يعتبر المفكر والباحث السوري فراس السواح من أوائل المغامرين المشرقيين الذين أبحروا في غياهب منتجات العقل الإنساني من حكمة ودين وميثولوجيا، محفزًا بكتاباته عقول كل من رافقه في رحلاته الروحية و المعرفية الممتعة في تاريخ الدين والأسطورة والآثار للبحث عن إجابات للأسئلة المفتوحة التي لا تنضب في مؤلفاته.
يعمل السواح حاليًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية، عضو في الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب وعضو في اتحاد الكتاب في سورية.
ما طرحه السواح في أبحاثه هو طغيان الفكر الغيبيّ على العقل العربي لكنه في المقابل، عوّل على المنهج العلمي في تقليص هيمنة سلطة هذه الأفكار، من خلال استنطاق النصوص القديمة المبعثرة بمنهجية صارمة قد تضع العالم العربي على عتبة أخرى في التفكير لذلك سعى إلى هدم «سلطة النص» وتحريره من قدسيته التاريخية، لهذا لم يقف السوّاح عند باب اليقين مرّة واحدة في رحلة تشوبها الريبة من الإيديولوجيات الجاهزة إذ كان يصف الظاهرة من دون الحكم عليها، على عكس ما تتكفل به الدراسات التي تنتمي إلى نقد الفكر الديني، ذلك أن الأساطير، حسبما يقول «هي حكايات مقدّسة، أبطالها من الآلهة، وتاليًا فهي المنبت الأول للنصّ الديني».
فلا يكمن التميز في السرد التاريخي، بل في التحليل وتوضيح الطبيعة العلائقية بين الأحداث التاريخية والأدب والأديان وتأثيرها القوي على ما آلت إليه الأمور في عصرنا هذا.
فما يجب أن يفعله المؤرخ، فهو ليس مجرد حافظ للأحداث، بل عليه أن يعرف القصة التي خلف القصة لأن لا شيء يأتي من فراغ، وكل حدث يوجد ما مهد لوقوعه وما نتج عن وقوعه، وربما تكون القصة محض خيال، ولكنها أحدثت تغييرات عميقة وخطيرة، ليست مبنية على أساس واقعي.
لقد كان السبب في انعقاد مجمع نيقية عام 325م، والذي أقر بشكل رسمي ألوهية المسيح، خلاف استعر بين اثنين من اللاهوتيين الكبار هما آثناسيوس وآريوس، تأثرت به جميع الكنائس التي وقف بعضها إلى جانب هذا والبعض الآخر إلى جانب ذاك. وقد تركز جوهر ذلك الخلاف على علاقة الابن بالكلمة، كلمة لله. ففيما يتفق الإثنان على أن كلمة لله قد تجسدت واستقرت في الإنسان يسوع، إلا أنهما يختلفان في أمر طبيعة الكلمة. فقد اعتبر آثناسيوس أن الكلمة التي تجسدت في يسوع هي أزلية غير مخلوقة وكائنة مع لله منذ البدء، أما آريوس فقد قال بأن كلمة لله ليست أزلية بل مخلوقة في الزمن، خلقها لله قبل خلق العالم، وأن المتجسد في يسوع هو هذه الكلمة المخلوقة. ومثل هذا الجدل عرفه علم الكلام الإسلامي عندما استعر الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة حول القرآن الذي هو كلام لله، وفيما إذا كان أزلياً أم مخلوقاً. غير أن عملية التصويت في مجمع نيقية قادت إلى انتصار أفكار آثناسيوس وتم إقرار ألوهية المسيح، الذي اعتبر: “من جوهر الآب، إله من إله، ونور من نور، إله حق من إله حق ، مولود (= متولد) غير مخلوق.” وقد قاد القول بألوهية المسيح فيما بعد إلى القول بالتثليث كما أشرنا سابقاً.
وفي الحقيقة، فإن أفكار آريوس هي الأقرب إلى روح أقوال يسوع سواء في الأناجيل الإزائية أم في إنجيل يوحنّا، وهي الأقرب إلى عقيدة أسفار العهد الجديد بخصوص طبيعة الابن وعلاقته بالآب.
