الإنسانية أفق الإنسان

هل فعلا الأمر كذلك؟ أم هو مجرد خطاب ولغو؟ وهل صحيح أن من يملك القوة يكتب التاريخ، بينما الضعفاء يصنعون القيم؟
أعترف بداية أن ما أسطره الآن يدخل ضمن لغة العاجزين، بلا مواربة ولا تلطيف. فالخطاب الإنساني هو خطاب المستضعفين المهزومين. من يطالب بالسلام هو من عجز عن صنعه، ومن يرفع شعار الديمقراطية هو من لم يبلغها. ومن يتحدث عن «المشترك الإنساني» وحماية الأقليات ليس سوى الأقلية نفسها. ومن يتقن خطاب الضعف هم الضعفاء..
ونحن، أو على الأقل أنا، من هذه الفئة.
لطالما قيل إن الإنسانية هي الأفق الأعلى للإنسان، كما ذهب أرسطو وكما أوردها التوحيدي في إحدى مقابساته: «الإنسانية أفق، والإنسان متحرك إلى أفقه بالطبع». إنها القيمة المشتركة التي تسمح لنا بتجاوز حدود الدين واللغة والجغرافيا. لكن الوقائع اليومية تكشف هشاشة هذا الخطاب: الحروب، الاستعمار، والعنصرية المعاصرة تجعل الإنسانية، في أحسن الأحوال، خطابا للضعفاء، وفي أسوئها غطاء أيديولوجيا يخفي مصالح الأقوياء. فالإنسان في واقعه أقرب إلى الحيوان منه إلى أي شيء آخر، وربما أبعد. ولعل فلسطين اليوم تقدم المثال الأوضح: شعارات «حقوق الإنسان» تنهار أمام صمت العالم على المجازر، ويترك الضحايا عزلا إلا من لغتهم الإنسانية التي لا تجد صدى، سواء في كلمات أو صور أو فيديوهات.
رأى فريدريك نيتشه أن القيم التي ترفع شعار الرحمة والتعاطف ليست سوى «أخلاق العبيد»، أي أخلاق الذين عجزوا عن ممارسة القوة، فحولوا ضعفهم إلى قيمة. وإذا طبقنا هذه الرؤية على قضايا المستضعفين اليوم، وفي قلبها فلسطين، سنجد أن الخطاب الإنساني الفلسطيني كثيرا ما يقدم كصرخة أخلاقية في وجه آلة عسكرية لا تقهر. ووفق منظور نيتشه، هذا الخطاب لا يغير موازين القوة، لكنه يكشف مفارقة: من يملك القوة يكتب التاريخ، ومن يملك المعاناة يكتب القيم.
في المقابل، قدمت عقلانية كانط تصورا مغايرا: الإنسان قيمة مطلقة، و»يجب أن يعامل كغاية لا كوسيلة». لو أخذ هذا المبدأ بجدية، لأدان بلا مواربة كل أشكال الاستعمار والقتل الجماعي، بل لواجهها بدل أن يختبئ خلف تبريرات التوازنات والاستراتيجيات. لكن مأساة فلسطين تكشف أن المبدأ الكانطي يتحول في الواقع إلى شعار أجوف، ينتهك يوميا بينما ترفع لافتة «الكرامة الإنسانية» في المحافل الدولية. وهنا تنفضح الازدواجية المقيتة لجزء من الغرب. أقول «جزءا» حفاظا على قليل من النسبية في الخطاب، ويقينا مني أن وراء البحر إنسانا مقهورا مثلنا تماما.
أما ميشيل فوكو فقد نبه إلى أن الخطاب الإنساني ليس بريئا، بل قد يكون أداة للهيمنة. القوى الكبرى توظف شعارات «حقوق الإنسان» و»الديمقراطية» لتبرير التدخلات العسكرية أو تسويغ الاحتلالات المقنعة. وفلسطين هنا مثال صارخ: حيث يرفع شعار «أمن الدولة» و»حق الدفاع» كخطاب إنساني مقلوب، يشرعن العنف بدل إدانته. ومع ذلك، يبقى للخطاب الإنساني إمكانية أن يستعاد ويوظف في خدمة التحرر، حين يتبناه المستضعفون كسلاح رمزي لمقاومة النسيان.
أما كامو العبثي فذكرنا بأن الإنسان، حتى في مواجهة العبث واللاجدوى، يملك فعل التمرد. التمرد ليس انتصارا بالضرورة، لكنه رفض للاستسلام. وفي الحالة الفلسطينية، يبدو التمسك بالإنسانية شكلا من هذا التمرد: أن تصرخ بكرامتك في عالم يصم أذنيه، هو رفض لأن يتحول الإنسان إلى مجرد رقم في إحصاءات الحرب.
تجربة فلسطين تكشف أن الإنسانية ليست واقعا متحققا، بل أفقا هشا يتعرض دوما للخيانة. العالم الذي يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان يغض الطرف حين يتعلق الأمر بضحايا «خارج» معادلاته الاستراتيجية. هنا يتبدى البعد المأساوي: الإنسانية، في بعدها العملي، قد تكون مجرد لغو، لكنها في بعدها الرمزي تظل آخر ما يحمي الإنسان من السقوط في العدم. قد تكون خطاب الضعفاء، لكنها أيضا ما يمنعنا من الانزلاق إلى التوحش الكامل. هي «الوهم الجميل» الذي يبقي للإنسان شيئا من المعنى. وكما كتب إدوارد سعيد: «علينا أن نتشبث بالأمل، لا لأننا واثقون من الانتصار، بل لأننا نرفض الهزيمة كقدر».
حتى وإن عجز الخطاب الإنساني عن وقف المجازر، فإنه يترك أثرا في الذاكرة البشرية، يذكر بأن ثمة قيمة أسمى من القوة، وأن الإنسان، مهما انكسر، يظل محتفظا بكرامة لا تمحى.


الكاتب : عبد الإله ابعيصيص

  

بتاريخ : 25/09/2025