يعتبر التعليم من المؤشرات التنموية التي تعكس اليوم حقيقة الرفاه الاجتماعي داخل بلدان العالم، ولضرورة هذا المكون إنسانيا، اتُخذ إلى جانب القطاع الصحي ومعدل الدخل الفردي، كوحدة لقياس مستويات التنمية البشرية. لذا عملت الكثير من البلدان قدر الإمكان على تحويل جزء مهم من الأرباح الاقتصادية لخيرات أوطانها، صوب خدمة المواطن باعتباره الوريث الشرعي لها؛ وذلك عبر قنوات الرفع من جودة قطاعها التعليمي العمومي تحصيلا وممارسة.
ببلادنا ومنذ تأسيس وزارة التربية الوطنية، والخطاب دائر حول الكيفية التي من خلالها سنرقى بمستوى تعليمنا، حتى نتحصل على مقومات مجتمع متحضر معرفيا وسلوكيا… وقد شهد هذا الخطاب تشعبا لوجهاته الإصلاحية، مما أفرز لنا زخما من الحلول المقترحة. غير أن التجربة أكدت وبالملموس أن هذه الخطوات الإصلاحية التي أُنزلت على أرض واقع منظومتنا منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، قد ظلت حبيسة محاولاتها؛ وذلك لتظافر عدة مسببات منها تهميش منطق التشاور الحقيقي، وغياب مفاهيم الاستمرارية مع دخول بلادنا في كل مرة، تجربة حكومية جديدة. الأمر الذي أزلق المنظومة التربوية ككل داخل بوتقة التيه الإصلاحي.
كل هذه الكلمات السالفة تظل إلى حدود اللحظة مجرد جمود على ما سبق فيه القول وجودا، وقرأنا وسمعنا به في غير مرة. إلا أن الجديد بهذه المنظومة اليوم أو فلنعتبره من المستجدات العجيبة بقطاعنا، هو موضوع «نسب النجاح المرتفعة» البعيدة في كثير من الأمثلة عن مفهوم الكفاءة لدى العديد من المعنين بها. خصوصا إذا ما استوقفنا الحديث هنا عند السلك الثانوي التأهيلي، وما لهذا الأخير من اهتمام شعبي نهاية كل موسم، باعتباره الملفت للانتباه بامتحاناته الوطنية والجهوية.
فلقد أضحى الكثيرون ممن عاصروا طقوس وسياقات امتحانات البكالوريا وواقع النجاح بالمستويات الدراسية خلال العقود السابقة، يستغربون أمر هذا الكم من الإنجاح وما يواكبه من معدلات جد عالية. فيطرحون بتساؤلاتهم العديد من الاستفهامات المنطقية تحت قاعدة: أن معايير النجاح اليوم، قد خالفت ما كان عليه الحال قديما، وخالفت معها حقيقة واقع مراتبنا التعليمية دوليا. الأمر الذي يجعلهم وإيانا، نوحد الرؤية من زاوية تساؤل واحد، مفاده:
من الذي جعل «مدرستنا العمومية» تتصدق (إن صح القول) بكل هذه النسب من النجاح ؟
أمام هذا الاستفهام المركب، تطرح في وجهنا العديد من الإجابات التي يمكن أن نعلل بها تبريرا، واقع هذه النسب والمعدلات. غير أن كل هذه التعليلات لا تستقيم دونما الوقوف، عند واحدة تعد بالنسبة لنا من أهم الأسباب المادية المغفول أثرها المتحكمة في هذا الواقع الجديد. والتي سنحاول رغم حجم جنايتها على المنظومة، اختصار مضمونها في هذه الكلمات المعدودة من مقالنا هذا، علنا بذلك نقدم فكرة عن جوهرها كحتمية متحكمة داخليا في واقع هذه النسب.
إن نجاح المتعلمين اليوم وبالأعداد البادية رغم ما قيل ويقال عنها، يعد من أهم الاستفهامات اللامنطقية لواقع المدرسة العمومية اليوم. حيث أن هذه النسب لم تعلوا في سماء النتائج المحصلة في جملة منها، لأسباب تهم بأشكال مباشرة التحصيل المعرفي، أو ارتبطت في جزء آخر منها، في شق تكرم أطر التدريس نقاطا على هؤلاء المتعلمين… بل إن هذا «الإنجاح الكمي» وفي جزء لا بأس منه، قد أضحى رهين واقع بنية المؤسسات التربوية، التي أُغرقت اليوم بأعداد ديمغرافية من المتعلمين، لم تكن إلى حين قريب تظن ذاتها قادرة على استقبالها.
فعلا حق لهؤلاء المتسائلين أن يتعجبوا، وكيف لا ؟ فالعاملون بالمؤسسات العمومية تدريسا وإدارة أنفسهم تعجبوا؛ كيف أن أعداد المؤسسات العمومية، وكذا الأطر العاملة بها، وكل الجوانب التي تهم الوسائل والمعدات اللوجستيكية… لا تتوافق والسرعة التي أضحت تسير عليها بنيتنا الديمغرافية. فمجموع المؤسسات التي تم إنشاؤها خلال العشر سنوات الأخيرة وبسير أشغالها البطيئة، لم ترق إلى التطلعات المرجوة منها في استيعاب أعداد المتعلمين الوافدين عليها.