ففيما يتعلق بفكر التثليث، لم يرد في أي موضع من أسفار العهد الجديد ما يشير إليها من قريب أو بعيد، وكلمة “ثالوث” غائبة تماماً عن الكتاب المقدس المسيحي، وأول استعمال معروف لها في تاريخ المسيحية ورد على لسان ثاوفيلوس الإنطاكي عام 180م؛ وذلك رغم استخدام المؤلفين أحياناً لصيغة: “الآب والابن والروح القدس”، كما هو وارد في صيغة العماد عند متّى: “فاذهبوا وتلمذوا الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن الروح القدس.” (متى28 : 19).وفي رسالة بطرس الأولى لدينا نموذج عن السلام الذي تبادله المسيحيون الأوائل باستخدام الصيغة نفسها: “من بطرس رسول يسوع المسيح، إلى المختارين بسابق علم لله الآب، وتقديس الروح، ليطيعوا يسوع المسيح وينضحوا بدمه،عليكم أوفر سلام.” (7 : 1 _ 2). إلا أنه لم يكن في ذهن متّى ولا بطرس في ذلك الوقت أن الآب والابن والروح القدس هم ثلاثة في واحد.
ولسوف نتابع في ما يلي العلاقة بين الآب والابن كما عبرت عنها بقية أسفار العهد الجديد، وننظر إلى النصوص بعين محايدة بعيدة عن التأثر بقرارات المجامع الكنسية، في محاولة لاكتشاف أي أثر لألوهة السيد المسيح في ثناياها. وسوف نبتدئ برسائل بولس الرسول، المؤسس الحقيقي للمسيحية. يستخدم بولس لقب “الرب” ليسوع في معظم المواضع التي يذكره فيها. وقد شرحنا في موضع سابق تحت عنوان “يسوع الرب” الفرق بين الربوبية والألوهية بالمعنى اللغوي، وبالطريقة التي استخدمتها أسفار العهد الجديد: “لا يستطيع أحد أن يقول يسوع رب إلا بإلهام من الروح القدس”. (1 كورنثة : 3). “فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع رباً”. (فيليبي 2 : 11). “فإذا شهدت بلسانك أن يسوع رب وآمنت أن لله أقامه من بين الأموات نلت الخلاص”. (رومة10 : 9).
ولكن إذا كانت الربوبية هي ليسوع، فإن الألوهية هي لله وحده. وبولس إنما يكرز بإله واحد هو الآب: “وأما عندنا نحن فليس إلا إله واحد هو الآب،ورب واحد هو يسوع المسيح”. (1كورنثة 8: 6) وهذا الإله الواحد هو إله البشر وإله يسوع المسيح: “تبارك إله ربنا يسوع المسيح وأبوه.” (2كورنثة 1 : 3). وأيضاً: “إن إله الرب يسوع وأباه عالم بأني لا أكذب” (2كورنثة : 31).وهو يرسم مراتبية للوجود لا ينتظم فيها الآب والإبن في مرتبة واحدة. فمرتبة الإبن فوق مرتبة كل البشر، ولكنها أدنى من مرتبة الآب: “ولكن أريد أن تعلم أن رأس كل رجل هو المسيح، أما رأس المرأة فهو الرجل، ورأس المسيح هو لله”. (1كورنثة 11 : 3). “كل واحد وله رتبته. فالمسيح أولاً لأنه البكر، ومن بعده الذين يكونون خاصة المسيح عند مجيئه (الثاني). ثم يكون المنتهى حين يسلم (المسيح) الملك إلى الآب بعد أن يبيد كل رئاسة وسلطان وقوة… ومتى أخضع له (أي للمسيح) كل شيء، فحينئذٍ يُخضع الإبن نفسه لذاك الذي أُخضع له كل شيء، فيكون الله كل شيء في كل شيء”. (1كورنثة 15 : 20 _ 28). ويسوع هو البكر لإخوة كثيرين سوف يكونون على صورته أبناءً لله من خلال الإيمان به: “فالذين اختارهم بسابق اختياره، أعدهم قديماً لأن يكونوا على مثال صورة ابنه، ليكون هذا بكراً لأخوة كثيرين”. (رومة 8 : 28 _ 29). وأيضاً: “لأنكم جميعاً أبناء لله بالإيمان بيسوع المسيح”. (غلاطية 3 : 26).كما ويعلن بولس أن يسوع لم يصبح ابناً لله إلا بعد قيامته من بين الأموات: “من بولس عبد يسوع المسيح. دعاه لله ليكون رسولاً، واصطفاه ليبلغ بشارته… في شأن ابنه الذي ولد من ذرية داود من حيث أنه بشر وجُعل ابن الله في القوة بقيامته من بين الأموات”. (رومة 1 : 1 _ 4).
