الإبداعُ الشِّعريُّ والإعاقةُ البصريةُ: مُحاولة قراءة في ضوء التربية الدامجة

بدأتْ نظرةٌ جديدةٌ تتبلور في الآونة الأخيرة مُفَادها: أن ذوي الحاجات الخاصة من حقّهم أن يعيشوا حياتهم بشكل طبيعي، بل يمكنهم أن يعيشوها بتفوّق وإبداع. ومن هنا حاولنا التساؤل عن جدوى العلاقة الرابطة بين «الإبداع» و»الإعاقة». واتضح جليا أن الإعاقة سلاح ذو حدين، يمكن للإعاقة أن تدفع بصاحبها إلى الإبداع في مجالات كثيرة، إذا ما توفّرت العزيمةُ والرّغبةُ في تجاوز الإعاقة، كما أنَّ الإعاقةَ يمكن أن تكون سبَبًا في النكوص والتّراجع إلى الوراء. لذلك يبقى التحدي هو القوة التي تفجّر الطاقاتِ الإبداعيةَ ليس فقط عند ذوي الإعاقات؛ وإنما لدى «الأسوياء» من الناس. والأشخاصُ الذين تجاوزوا إعاقتهم وأبهروا العالم بإمكاناتهم كُثْرٌ يصعب حصرُهم. وقد تتبّعنا نماذج منهم؛ ولم يكونوا قدوةً لذوي الإعاقة وحدهم، بل كانوا قدوةً لــ «الأسوياء» كذلك. ويبقى البحثُ في موضوع: «الإبداع والإعاقة» من المواضيع التي تسحق البحث والتنقيب والمناولة، والمقاربة، خصوصا في ظل سيادة الفكر التربوي الدامج الذي أعطى أولويةً لذوي الطاقات الخاصة، لرفع التمثّلات التي لحقت هذه الفئة زمنا طويلا. ويمكن لمثل هذه البحوث المساهمة في تصحيح التمثّلات السَّلبية التي ترسّخت في أذهان الأغلبية الساحقة من المجتمع، وخاصة المجتمعات التي تعرف تراجعًا كبيرًا في الحقوق والحريات وانخفاضًا في التعليم، ووعيًا قليلا في سيرورة الإدماج، وضعفًا في الإمكانيات المادية واللوجستيكية.
عندما يضع ذوو المهارات الخاصة أمامهم الأمل والإصرار يكونون قادرين على العطاء والإبداع في المجالات كلها، ومن هذه المجالات مجال الأدب والشعر، فقد تفوّق فيه مبدعون عانوا من إعاقات مختلفة، وخاصة الإعاقة البصرية.
يصعب في بعض الأحيان تجاوز شعور النقص والعجز ، لأن هذا الشعور يتغلغل في أعماق النفس الإنسانية، خصوصا عندما تَحْدُثُ الإعاقةُ البصريةُ في سن متقدّم بعد أنْ لامس صاحبُها نعمةَ البصر؛ لكن إلى أي حد يمكن لفاقد البصر مجاراة «الأسوياء» واللحاق بهم، والتفوّق عليهم في شتى مجالات الإبداع؟
يمكن أن يكون الشعرُ وسيلةً إبداعيةً للوقوف إلى جانب هذه الفئة، من أجل الالتفات إليها وتسليط الضوء على معاناتها، والتّنبيه إلى أهمية إدماجها، وقد قام بهذا شعراء «أسوياء» من قبيل أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي عرض لمسألة من مسائل التربية والتعليم، ذلك بأن الأزهر هو المعهد المصري الوحيد الذي يفتح أبوابه للمكفوفين، وقد أشاد شوقي بما يقوم به الأزهرُ الشّريفُ، ولم يقف عند ذلك، بل صنع لهم أناشيد، وقصائد غنائية، يقول:
نَظَرًا وَإِحْسَانًا إِلَى عُمْيَانِـــــــــهِ وَكُنِ الْمَسِيحَ مُدَاوِيًا وَمُجَبِّــــــــــرَا
وَاللهِ مَا تَدْرِي لَعَلَّ كَفِيفَهُــــــــــــــــمْ يَومًا يَكُونُ أَبَا الْعَلَاءِ الْمُبْصِرَا
إنه نداء لتلك المؤسسة العلمية الدينية ـــــــ الأزهر الشريف ـــــــ كي ترعى فاقدي البصر، وقد كان من بين هؤلاء د. طه حسين، الأديب، والمعلم، والوزير..كما يعد الشّعرُ وسيلةً ـــــــ أيضًا ـــــــ يوظّفها الموهوبون من هذه الفئة للتّرويح عن آلامهم، والتعبير عن آمالهم ورصد احتياجاتهم. حيث إنَّ للذات الإنسانية حضورًا في الشعر العربي؛ حتّى إن ناقدًا معاصرًا عَدَّهُ اتجاهًا شعريًّا في القرن الثاني الهجري؛ غير أن نزعة التعبير عن الذات قد وُجِدت في فنون شعرية مختلفة: المدح، الغزل، الرثاء، الوصف، وأغراض أخرى. كما وُجِدت في قصائد ذاتية خاصة بناحية معينة من نفس الشاعر يريد أن يُطلعنا عليها؛ إذْ نجد شعرًا يصوّر فيه صاحبُه مأساةَ فَقْدِ بصره، وانطوائه في عالم الظلام المهول. فهذا الشاعر العباسي أبو يعقوب الخُرَيمي يبكي بصره؛ فيقول:
أُصْغِي إِلَى قَائِدِي لِيُخْبِرَــــــي إِذَا الْتَقَيْنَا عَمَّنْ يُحَيِّيـــــــــــــــنِي
أُرِيدُ أَنْ أَعْدِلَ السَّــــــــــــــلَام وَأَنْ أَفْصِلَ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالـــــــــــدُّونِ
إنَّ له مقطوعةً أخرى تفيض بالإحساسات العميقة بمأساة فَقْد بصره، ويصوّرها تصْويرًا ممْزُوجًا بالحَزَن، والألم؛ فيُنْشِد:
كَفَى حُزْنًا أَنْ لَا أَرَى أَحِبَّــــتِي مِنَ الْقُرْبِ إِلَّا بِالتَّكَلُّفِ وَالْجُهْــــــــــــــدِ
وَأَنِّي إِذَا حُيِّيتُ نَاجَيتُ قَائــدِي لِيَعْدِلَنِي قَبْلَ الْإِجَابَةِ فِي الــــرَّدِّ

هذا؛ وإن لشاعر مشرقي يدعى «أبا الشيص» (تـــ: 196 هـــ) مراثيَ في عينيه؛ منها:
يَا نَفْسُ بَكِّي بَأْدْمُعٍ هُتُـــــــــــــــنِ وَوَاكِفٍ كَالْجُمَّانِ فِي سَـــــــــــــــــــــــنَنِ
عَلَى دَلِيلِي وَقَائِدِي وَيَـــدِي وَنُورِ وَجْهِي وَسَائِسِ الْبَــــــــــــــــدَنِ
إن ما ورد عند هذين الشاعرين من وصف لعماهما يكاد يكون وصفا إخباريا عرضيا مقتضبا في مقابل محنة ألحقت بشاعر أندلسي هو «عاصم بن زيد التميمي»، ويكنى بـــ: أبي المخشى الذي ضاع شعره، ولم يبقَ منه إلا أشلاءُ قصيدتين وستة أبيات، وأطولُ ما وصلنا من شعره مقدمةٌ باذخةٌ صنعها في مدح عبد الرحمن الداخل، وكان التمهيد في وصف عماه، وما تعانيه أسرته من رجل أصبح ضريرا، وقبل أن نورد القطعة؛ نشير إلى أن الشاعر أبا المخشى قُطِع لسانه وسُمِلت عيناه من لدن الأمير هشام الذي كان واليا على مدينة ماردة؛ حيث هجاه أبو المخشى بقوله:
وَلَيسَ كشانئ إنْ سِيلَ عُرْفًا يُقَلِّبُ مُقْلَةً فِيهَا اعْوِرَارُ
وكان «هشامُ» أحولَ فاغتاظ لذلك، وحقد عليه، إلى أن استدعاه إلى مدينة ماردة وهو وَالٍ عليها في حياة أبيه الأمير عبد الرحمن، فخرج إليه أبو المخشى من قرطبة طامعا في نائله، غير مرتاب بباطنه، فلما دخل عليه قال له هشام: (يا أبا المخشى، إن المرأة الصالحة التي هجوت ابنها فقذفتها، فأفحشت سبها، قد أخلصت دعاءها لله في أن ينتقم لها منك، فاستجاب لها، وسلّطني وتأذن بالاقتصاص لها على يدي منك، ثم أمر به فقُطِع لسانُه، وسُمِلت عيناه)؛ ولما وصل خبرُ الانتقام الشنيع إلى الأمير عبد الرحمن كتب إلى ولده يعنّفه ويعاتبه على فعلته هاته في حق الشاعر أبي المخشى؛ ولكي يخفّف الأمير عبد الرحمن من وقْع الرزء على نفسية الشاعر استدعاه إليه فدخل عليه هو وقائده ليقفا بين يديه، لكنه لم يستطع أن ينشد قصيدته التي نظمها في مدحه، وإنما اتخذ صَبِيًّا بعد أن درّبه على إلقاء القصيدة وإنشادها. وقد مهّد للقصيدة بمقدمة مستمدّة من تجربته المؤلمة واصفًا عماه، وباكيا حياته بكاءً مُرًّا. والقطعة نقلها إلينا لسانُ الدين بن الخطيب في «الإحاطة في أخبار غرناطة» ، وهي:
خَضَعَتْ أُمُّ بَنَاتِي لِلْعِــــدَا
إِذْ قَضَى اللهُ بِأَمْرٍ فَمَضَـــــى
وَرَأَتْ أَعْمَى ضَرِيرًا إِنَّمَــــــا مَشْيُهُ فِي الْأَرْضِ لَمْسٌ بِالْعَصَـــــا
فَبَكَتْ وَجْدًا وَقَالَتْ قَولَــــــــــــــةً وَهِي حَرَّى بَلَغَتْ مِنِّي المْـَــــــــــــدَى
فَفُؤَادِي قَرِحٌ مِنْ قَولِــــــــــهَا: مَا مِنَ الْأَدْوَاءِ دَاءٌ كَالْعَمَــــــــى

تزداد قوة الشاعر وطاقته التخييلية في الإبداع مِن محاكاةٍ وبناءِ الصور الشعرية بعد فقْد البصر، خصوصا أن الشاعر سبق له أنْ رأى العالم من حوله، ولم يولد ضريرا، إذْ يقول:

وَإذَا نَالَ الْعَمَى ذَا بَصَــــــــرِ كَانَ حَيًّا مِثْلَ مَيْتٍ قَدْ ثَـــــــوَى
كما أن فقدان البصر جعله يركّز اهتمامه على حاسة السمع، فيصبح الشاعر أكثر إحساسا وتبرّما مما يسمعه في محيطه. وعبّر الشاعر عن هذا الأمر بأنْ قالت له زوجه: كلمة قاسية حَرَّى بلغت منه المدى، وأصابته في مقتل. ويزداد الأمر حرقة عندما تكون الإعاقة البصرية نابعة من موقف عدائي انتقامي، فيتعمّق الجَرح. ولا شك أن الإبداع الصادر عن حالات الصدق والمعاناة يكون أكثر جمالا وإبداعا، وقد قال الأصمعي قديما لأعرابي: ما أجود أشعاركم؟ قال: هي التي نقولها وأكبادنا تحترق. فأحيانا تتعمّق المعاناة والآلام النفسية عندما يكون المحيط غير دامج. فلا بد من اعتماد لغة دامجة تأخذ بعين الاعتبار محنة هؤلاء؛ فهم بحاجة إلى عناية أكبر من السابق؛ لأن إحساسهم بالنقص يعمّق أحزانهم ومشاعرهم. ومثل هذه الإعاقات تعيق الأسرة بكاملها، وعبّر الشاعر عن ذلك بقول أدق: «وفؤادي قَرٍحٌ من قولها»؛ كأنَّ بي قلبه قروحًا وجروحًا تركتها آلةٌ حادّةٌ. وهذه الصّفةُ إنما تَدُلُّ على حالة سيئة يعيشها الشاعر. وممّا زاد من حالته أن الكلام صادر عن زوجه، التي كان من المفروض أن تساعده على تجاوز محنته العصيبة. ومن هنا نفهم دور الأسرة في المساعدة وبذل الجهد لاسترجاع الثقة، والإحساس بالأمان. ثم لا بد أن نشير لدور القائد، والمرافق في تأدية دور المؤانسة والإرشاد النفسي، والتّوجيه، ويُفترض في مرافقيْ ذوي الإعاقات البصرية أن يكونوا خاضعين لتكوينات في هذا النوع من الإعاقة، وبطبيعة الحال، فنحن نتحدّث عن زماننا هذا الذي أصبح فيه الوعي متقدّما بضرورة إدماج ذوي الإعاقة البصرية في المجتمع، وتحسين أوضاعهم.
ويبقى الإبداع الشعري ملاذا لبعض ذوي الطاقات الخاصة للتّعبير عمّا بدواخلهم، والتنفيس عن جراحاتهم وإحساسهم بالوحدة. إن ما عاشه الشاعر أبو المخشى في زمنه يعيشه الكثيرون في زمننا، بحيث لا أحد منّا بعيد عن الإعاقة، فهي تتربّص بنا تقترب حينا وتبتعد حينا آخر. وتبقى الإعاقةُ البَصريةُ من أشدِّ الإعاقات وأصعبها على صاحبها؛ لأنها تُعِيقُهُ عن قضاء حوائجه، وتَحُدُّ من حركته، فيكون لها عواقبُ حتى على الجانب الصحي للجسد، إذا ما بقي الشخصُ في أماكن محددة. وقد عبّر الشاعر عن هذا بقوله: «ما من الأدواء داء كالعمى». وكأن مَن سمل عينيه كان يدري ما لذلك من ضرر نفسي واجتماعي يلاحق صاحب الإعاقة مدى حياته.
ويرى الدكتور «أحمد هيكل» في كتابه «الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة» أن موضوع وصف العمى سمةٌ تجديديةٌ تميّز ملامحَ الشعر الأندلسي وتجعله ذا شخصية مستقلة؛ فيقول: «فهذا الموضوع جديد لم يطرقه شاعر قبل أبي المخشى فيما نعلم»؛ لكنّ أبا المخشى مسبوق في هذا الموضوع على نحو ما بيّنّا، سابقا، عند الشاعرين: أبي يعقوب، وأبي الشيص؛ بيد أن الجديد عند أبي المخشى أنه اتخذ من وصف العمى مقدمة لقصيدته. والشاعر أبو المخشى من شعراء الاتجاه المحافظ في الأندلس؛ يقول الضبي (تـــ: 599هـــ) في «بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس»: «أما المخشى فإنه قديم الجود والصنعة، عربي الدار والنشأة، وإنما تردد بالأندلس غريبا طارئا، وهو من فحول الشعراء القدماء المتقدّمين «. فلسنا أمام مقدمة خمرية، أو طللية، أو غزلية؛ وإنما نحن أمام مقدمة ذاتية تعبر عن محنة عاشها الشاعر، وذاق مرارتها فانعكست على أديم شعره.