وفي توضيح لما غاب عن هؤلاء المستفهمين لهذا الواقع تعجبا، كان جزء مهم من الأزمة على الشاكلة التالية: لقد وجدت المدرسة العمومية اليوم ذاتها، وفي إطار الدراسات التربوية التي دائما ما تنجزها أطرها التربوية نهاية كل موسم؛ مجبرة على رفع نسب النجاح أو حتى إنجاح بعض المتعلمين الذين تقرر لهم الرسوب حقيقة. الأمر الذي تحاول من خلاله هذه المجالس التربوية، تدبير أزمة قلة المؤسسات التعليمية العمومية، غير مسؤولة عنها. فتعمل باجتهاداتها على محاولة إفراغ مقاعد الحجرات الدراسية حتى تكون قادرة في غياب الراسبين، على استيعاب الأعداد الوافدة عليها من الأسلاك والمستويات القبلية.
فلطالما وجدت هذه المجالس ذاتها أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تنجح هؤلاء المتعلمين، فتكف بذلك عن تلامذتها وأطرها وحجراتها الدراسية شر الاكتظاظ؛ أو تبقي على الراسبين سقوطا فتدسهم والوافدين الجدد ازدحاما، داخل فصول لن تقدر على استيعابهم عددا. وباعتبار عالمنا اليوم لطالما جنح إلى مفاهيم السلم، كذلك كان حال نقاش جلساء هذه المجالس التربوية، الذين دائما ما جنحوا بدورهم إلى السلم كافة. فكان «الإنجاح الكمي» رايتهم البيضاء المحمولة من لدنهم ولو على مضض.
أمام هذا الواقع المزدحم بأزماته والذي ظلت حلوله الرسمية بعيدة الإفراج عنه كأزمة، يحرجنا السؤال الذي خامرنا وسيخامر كل قارئ لهذه الكلمات:
من المسؤول عن هذه الأزمة من أصلها ؟
حتى نجيب عن هذا الطرح، وبعيدا عن أصابع الاتهام التي لا يحبها الكثيرون، ولا يحبون معها خطابنا الغيور بنقده هذا؛ نقول بكل اختصار ترتبط أزمة نسب النجاح المرتفعة، رغم المستويات الإدراكية المتدنية. بشكل مباشر وفي جزء مهم منها بعلة عدم مواكبة بناء المؤسسات التعليمية، بما يتوافق وسرعة الزيادة الديمغرافية التي شهدتها ولا زالت تشهدها بلادنا اليوم. فمن غير المقبول ولا المعقول ونحن نقتفي أثر هذه الأعداد، أن نجد مؤسسات تأهيلية ظلت تستوعب منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، أحياء تضاعف عدد ساكنتها اليوم أضعافا مضاعفة عما كان عليه الحال قبل تلك العقود.
إن واقعنا الجديد هذا وفي ظل عمليات البناء البطيئة السير، قد فسح المجال أمام الخواص الذين وجدوا ضالتهم الرأسمالية، فانقضوا على هذا القطاع المنتج بشريا… في محاولات منهم لتحويله صوب الانتاج المادي. ليخيم ومنذ هذه اللحظة، شبح خوصصة هذا القطاع.
ولعلها كذلك من الطامات التي ألمت وآلمت جسدنا التعليمي التربوي اليوم، وفي ذات السياق المتوحش؛ تلك النظرات الجشعة التي اختصرت كينونته الإنتاجية بمنطق امبريالية القرن التاسع عشر، في ما هو مادي أكثر منه بشري. فأضحت بذلك حيوية القطاع ومع كامل الأسف تقاس بالمؤشرات الربحية المادية لا التربوية التعليمية.
إن أزمة نسب النجاح هذه، مركبة المعطى تهب بقطاعنا التربوي صوب إفناء مفهوم التكرار كحل للأزمة، ولو على حساب المحصلات التي تسجل علينا دوليا. فتجعلنا بذلك في غير تصالح مع حقيقتنا وذواتنا وحتى شواهدنا…
وعليه، وكإشارة بسيطة لبعض الحلول اللازمة للأزمة التي تتوافق وما تمت الإشارة إليه تشخيصا في معرض حديثنا، تطفو أمامنا أولى الخطوات الإصلاحية في العمل على تسييج هذا القطاع من المتهافتين عليه رأسماليا، حتى نعيد للمدرسة العمومية منطقها الإنتاجي بشريا لا غير. وكتكملة لهذه اللبنة الإصلاحية الأولى، تأتي مهمة تهيئة الأرضية من خلال توسعة أوراش بناء المؤسسات التعليمية، حتى نحتضن برحابها جميع أبنائنا فقيرهم قبل غنيهم. في ظل ظروف تعليمية لائقة تضمن لهم مبدأ تكافؤ الفرص، وتصقل شخصياتهم بما يخدم وطننا العزيز مستقبلا…
(*)أستاذ الثانوي التأهيلي