الإحصاء العام للسكان والسكنى 2024 .. قراءة في التحولات الديموغرافية والتحديات التنموية بالمغرب

أنجز الإحصاء العام للسكان والسكنى في المغرب خلال شتنبر 2024، وكشف المندوب السامي للتخطيط بحر هذا الأسبوع عن نتائج هذا الإحصاء والذي يتضمن معطيات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية مهمة، تستدعي تحليل واقعها وأبعادها.
إن إجراء الإحصاء العام للسكان والسكنى يعتبر من الأدوات الأساسية التي تعتمد عليها الدول لتحقيق التخطيط المستقبلي والتعرف على التحديات الحقيقية. إذ أن التخطيط المستقبلي من حيث تحديد الاحتياجات الأساسية للتخطيط للسياسات العامة والعمومية بفعالية، وتحديد الأولويات حول القطاعات التي تحتاج إلى استثمارات أكبر (مثل التعليم، الصحة، البنية التحتية)، ثم على مستوى إدارة الموارد بشكل عادل وفعال بناءً على التوزيع السكاني. والتعرف على التحديات الحقيقية المرتبطة بالفقر والبطالة، والنمو السكاني وتحديد تأثيره على الخدمات العامة، والتحديات البيئية بتقييم التأثير البيئي للنشاط السكاني وتطوير استراتيجيات للتخفيف منه. كما يساعد على اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية مبنية على بيانات دقيقة.
ولذلك فان إجراء الإحصاء العام هو أساس التخطيط الاستراتيجي والتنمية المستدامة، وهو أداة لا غنى عنها لضمان توزيع عادل للموارد وتحقيق رفاهية المجتمع. وبالتالي فان تحليل نتائجه من منظور جيوسياسي يتطلب النظر في انعكاس هذه الأرقام على الاتجاهات الديموغرافية، الاجتماعية، والاقتصادية، وتأثيرها على المستقبل.

التراجع في معدل الخصوبة ونمو السكان البطيء

ان انخفاض معدل الخصوبة إلى 1.97 طفل لكل امرأة يعكس مرحلة انتقال ديموغرافي متقدمة، تتشابه مع ما شهدته دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا في العقود الماضية. هذا الانخفاض يهدد مستقبلاً بتراجع نسبة السكان النشطين اقتصاديًا، وارتفاع في أعباء الرعاية الصحية والاجتماعية المرتبطة بشيخوخة السكان مما قد يؤدي إلى تآكل الدعم الشعبي إذا لم يتم إصلاح أنظمة الحماية الاجتماعية، وهو ما أشار اليه تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان UNFPA (2022) حول آثار الشيخوخة السكانية في البلدان النامية. ان هذا التباطؤ في النمو السكاني قد يؤثر على المغرب كدولة تصنف في مصاف الدول النامية تسعى إلى تحقيق نمو اقتصادي يعتمد على كثافة اليد العاملة، وفي المستقبل قد يتطلب ذلك تعزيز سياسات الهجرة لاستقطاب العمالة الأجنبية كما تفعل دول الخليج. لكن الاستباق الذي بادر به ملك البلاد الى اعتماد وأجرأة المشروع الضخم المرتبط بالحماية الاجتماعية تعتبر مهمة استراتيجية على القائمين بتفعيلها الإسراع بتوفير كل مقومات نجاحها.

الزيادة في نسبة التمدن (62.8%)

زيادة التمدن تعني استمرار التحول نحو المدن، مما يعزز الطلب على البنية التحتية، والخدمات، وفرص العمل. مع ذلك، قد يؤدي إلى تفاقم الفجوة بين المناطق الحضرية والقروية، وزيادة الضغط على المدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط.
ان التحضر السريع قد يساهم في تعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي إذا تم استيعابه بشكل صحيح، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى مشاكل تتعلق بالهجرة الداخلية، البطالة الحضرية، وتوسيع البناء العشوائي، ما يجعل المدن مراكز للتوتر السياسي.

التعليم ومحو الأمية (ارتفاع متوسط سنوات التمدرس إلى 6.3 سنوات)

يشير التقدم في التعليم إلى تعزيز رأس المال البشري في المغرب، وهو عنصر أساسي لدعم الصناعات التكنولوجية والاقتصاد المعرفي. لكنه يكشف أيضًا عن تحدٍ يتمثل في ضرورة ربط التعليم بسوق العمل لتجنب البطالة في صفوف الشباب. إن تحسين مؤشرات الأمية والتعليم (انخفاض الأمية إلى 24.8%)، يعكس نجاح السياسات العمومية، خاصة البرامج المرتبطة بالرؤية الاستراتيجية 2015-2030 للتعليم.
وهو ما أشار اليه تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين بالمغرب (2023) حول إصلاح التعليم. كما أشار البنك العالمي في تقرير لسنة 2020 حول العلاقة بين التعليم والاستقرار السياسي؛ الى أن التحسن في التمدرس وانخفاض الأمية يدعمان وعيًا سياسيًا أوسع، مما يحد من تأثير الخطاب الشعبوي ويقلل احتمالات التوترات الاجتماعية عبر بناء مجموعات أكثر وعياً، ويساهم بالتالي في تعزيز الشرعية المؤسساتية للحكومة، وهو ما تؤكده نظرية الشرعية السياسية لماكس فيبر التي تشير إلى أن تحقيق الإنجازات التنموية يعزز الثقة بالمؤسسات.
ومن جهة أخرى فان هذا التحسين يعزز دور المغرب كقاعدة استثمارية إقليمية للشركات الأجنبية، خاصة في قطاعات مثل التكنولوجيا والصناعات المتقدمة. لكن قد يؤدي الفشل في توفير فرص عمل مناسبة إلى «هجرة العقول»، مما يُضعف من قدرة الحكومة على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ويؤثر بالتالي سلبًا على التنمية الاقتصادية.

