كي تكون الأرض جديرة بالأقدام، لابد أن تحترم عباد الشمس.. فلا شيء يوازي هذا السيل «الإخواني» الكالح الذي بدأ يأكل جدراننا العظيمة، ويحولها إلى أبغض من قبر. الضجيج أتى من بلاد الفراعنة، والمثقفون المصريون عالقون في خاصرة العاصفة، يحاولون تطويقها بغزارة، وإرغامها على الترجل عوض الإمعان في تحويل «الإسلام» إلى سلعة..
هناك أكثر من مثقف مصري يرى أن النهر الثقافي لم يعد صالحا للاغتسال، وأن «تعميم» (من العمامة) الإبداع مدخل لتحجيبه وتنقيبه وتحويله إلى «أنثى» جاهزة للفتاوى الشرعية. فالمعممون يقترحون على الفكر العربي الحر، هنا والآن، وطناً آخر، لأنهم يريدون أن يغلقوا النوافذ ويضعوا عليها الأقفال والسلاسل.. المعممون لا يحبون الريح، لأنهم لا يحبون الأجنحة التي تطير في سماء غير سمائهم، لا يحبون غير الموتى لأن الموتى لا يخيفون، ولأن الطوفان ينطلي على قبورهم مثلما تنطلي البئر على الدلو في أحلام العطشى..
المعممون لا يحبون الشعراء والعشاق والفلاسفة والمثقفين، لأنهم لا يجيدون شيئا سوى وضع الحراب على الرقاب، وهم يناصبون «اليسار الفكري» العداء، لأنه لم يطلق على نفسه النار بعد، ولم ييأس من «اليقظة الحلوة».. بل يتحرك في جميع الاتجاهات ويعمل- كما قال الروائي شريف حتاتة- ضد النظام، لأنه يؤمن أن النظام هو «القرار الفاسد»، وأن خصمه العنيد هو التضييق على الحريات و»أخونة» الثقافة..
لقد نجح الإخوان في تسويق بضاعتهم «الإسلام هو الحل»، في سياق ردة ثقافية جعلت البلاد كما لو أنها جالسة على كرسي متحرك، بينما بات اليسار- عن غير إدراك شامل لعيوبه الذاتية والموضوعية- يتألم مثل أسد جريح في فلاة، وأقصى ما يفعله، حينما يشتد الخناق، هو الصراخ والاحتجاج والفضح..
لقد قدم مثقفو اليسار أشياء كثيرة لبلادهم، كما عانى أغلبهم من السجن والمنافي والملاحقة، وأيضا من التصفية الجسدية العابرة للقارات. كان الثمن باهظا جدا، لكن ارتماء بعضهم في حجر النظام وتدرجهم في التزلف الشاسع إلى أن تحولوا في نهاية المطاف إلى ناطقين رسميين، أصبح أكثر كلفة وخطرا، إذ فسح المجال لأن تمسك العمامة بالسيف، وأن تضع هذا السيف على رقبة الحرية.
طبعا هناك مثقفون، هنا وهناك، لا يكفون عن الاحتجاج على «أخونة الثقافة» بطرق مختلفة. منهم الذين اختاروا امتطاء الزجاج المكسور، ومنهم الذين مالوا إلى الحب الغامر، ومنهم من استماله العقل والجدل العقلي، ومنهم من حول الحريات الفردية إلى خندق رملي.. ومنهم من خرج عاريا ليعلن أمام الملأ أن الحرية في معناها العميق تبدأ من الجسد، وليس من اللحية أو الحجاب.. ومنهم أيضا من دعا إلى قراءة أخرى للإسلام وإخراجه من أوثانه التي رعاها فقهاء الظلام منذ القرن الثالث الهجري..
وقد صدق شريف حتاتة حين قال إن «محاولات «أخونة» الثقافة والسيطرة عليها لن تكون سهلة، سنخوض معارك طويلة. الرد الحقيقي على هذه المحاولات يكون من خلال زيادة العمل والكتابة والإبداع في مختلف المجالات، حتى لو صودرت هذه الأعمال أو مُنعت، نستطيع أن نبحث عن وسائل أخرى لنشرها».
نعم سيحاول الإخوان المسلمون، في كل مكان، تسجيل المثقفين الأحرار في قائمة القتلى. لكن، مع ذلك، على الحرية أن تواصل المشي في أرضها الشاسعة، وعلى الأقلام النزيهة أن تفجر نبع التمرد، حتى نحافظ على ما تبقى من رؤوسنا..