وبالرغم من إعاقة الشاعر البصرية فلم تمنعه إعاقتُه من مواصلة الكتابة الشعرية، وتصوير معاناته اليومية مع محيط لم يتقبّل إعاقته. كما صوّرت لنا المقطوعةُ الشّعريةُ استعطاف الشاعر لعبد الرحمن من أجل العطاء، لكنْ من واجب الدولة أن تحفظ لذوي الطاقات الخاصة كرامتهم في زماننا، سواء بإنشاء صناديق خاصة بهم، والسعي إلى دمجهم دمجا حسنا، وإعطائهم حقوقَهم كاملةً غيرَ منقوصة، بل يستحقّون تمييزا إيجابيا تشجيعا لهم، وترسيخا لثقتهم بنفسهم على مزيد من العطاء والإبداع في يُحسنونه.
وإذا انتقلنا إلى محنة الشاعر أبي العلاء المعري، سنجد أن إعاقته البصرية جعلت منه شاعرا كبيرا، فالبعد السيكولوجي للإعاقة دفع بأبي العلاء إلى إنتاج قصائد خالدة، وسباحته في عالم الظلام الدامس المُهْوِل جعلت منه شخصا متأملا فيلسوفا، وأبو العلاء أُصِيب بمرض الجذري في صغره، وقد ابتُلِي بيُتم الأب وهو في الرابعة عشرة من عمره، فما كان من حزنه على أبيه إلا أنْ فقَد بصر إحدى عينيه، وذهب بصرُ الأخرى في ما بعدُ، ثم فقَد أمَّه. كل هذه الأشياء تكالبت عليه؛ لكنه لم يستسلم، فلم يُعِقْهُ فُقْدَانُ والديه، ولا عَمَاهُ عن طلب العلم، فحمل آلامه ومضى وأبحر في العلم، ورَهَنَ حياته لتحصيل المعرفة. ومن عجيب ما يمكن أن يُذكر له أنه بالرغم من عزلته ومحبسه في بيته؛ إلا أن الناس لم يتركوه لعزلته، بل شربوا من علمه ونهلوا من معينه؛ لأنهم عارفون لقدْره ومنزلته وفضله، حتى إنه استغرب كيف يأتي إليه المبصرون ليدلّهم عن الطريق، وهو الذي ظل رهين المَحْبِسَين، يقول:
أَنَا أَعْمَى فَكَيْفَ أُهْدِي إِلَى الْمَنْهَجِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ عُمْيَانُ
فأبو العلاء يدرك أن هؤلاء رغم امتلاكم لنعمة البصر، فإنهم ضالون للطريق. فتحوّلت نقمة البصر إلى نعمة تمنّى عدم زوالها حتى لا يشهد يوم الحشر، قائلا:
فَيَا لَيْتَنِي لَا أَشْهَدُ الْحَشْرَ فِيهِمُ إِذَا بُعِثُوا شُعْثًا رُؤُوسُهُمْ غُبْرَا
وتعبُهُ في الحياة جرّاء إعاقته البصرية بالأساس، وشقاؤُه في الدنيا، جعلا منه شاعرا مبدعا نظم قطعا شعرية باقية، وأوصلته محنتُه إلى التأمّل في الحياة، يقول (6):
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ، أَمْ غَــــنَّتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّــــــــــــــــادِ؟
صَاحِ! هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرَّحْـ بَ، فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَـادِ؟
خَفِّفِ الْوَطْءَ! مَا أَظُنُّ أَدِيمَ
الأَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَــــادِ
هذه مقطوعة شعرية، من قصيدة طويلة بث فيها أبو العلاء المعري فلسفته في الحياة، وما يعانيه من عزلة ومآسٍ بسبب إعاقته البصرية، وما رَوِيُ الدال المكسور وظاهرة التدوير الموجودان في هذه المقطوعة إلا دليل على نفسية أبي العلاء المنكسرة الكئيبة، بالرغم من أن قصيدته كانت في رثاء صديقه أبي حمزة الفقيه الحنفي، الذي كان أبو العلاء يجل أخلاقه وزهده؛ إلا كأنَّا بأبي العلاء يرثي نفسه وأحواله!
