لم يكن يخطر في ذهن الانسان باحثاً كان أم ناقداً أم دارساً أم مؤرّخاً أم قارئاً أنّ اللغة ستصبح في يوم من الأيام مفتاحاً سحرياً لأبواب مُوصدة، ونوافذ مُغلقة نطلّ منها على التاريخ وعلى ماضيه الغابر، إنّها المفتاح الذهبي الذي طالما بحثنا عنه ،ها هو الآن معنا وبين أيدينا فى كتاب للباحث العراقي الكبير الراحل بعنوان : « تاريخهم من لغتهم» المعروف بعطاءاته فى مختلف مجالات الفكر، والأدب، واللغة والإبداع. هذا الكتاب الأخير يشير الباحث فيه أنّ اللغة العربية هي أمّ اللغات الآرية لا السّامية والحامية فقط، وأنّ أصحابَها كانت لهم حضارة عريقة، كما إستحدث فيه عِلماً أسماه بعلم «الترسيس» الذي نقله المستشرق الفرنسي المعروف جاك بيرك إلى الفرنسية بإسم Racinisme، ويعني به ردّ الكلمة إلى رُسّها الأوّل ،أو إعادتها إلى جدّتها الأولى وجذورها البعيدة في صورتها التي نطق بها الإنسانُ الأوّل (البدائي) تقليداً لأحد الأصوات المسموعة مثل محاكاة أصوات الطبيعة أو الحيوانات، مع تعقّب المراحل التطوّرية التي قطعتها تلك اللفظة حتى وصلت إلى الصّورة التي نعرفها اليوم . أمّا التأثيل وهو (دراسة أثل الكلمات) فهو ردّ الكلمة إلى أمّها المباشرة أو إلى جدّتها المباشرة أو القريبة.ولقد خلّف هذا الكتاب عند صدوره صدىً واسعاً بين علماء اللغة فى العالم العربي.
ما أكثرَ الأسرار والمجهولات التاريخية التي اندثرت وضاعت، فخرجت عن متناول المنقب الآثاري فعلاً، وهي ما تزال في متناول الباحث اللغوي وحده ! لأن الأقدمين من أبناء المعربة لم يسجلوها في مسطورات لهم كتابية، ولا فى نقوشهم الجدارية، ولا فى صورهم الكهفية، ولا فى شقفهم وأوانهم الفخارية وإنما سجلوها تسجيلاً عفوياً في لغتهم وانصرفوا، سجل اللغة هذه المضبرة الهائلة تختبئ في زواياها المُهملة كنوز وأيّ كنوز.
اللغة كائنٌ حيّ يدبّ على قدميْن
يؤكد علماء فقه اللغة ان اللغة كائن حيّ متجدّد يعيش فينا وبيننا نتواصل ، ونتخاطب ونتذاكر، ونتحاور، ونتشاور إنها كائن حيّ يدبّ على قدمين ، كما يقول الناقدان الإنجليزيان أوغدن Ogdan وريتشاردزRichards. فى كتابيْهما النقدي البليغ « فى معنىَ المعنيَ» (The Meaning of Meaning ) هذا الكائن الذي يضرب جذورَه،وأصولَه ، وأثولَه فى القدم ، ويتغذّى من مختلف الروافد ، والنوافذ،والثقافات، والحضارات،والعلوم ، والآداب،والشّعر، والفنون، والحِكَم السّائرة، والأقوال المأثورة، والتاريخ،والحكايات، والأساطير الضاربة في القدم التي تعاقبت ،وتوالت هلى هذه الأرض التي نسعى فى مناكبها، وندبّ على أديمها.. ، بواسطة هذه اللغة نأمل،ونتأمّل،ونتألم،ونسعد ونحزن،ونتفاهم،ونتواصل، ونتعايش، ونتعانق ونتنابذ ومن خلالها نستجلي حقائقَ مثيرة عن الذات،والنّفس، والكون، والحياة. هذه الكلمات التي تستكين فى مكان مّا من بؤرة الشعور،تقبع فيها فى سلام حتى إذا شئنا جاءتنا منقادةً تنثال على القلب واللسان كالسّيل المتدفّق.هذه الكلمات القابعة فى أعماقنا، وفى بطون الكتب، والأسفار، والمنقوشات، والحفريات ،والأحجار، والصّخور، والأعمدة، والأقبية، والبيوتات، والمعابد، والهياكل التي تتعايش،فى دعة وسكون، وتتناوش وتتشاكس فى إضطراب وتوتّر،هذه الدلالات، والرّموز التي تخفيها اللغة تحت جناحيْها،ونتراشق نحن بها، ونتغامز ونتلامز،ونعرب ونعبّر ونفصح ونستبين،هذه العلامات التي علّمت الأسماءَ كلّها وقدّمتها لنا جاهزة نختار منها وننتقي وندبّج كيفما نشاء . هذه الحروف التي نقتفي أثرَها لنجعلها قيد كلامنا، وكتبنا، كيف تفرّ منّا وتتلوّن بألف لون ؟ تتوالد،وتتكاثر وتعطينا ما لا حصرَ له من المعاني ، بعضها يحيا، ويعيش ويتطوّر، والبعض الآخر يضمر، ويموت. نسمّيها بحراً، وأين للبحر من عمقها وأسرارها،وتعدّد المُسمّيات بها، وكثرة التعابير فيها. لكلّ لغة قانون يحكمها ، وينظّم مخارجَ النطق الصحيح، ومدارجَ التعبير السليم، والبناء المُحكم فيها. وليس للكلمات رابط ولا ضابط، فهي تفلت أحياناً من قبضة هذا القانون الصّارم فتصبح شاذة أو شاردة ، وأحياناً سوقية حوشية، وهي طيّعة حرّة متمرّدة،مهاجرة، تسافر من بلد إلى آخر ،ومن عصر إلى عصر ، تتزيّا بزيّه وتتلوّن بلونه، وقد تعود إلينا مُلفعةً بمعطفٍ إنجليزي، بعد أن غادرتنا متدثّرةً بعباءة قحطانية.. أو بكوفية فلسطينية، وقد ترجع إلينا بقلنسوة إفرنجية.. أوسواها، بعد أن برحت موطنها الأصلي بعقال حجازي بهيج ! ما شأنها ؟ ما سرّها ؟ وما هو سبب هجرانها ، وما هي خباياها وأسرارها وطلاسمها؟.
مفتاح الأسرار والمجهولات التاريخية
يشير الباحث عبد الحق فاضل : « ما أكثرَ الأسرار والمجهولات التاريخية والقبتاريخية التي إندثرت وضاعت ، فخرجت عن متناول المنقّب الآثاري فعلاً،وهي ما تزال فى متناول الباحث اللغوي وحده..! لأنّ الأقدمين من أبناء المعربة لم يسجّلوها فى مسطورات لهم كتابية، ولا نقوش جدارية، ولا صور كهفية، ولا شقف فخارية وإنما سجّلوها تسجيلاً عفويّاً فى لغتهم وإنصرفوا ،سجلّ اللغة هذه المضبرة الهائلة تختبئ فى زواياها المُهملة كنوز أيّ كنوز» .ولا ريب أنّ قارئ كتابه قد تأكّد له بأنّ بين خفايا هذه اللغة تختبئ، وتتوارى كنوز أيّ كنوز كشف لنا عنها النقاب هذا الباحث حتى أصبحت أشبهَ بقصّة مسلسلة ما أن تنتهي من فصلٍ ،حتى تنتقل إلى فصلٍ مُوالٍ ، فيقصي بالتالي عنك ثقلَ الدّراسات اللغوية العقيمة، ويجعل (فقه اللغة) فنّاً محبوباً وجميلاً .
اليمين واليسار..وحقائق أخرى !
فى بحث المولّف عن اليمين واليسار تقابلنا حقائق لغويةٌ وتاريخيةٌ مثيرةٌ ،إنه يخبرنا أنّ كلمة (اليمين) مشتقّة من إسم أرض اليمن، وإسم الشّمال من بلاد الشّام،ومن « اليَمَن» جاءنا اليُمن، والتيمّن، اليامن، الميمون،اليمين،أيمن الله، أيّم الله، هيم الله، أمّن (بالتشديد) ، آمن، الإيمان، وآمين،هذه المعاني جاءت من «اليمّ» أيّ البحر أقصى ما تنتهي عنده رحلة الأعرابي الشتوية جنوباً ، و كلمة اليمّ نفسها يرجع رسّها الأوّل إلى صوت هبوب الرّيح هكذا : هو ووو- هو- هواء- هباء- هباب- أباب- آب- آم – ماء- ماي- مي – يم- يمن- يمين ! ومن غريب الصّدف أنّ كلمة ( أَمَنْ) (بالتحريك) بلغة أهل الرّيف الأمازيغية بالمغرب تعني الماء، وهي قريبة فى المعنى والنطق ممّا سبق ذكره ! ويخبرنا الباحث أنّ صيغة الشّمال تنحدر من لفظة (شم) التي حاكى بها الأعرابيّ الأقدم صوتَ إستنشاق الرّوائح تعبيراً بالشّين من صوت دخول الهواء من الأنف، وبالميم من إنطباق الشفتيْن عند الشمّ ، وتكون نشوء الكلمة إذن على هذه الوتيرة: شم- شام – الشام – الشآم – الشَّمال- الشِمال.