وتُظهر طبيعة الصلوات وآيات الحمد والتسابيح في رسائل بولس، أنها جميعاً موجهة للآب ولا حصة للابن فيها. من ذلك مثلاً:
— أُناشدكم باسم ربنا يسوع المسيح، وبمحبة الروح أن تجاهدوا معي بصلواتكم التي ترفعونها لله (رومة 15 : 30)
— إنني أحمد لله إليكم أبداً على ما أوتيتم من نعمة لله في يسوع المسيح (1كورنثة 1 : 4)
— أحمد لله على أني أتكلم بلغات أكثر مما تتكلون أنتم (1كورنثة 14 : 8)
— … ويعبد لله معلناً أن لله بينكم حقاً (1كورنثة 14 : 25)
— الحمد لله الذي آتانا الظفر على يد ربنا يسوع المسيح (1كورنثة 15 : 57)
— الحمد لله الذي يستصحبنا بنصره الدائم في المسيح (2كورنثة 2 : 14)
— وأصلّي إلى لله أنكم لا تعملون شيئاً رديّاً (2كورثنة 13 : 7)
— لا نزال نحمد لله إليكم جميعاً ونذكركم في صلواتنا، ونذكر في حضرة إلهنا وأبينا ما أنتم عليه بربنا يسوع المسيح من نشاط الإيمان.(1تسالونيكي 1 : 2 _ 3)
— علينا أن نحمد لله إليكم في كل حين أيها الأخوة (2تسالونيكي 1 : 3)
— ما أبعد غور غنى لله وحكمته وعلمه… فكل شيء منه وبه وإليه (رومة 11 : 36)
— ليدينوا له بالإيمان، لله الحكيم وحده، له المجد بيسوع المسيح (رومة 16 : 27)
مثل هذه المقتطفات تبين أنه عندما يتعلق الأمر بالجوهر الأساسي للفعالية الدينية الذي يتمثل في الصلوات وآيات الحمد والتسابيح، فإن الآب وحده هو المرجو والمخاطب، سواء بشكل مباشر أو من خلال وساطة يسوع المسيح، الابن الذي يقع في المرتبة الوسطى بين البشر وخالقهم.
وهنالك مقطع إشكالي عند بولس في الرسالة إلى أهالي رومة، يفهم منه وجود إشارة إلى ألوهية المسيح، حيث يقول: “ولهم (= بنو إسرائيل) التبني والمجد والعهود والشريعة والعبادة والمواعد والآباء. ومنهم المسيح من حيث أنه بشر، وهو فوق كل شيء إله مبارك أبد الدهر. آمين” (رومة 8 : 4 _ 5). ولكن هذا المقطع يتخذ معنيين حسب استخدامنا لعلامات التنقيط التي لم تكن مستخدمة في الكتابة اليونانية القديمة. فإذا وضعنا نقطة بعد جملة وهو فوق كل شيء، تغدو جملة التبريك الأخيرة موجهة للآب لا للابن: “ومنهم المسيح من حيث أنه بشر، وهو فوق كل شيء. الله مبارك أبد الدهر آمين”. وقد بقي الخلاف حول موضع هذه النقطة قائماً حتى حسمته الترجمة الجديدة للكتاب المقدس المعروفة بالترجمة المعيارية المعدّلة، وهي الآن الأوثق والأكثر انتشاراً في العالم، حيث وضعت نقطة في الموضع المشار إليه أعلاه.
فإذا انتقلنا إلى الأناجيل الإزائية، فإننا نجد صورة نابضة بالحياة ليسوع كعابد مخلص لله يخصه بالصلاة والضراعة، ويتوجه إليه بلقب “آبا” وهي كلمة آرامية تعني “أبي”، بما تحمله من معنى يفيد التبجيل والاحترام الممزوجين بالألفة والمودة: “يا آبا، الآب، كل شيء مستطاع لك فأًجْزِعني هذه الكأس”. (مرقس 14: 36). وكان يصلي منفرداً بعيداً عن تلاميذه، سواء في البرية (مرقس 1 : 35 ، لوقا 5 : 15) أم على الجبل (مرقس 6 : 46 ، متّى 26 : 39)، أم في بستان (مرقس 14 : 35 ، متّى 26 : 39 ، لوقا 22 : 41). وعندما طلب منه التلاميذ أن يعلمهم الصلاة نصحهم أولاً بالصلاة الإنفرادية بعيداً عن الأعين، ثم أعطاهم كلمات الصلاة المسيحية: “أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض؛ خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا؛ ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجّنا من الشرّير (= الشيطان). لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين”. (متّى 6 : 9 _ 13 . قارن مع الصيغة الأقصر الواردة عند لوقا 11 : 3 _ 4). ولا شك أن يسوع نفسه كان يستخدم هذه الصيغة في الصلاة، ثم يستغرق في حالة التواحد الصوفي مع الآب. أما الصلاة اليهودية ذات الطقوس الشكلانية المترافقة مع تقديم القرابين الحيوانية، فلم يقاربها يسوع، ولم يؤثر عنه في الأناجيل أنه صلّى في محفل أو كنيس أو حتى في هيكل أورشليم.
