقاومة ضد الفراغ والصمت والخوف والحزن والكآبة والهبوط النفسي الجمعي للكائن الفاعل النشيط عبر مختلف الأزمنة الخلاق عبر الوعي والفكر والإبداع والكتابة والفن. هذه القصص لا تحكي عن نفسها إنها تحكي عن العالم الذي كُتبت فيه بأسلوبها السرديِّ وتخييلها الجمالي ولغتها الحية المقتضبة والمكثفة وأفعالها وأحداثها المختزلة والضرورية وعوالمها الذاتية والشخصية المنفتحة على الكائن البشري المعاصر في المرحلة التاريخية الحالية التي تشهد تحولات عميقة على مختلف المستويات وأجلها مستوى القيم وتحول الرؤية من رؤية فكرية وإيديولوجية إلى رؤية مادية ونفعية سوقية (تجارية). لقد خلقت هذه الوضعية نوعا من الإنسان وإذا شئنا الدقة نوعا من الأفراد داخل المجتمعات الجديدة، يمكن أن نطلق عليهم اسم الإنسان الدائري أو الكائن الدائري لأنه يجعل من الدائرة، ومن فعل العودة والرجوع محورا لوجوده. إنه يذهب في كل اتجاهٍ بحثا عن ذاته، بحثا عن مجال يُحقق فيه أناه ويكتشف فيه خصائصه وصفاته المميزة وعالما يحقق فيه كرامته ويحقق فيه غاياته وأهدافه من الوجود، ذلك الوجود الذي يجعله ممتلئا بالطمأنينة، مطمئنا إلى الجدار الذي يسنده، وليس من جدار سوى ذاته، سوى أناه التي هي ذاته وشخصه في وقت واحدٍ، هي التي تميزه عن الآخرين وتضعه بينهم حلقة مشتركة وضرورية بدونها يختل النظام. إن الإنسان الدائريَّ هو الذي يفكر بسطحية عندما يصطدم بالواقع فينسى ذاته وينسى أحلامه وينسى الآفاق التي بناها لنفسه كبعد استراتيجي تكتمل فيه الذات وتنتشي بعد مرورها من حال الكمونِ إلى حال الاكتشاف إلى حال الانتباه ثم إلى حالة الاهتمام بالذات، عندما تكون تلك الذات قد شكلت هي والأنا كيانا متوحدا رغم اختلافهما، وبالتالي تكون تلك الذات وهاته الأنا هي الصورة المثلى للإنسان وللكائن داخل المجتمع وللفرد داخل سيرورة المجتمع وللفرد داخل تركيبته النفسية والذهنية. إنه ذلك الذي كان يتمناه العنصر الفاعل الذي يتحكم في الزمان وفي المكان وفي الأشياء ويبني عوالم من خلال كل المشتركين في معه في هذا الوجود من أشياء وكائنات حية؛ حيوانات ونباتات وما إلى ذلك. إنه الكائن الذي بنى الحضارة في بعديها الكبيرين، بعدها الثقافي أي كل ما أنتجه عقل الإنسان من إبداع وفكر وفلسفة وعلوم، وبعدها العمراني، وهو كل ما بنته يد الإنسان من صروح وآثار خالدة لا تزال رسومها موجودة حتى الآن، لكن للأسف دائما هناك كائن منتكسٌ، كائن سطحي، كائن دائري، كائن لا يفكر في التقدم لا يفكر في النهوض، يفكر فقط في العودة إلى القوقعة، إلى السكون والكمون وإلى الانتكاس. وهذا الإنسان تتضاعف في نفسه العزلة والشعور بالوحدة في نوع من الإعلاء من الشعور بالسقوط في الهاوية، هكذا تكون حالة الهبوط، وأعني هنا الهبوط العام والمشترك، وإن كان في القصة مرتبطا بالشخصية القصصية، وهو ما خُتِمَ به النص كالآتي:» لا أحد ينتظرني… ولا أحد سيدقُّ الباب». الصفحة (10). إن الحكم المطلق الصادر عن الشخصية القصصية حالٌ من استمراء الوقوع في النكوص والارتكاس، ومما يؤكد هذا الفعل قصة «رصيف الانتظار» حيث توقف القطار عن المرور والتوقف في المحطة منذ زمن بعيد، ورغم ذلك، هناك من يأتي ويقف منتظرا الذي لا يأتي، والقطار كما هو معروف دليل على الزمان والحركة، أي توقف الزمان وتوقف الحركة، وتوقف التطور، والأغرب أن الحارس المحطة الذي توقف عن العمل لم يغادر حجرته الضيقة الصغيرة، ولم يتوقف عن محادثة المنتظرين وتنبيههم إلى توقف الحياة وركودها كما نسي أنه بلا عمل، يقول النص:» هذا المشهد كان يتكرر يوميا. الرجل، الذي كان حارسا مخلصا، فقدَ عمله بعد أن أغلقت المحطة، وتم الاستغناء عن خدماتها.
لكنه رفض أن يتخلى عن دوره، يقف كل يوم في نفس النقطة ..تتراءى له شخصيات يقابلها، يحادثها، محاولا دوما إقناعها بالعدول عن الانتظار.
في النهاية، استدار الرجل وغادر الرصيف بخطى بطيئة، يتبعه كلبه الوفي. عاد إلى غرفته الصغيرة في المحطة المهجورة، حيث جلس على كرسيه القديم ينظر من النافذة.
بالنسبة له، لم تكن المحطة مهجورة أبدا. حتى لو كانوا مجرد وهم». ص (22)
يظهر النفس تشبث الحارس بالوهم رغم أنه يدرك إنما يقوم به مجرد وهم. إنها من أشد الحالات التي تدل على الهبوط، هبوط الإنسان المعاصر الذي تحاصره الحياة في سرعتها وفي غلوها وفي وتبدل أحوالها وتغير قيمها ومعايرها. إن ما يقوله النص ظاهرا يتمحور حول الأفعال والوقائع والحالات التي تنتاب الإنسان (الفاعل والعامل)، ليس ذلك فحسبُ، بل يحتاج النص أي نص، جنسا ونوعا وخطابا، القول والقصد والغايات القريبة والعميقة، ومن الغايات والمقاصد ما يلتزم البعد الشخصيَّ وما يتعدى إلى العام والشامل، ومن بين تلك الغايات القريبة ما أظهرته اللغة الإبداعية، من حقول معجمية مهيمنة كالوحدة والعزلة والغربة والغياب والصمت والحضور الشعوري كتمثلات ذهنية ومشاعر نفسية، وذكريات مسترجعة ومستعادة، تبدأ النصوص القصصية القصيرة المكثفة المخففة من الدُّهون البلاغية واللفظية بتلك الموضوعات الشخصية والعامة الشديدة العتمة والوحدة، وانتهت في شبه انفراج فتح فيه الكاتب باب الأمل.
قدمت هذه الشهادات
في اللقاء الاحتفائي بمجموعة «لا أحد ينتظرني» للقاص عبد النبي دشين يوم 21 ماي بالمسرح الوطني بالرباط، والمنظم من طرف بيت الشعر في المغرب