ولا تعجب إذا تساءل الكاتب عن بعض الصّيغ الإسمية فأخبرك بأسرارها وتأثيلاتها، بل تأنَّ حتى تستبين لك الحقيقة ناصعة كبلج الصّباح – لا تعجب مثلاً إذا أخبرك أنّ لفظة (فونيكس) اللاّتينية إنْ هي إلاّ كلمة فينيقية وهي من بني كنعان، وهي العنقاء مع شئ من التحريف بعد أن أبدلت العين فى أوّل الكلمة ، فالنّون والقاف ما زالا ظاهرين ،وأمّا مسألة إبدال العين أو حذفها فذلك أمر لابدّ منه عند الأجانب حيث يتعذّر نطقها أو عدم وجودها عندهم ، وأنّ أطلنطة من الأطلس، وأنّ كلمة أرز لسيت لاتينية ولا صينية بل عربية !.وكذلك عشتار سيّدة الآلهة، وعظيمة الربّات ،إلهة الحبّ، والخصوبة، والجمال عند البابلييّن ، هذا الكتاب يفتح بابَ التأثيل على مصراعيْه ليقول لك أنّ مصدر هذه الكلمة هي الجزيرة العربية وليس العراق القديم كما كان يُظنّ من قبل، وأنّ الأثل القديم لهذه الصّيغة وصيغ أخرى مشابهة لها وهي صيغة ثائية وهي الثور !. هذه الحقائق وسواها يقدّمها لك هذا الكتاب والمؤلف لا يستعجل الحُكم ،ويتحتّم عليك أن تتذرّع بصبر الباحث المدقّق حتى تسايره فى بحثه عن ( أضابير) اللغة لتصلا معاً فى النهاية إلى هذه النتائج التي تذهلنا. فالمؤلف يقدّم لك نتيجة بحثه بخصوص لفظة أو صيغة ( عشتار) على سبيل المثال فيما يقارب الثلاثين صفحة حتى يصل بك إلى النتائج التي إنتهى إليها.
ولا تذهل إذا أنت ألفيْتَ فى هذا الكتاب بأنَ صيغ : عربي- آرامي- عبري- إنْ هي إلاّ صيغة واحدة ،وأنّ صيغة عِبري التي كنت تعتقد أنها من العبور (عبور قوم موسى) ليست صحيحة ،بل إنّها كلمة عربية أصيلة ،ويقول المؤلف مُستدلاً على صحّة نظريته : « ويوحنا ذهب إسمُه فى الأرض فصار يُدعىَ يحيىَ ،يوهان،وأوهانيس، وإيفان، وجُوهان، وجُون، وخْوَان ،وجوفاني، فى مدى نحو ألفي عام فلا غرابة أن يشتقّ آرامي من أعرابي ، أو أرمي من عربي، وعبري من عربي، وعبراني من عرباني فى مدى ألوف لا نعرف عددَها من الأعوام .
حقائق مثيرة أزاحت اللغة عنها الستار
ويؤكّد المؤلف أنّ اللغة العربية حافلة بالألفاظ الثمينة ذات الدّلالات المختلفة التي تدعونا دعوة ملحّة إلى إستنطاقها لتبوح لنا بأسرارها وتعطينا نفائسَها،وقد توصّل بواسطة بعض الألفاظ إلى حقائق مثيرة منها: أنّ سكان الجزيرة العربية كانوا أقدمَ الفلكييّن بين شعوب الأرض، وأقدمَ معرفة بالفلك وحركات النجوم حتى من أبناء الرافديْن وأبناء النيل ، كما تبيّن للمؤلف عن طريق اللغة أنّ هؤلاء السكان نقلوا عبادة الشمس إلى مصر منذ قديم العهود بل انّ اللغة باحت لنا بسرّها المكنون عن حقيقة ما يسمّونه قارة أطلنطة التي غمرها البحر والتي إختلفت فيها الظنون،بل وعيّنت لنا اللغة موضعَها وهو المحيط الأطلسي كما كان يُعتقد،ويقدّم لنا الكتاب الكثيرَ من المفاجآت اللغوية الطريفة ويجيب عن العديد من الأسئلة المحيّرة التي طالما شغلتنا فى مجال اللغة أو التاريخ. ويذهب المؤلف إلى القول أنّ « الإرث» كان يعني الأرض أوّل الأمر، مستدلاًّ بكونه ما يزال يعني فى اللغة الإنجليزية الأرض ERTH (إِرْثْ)،وممّا يؤكّد ذلك هو أنّ غالبية ما كان يرثه المرءُ عن أبويْه أو عن أجداده فى القديم كان هو الأرض بإعتبارها أولى وأهمّ الممتلكات قبل الأخلاق ! أو المال ! أو العمائر ! .