وإذا نظرنا إلى إعاقة أبي العلاء بمنظار اليوم، نؤكد على الضرورة البالغة التي يكتسيها الطب النفسي في مساعدة من يعاني من هذه الإعاقة البصرية على تجاوز مشكلته، باعتبار هذه الفئة مثل فئات المجتمع الأخرى تحتاج إلى تنوّع الخِدْمات والتّكفّل؛ فربما كانتِ الإعاقةُ البصريةُ سبَبًا في إعاقة نفسيةٍ عند أبي العلاء، فعاش بإعاقتين. لكنَّ هذه الإعاقةَ لا تجد، دائما، رجلا جَلْدًا صبورًا، وذا عزيمة مثل أبي العلاء، حتى يتفّوّق ويُبدع! كما نجد أنَّ للأسرة دورًا مُهِمًّا في مساعدة ذي الإعاقة البصرية في تجاوز الرواسب والعقد النفسية والشعور بالنقص، لكنّ أبا العلاء فقد أسرته مما زاد من ضرر النفسي.
وإذا ما بحثنا كثيرًا في تراثنا الحديث لا بد أن نجد صورًا ناصعةً، ونماذجَ مُعْتَبَرَةً لمبدعين فقدوا بصرهم، في الشعر كما في الكتابة النقدية والإبداع الأدبي بشكل عام، وعلى رأس هؤلاء: عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي تُرْجِم كتابُه «الأيام» إلى عدد من لغات العالم، وكُتِب بطريقة «برايل»، وقد أُصِيب بالعمى في الرابعة من عمره، ولم تمنعه إعاقتُه من الحصول على شهادة الدكتوراه من فرنسا، وألّف العديد من الكتب والأبحاث، وسيرته أشهر من نار على علَم. دون أن ننسى الكاتبة الأمريكية هيلين كيلر، التي أصيبت بالصمم والعمى والبكم في صغرها، ورغم ذلك تعلّمت الكتابة والنطق، وتعلّمت لغات مختلفة، ودخلت الجامعة وتخرّجت، ثم تفرّغت للكتابة والتأليف، لها كتب ومقالات وقصص، من أشهرها: قصة حياتي.
يمكن القول: إن الإعاقة البصرية لطالما شكّلت دافعا قويا على تحقيق الذات إلى أبعد حد، إذا ما تقبّل الشَّخصُ إعاقته فتتحوّل ذاتُه إلى ذاتٍ مبدعةٍ، منسجمةٍ مع محيطها الاجتماعي والنفسي، فتتفوّق على أقرانها ممّن يعيشون حياة «سَوِيَّةً». وقد استحضرنا فقط هذه النماذج من الشعر العربي، والأمر يحتاج إلى استقصاء وبحيث عميق، وقراءة متأنية للإعاقة البصرية في ضوء مستجدات التربية الدامجة التي أولت لهذه الفئة عناية كبيرة وسعت إلى ضرورة رفع الظلم عنها، وتمتيعها بحقوقها الكاملة، والدفع بها نحو إثبات ذواتها، ليس فقط في مجال الإبداع الأدبي، وإنما في مجالات أخرى بحسب إمكاناتها وطبيعة إعاقتها.

المصادر والمراجع:

1) المصادر:
ـــــــ الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين بن الخطيب، مطبعة الموسوعات، مصر، (د.ت.).
ـــــــ سقط الزند، أو العلاء المعري، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1957.
ـــــــ البيان والتبيّن، أبو عثمان الجاحظ، تحقيق حسن السندوبي، دار الفكر، بيروت (د. ت).
ـــــــ أشعار أبي الشيص الخزاعي وأخباره، جمعها وحققها: عبد الله الجبوري، ساعدت وزارة التربية على نشره، بغداد، 1967.
ـــــــ ديوان الخريمي، تحقيق: شاكر العاشور، دار صادر، بيروت.
2) المراجع:
ـــــــ مجلة الفيصل، العدد: 323.

 


الكاتب : محمد حماني

  

بتاريخ : 05/05/2022