في سفر أعمال الرسل الذي يحدثنا عن الكنيسة الناشئة عقب صعود يسوع، نقرأ في الأصحاح الثالث على لسان بطرس تعبيراً مشابهاً لما قرأناه عند بولس الرسول (رومة 1 : 1 _ 4)، وهو أن يسوع قد صار رباً ومسيحاً بعد صلبه وقيامته من الموت: “فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع، هذا الذي صلبتموه، رباً ومسيحاً”. (أعمال 3 : 36). فهل سنجد في هذه الكنيسة ما يشير إلى أن يسوع القائم من بين الأموات قد صار موضعاً للتأليه والعبادة؟
إن كل الشواهد النصية تشير إلى النفي. فقد ورد تعبير “ابن لله” مرة واحدة في جميع اصحاحات سفر أعمال الرسل، وذلك على لسان بولس بعد أن اهتدى في دمشق “ثم أخذ ينادي من ساعته في المجامع بأن يسوع هو ابن لله.” وهو يعني بذلك أنه المسيح، لأن كاتب السفر يتابع قوله: “على أن شاؤل كان يزداد قوة ويفحم اليهود المقيمين في دمشق، مبيناً أن يسوع هو المسيح”. (أعمال 9 : 20 _ 22). وهو في موضع آخر يوضح بأن أبوة الله ليسوع قد تمت بعد قيامته، مفسراً ما ورد في المزمور 2: “أنت ابني أنا اليوم ولدتك”. يقول بولس في الأصحاح 13 من سفر الأعمال: “ما وُعد به آباؤنا قد أتمه لله إذ أقام يسوع، كما كُتب في المزمور الثاني: “أنت ابني وأنا اليوم ولدتك”. (13 : 32 _ 33). وفي خطبة سمعان بطرس الافتتاحية يصف بطرس يسوع بأنه رجل أيده لله بآيات ومعجزات: “إن يسوع الناصريّ، ذلك الرجل الذي أيده لله لديكم بما أجرى على يديه بينكم من المعجزات والأعاجيب والآيات، كما أنتم تعلمون، ذلك الرجل الذي اُسلم بقضاء لله وعلمه السابق، فأخذتموه وصلبتموه وقتلتموه. بأيدي الكافرين، قد أقامه لله وأنقذه من أهوال الجحيم”. (2 : 22_ 24).
فإذا نظرنا إلى العبادات والصلوات في سفر أعمال الرسل، لما وجدنا أثراً لعبادة الابن فيها، والصلوات في الكنيسة المسيحية الأولى كانت موجهة للآب وحده. فعندما تم إطلاق سراح بطرس ويوحنا بعد اعتقالهما من قبل الرؤساء الدينيين، رفع الجميع أصواتهم إلى لله بقلب واحد فقالوا: “ربنا أنت صنعت السماء والأرض والبحر وكلّ شيء فيها… إلخ” (أعمال 4 : 23 _ 25). إن خلاصة ما توصُلنا إليه هذه الوقفة المطولة عند الألقاب المتعلقة بالطبيعة الفائقة ليسوع في العهد الجديد (المسيح، ابن الإنسان، ابن الله، الابن)، هي أن يسوع يشغل المرتبة العليا في سلم الكائنات الأرضية تقع على الحد الفاصل بين اللاهوت والناسوت، ولكنه دون لله ولا يصل حد مشاركته في القدم أو الجوهر. وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم، الذي بقي ضمن الإطار العام لفكر العهد الجديد، من خلال الألقاب الخاصة بالطبيعة الفائقة ليسوع وهي: المسيح، وروح لله، وكلمة لله. مما سنبحث فيه لاحقا.