البطالة وارتفاع معدل النشاط الاقتصادي المنخفض (41.6%)

ارتفاع البطالة خاصة بين النساء والشباب يشكل تهديدًا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. يعكس هذا ضعف سياسات خلق فرص العمل وضرورة إدماج الشباب والنساء في سوق العمل. وبالتالي قد يؤدي ارتفاع البطالة إلى زيادة التوترات الاجتماعية والسياسية، مما قد يعزز مطالب الحركات الاحتجاجية ويزيد الضغط على الحكومة الى تقديم إصلاحات أكثر شمولية وهو ما اشارت اليه دراسة منظمة العمل الدولية سنة 2023 حول العلاقة بين البطالة والاستقرار السياسي، والتي تؤكد أن ارتفاع البطالة بين الشباب يزيد من احتمالات الاحتجاجات. الشي الذي يستدعي التركيز على الاستثمار في الشباب الذي يمكن أن يعزز الموقع الجيوسياسي للمغرب كقاعدة للاستثمارات الإقليمية كما أشار تقرير بنك الافريقي للتنمية لسنة 2022 حول الشباب والتنمية في شمال إفريقيا. كما يُمَكّن للمغرب من استغلال موقعه الاستراتيجي في جذب الاستثمارات الأجنبية.

التفاوتات الجهوية

استمرار التفاوتات بين المدن الكبرى والمناطق القروية من حيث الولوج إلى البنية التحتية والخدمات الأساسية، يجعل هذه الأخيرة أكثر عرضة للهجرة الجماعية نحو المدن وهو ما يعتبر فرصة لتصحيح الاختلالات وتوجيه الاستثمارات نحو المناطق المهمشة. وهو ما أشار اليه أيضا تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (PNUD) حول مؤشر التنمية البشرية بالمغرب (2023)، الذي يبرز التفاوت بين الجهات. كما أشار تقرير البنك الدولي لسنة 2021 عن التفاوتات الجهوية في المغرب وأثرها على التنمية، إذ أشار الى أن استمرار الفجوة بين الحواضر والقرى يخلق شعورًا بالتهميش، وهو ما قد تستغله الحركات الاحتجاجية، ويزيد من ضعف الشرعية المحلية في الجهات المهمشة.
إن تحقيق العدالة المجالية يحد من النزعات الانفصالية ويقوي الوحدة الوطنية، وبالتالي فان هذه التفاوتات قد تعقد مشاريع اللامركزية في المغرب، وتدفع بالمناطق المهمشة إلى طلب المزيد من الاهتمام والاعتناء السياسي والاقتصادي، وهو ما يشكل تحديًا حقيقيا على تفعيل الجهوية المتقدمة بكل مكوناتها.

الأمن الغذائي وظروف المعيشة

رغم تحسن ولوج الأسر إلى الكهرباء والماء، إلا أن التحديات المتعلقة بالأمن الغذائي وندرة الموارد المائية في ظل تغير المناخ قد تؤثر على استدامة التنمية، وقد يدفع هذا التحدي المغرب إلى تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لضمان الأمن الغذائي والمائي، خاصة مع الدول الإفريقية جنوب الصحراء.

العلاقات الدولية والهجرة

النتائج السكانية تشير إلى زيادة إمكانيات المغرب كدولة عبور واستقرار للمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، مما يضعه في مواجهة ضغوط من الاتحاد الأوروبي لإدارة تدفقات الهجرة. ولذلك فالمغرب يمكن أن يعزز دوره كشريك أساسي في قضايا الهجرة مقابل تجديد مطالب الدعم المالي والتقني من الاتحاد الأوروبي وفق معطيات وشروط متجددة.
إن النتائج العامة للإحصاء العام للسكان والسكنى تُظهر تغييرات اجتماعية وديموغرافية كبيرة في المغرب، كما كشف هذا الإحصاء عن مواطن الخلل في السياسات التنموية السابقة وهو ما قد يُغذّي الخطابات الشعبوية، وقد يصعب بناء التوافقات الوطنية. مما يستدعي تبني سياسات استراتيجية شاملة ودقيقة تشمل الإصلاح الاقتصادي، وتعزيز اللامركزية، وضمان التنمية المستدامة لمواجهة التحديات المستقبلية.
وعليه يجب استخدام هذه نتائج بعيدا عن المزايدات السياسية باعتبارها تعني واقع الدولة والمجتمع، مما يستدعي الاعتماد على نتائج هذا الإحصاء لتوجيه السياسات العمومية من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعارف عليها، بالاستثمار في الشباب والتعليم لتعزيز رأس المال البشري وتنفيذ برامج اقتصادية عاجلة لدمج الشباب في سوق العمل.

*أستاذ العلوم السياسية
جامعة محمد الخامس


الكاتب : كمال الهشومي*

  

بتاريخ : 23/12/2024