ما بين عيشة ..وعشتاروت!
وقبل أن نجزي الشكرَ لصاحب هذا الكتاب لابدّ من إبداء الملاحظات التالية : لفظة (إِثْرِي) الأمازيغية فى لغة ( منطقة أهل الرّيف بشمال المغرب) التي تعني النّجم جاء جمعُها فى الكتاب إثرات ( بالتاء) وصوابها إثران ( بالنون) ولابدّ أنه خطأً مطبعيّ في الرقن وهي من الثريّا. جاء فى الكتاب تحت عنوان (عيشة قنديشة) ما يلي: « أنّ م. خوليو الأستاذ بجامعة مدريد كان قد ألقى فى مدينة «تطوان»(شمال المغرب) محاضرة بسط فيها مدى تأثير الحضارة البابلية فى الشمال الإفريقي ،وذكر أنّ عيشة قنديشة (سيّدة المستنقعات)كانت إمرأة جميلة تغوي المارّين المنفردين كلما إستوحدتهم ،وإرتأىَ هذا الباحث أنها من مخلّفات آلهة الحبّ الفينيقية عشتاروت». وبالنسبة للأنثربولوجي الفنلندي (وستر مارك) يتعلق الأمر بمعتقدات تعبّدية قديمة، ويربط بين هذه الجنّية المهابة و(عشتار) إلهة الحبّ القديمة لدى شعوب البحر الابيض المتوسط من القرطاجيين والفينيقيين والكنعانيين، و أشير أنه حسب بعض الروايات فعيشة قنديشة شخصية حقيقية ،وهي إمرأة تنحدر من الأندلس، من عائلة موريسكيّة نبيلة طردت عائلتها من هناك، عاشت في القرن الخامس عشر وأسماها البرتغاليون بعيشة كونديشة أي الأميرة عيشة (الكونتيسا contessa). وبالنسبة للكاتب فإنّ إسم (عيشة) تحوير آخر لواحدة من الصّيغ الكثيرة التي مرّت بنا يقصد تحوير لإسم عشتار. وتجدر الإشارة أن ما أورده المؤلف بشأن عيشة هو تحوير عشتار أو عشتاروت فأستبعد ذلك لسببٍ بسيط وهو أنّ هذا الإسم (عيشة ) إن هو إلاّ تصغير لإسم عربي أصيل وهو « عائشة» وتصغيرُه التلطيفي : عويشة، ثمّ حُذفت الواو، وكسرت العين للتخفيف ، وهناك صيغ أخرى كثيرة ومشهورة فى العامية المغربية لهذا الإسم منها : عائشة، عايشة، عيشة، عشُوش، عشوشة، عيوش.
« الرّاء» في الموصل ،تطوان ،فاس والشّاون !
ونقرأ فى هذا الكتاب « أنّ الظواهر اللغوية كثيراً ما تنصرف إلى قوم آخرين ثم تزول من أصحابها الأوّلين « ،ويضرب المؤلف للقارئ مثلاً لذلك بظاهرة أهل الموصل اللغوية الذين ينطقون( الرّاء) غيناً ،ويقول وهي من أبرز خصائص اللهجة الموصلية التي يتندّر بها البغداديُّون ، مورداً الكثير من الأمثلة ، أسوق منها ما يلي: مثل قولهم فى البصرة البصغرة، وغُمّان فى رُمّان، وجغّة فى جرّة ،وغاس فى رأس…إلخ ويذكرنا هذا بظواهر لغوية أخرى من هذا القبيل موجودة فى بعض المدن المغربية أمثال : تطوان،وفاس، والشاون ..إلخ ويروي المؤلف أنّ أصل ذلك راجع إلى بعض المليحات من إماء وحرائر يعجزن عن نطق الرّاء ،ولا سيّما بعض الأعجميات منهنّ فيلثغن فيها، ولقد إستحبّ عشّاق الجمال ذلك فى تلك المليحات أو الحرائر ، فصارت طالبات التأنّق والتجميل والتملّح يقلدنهنّ ، فانتشرت اللثغة حتى عمّت بمرور الأجيال أهلَ بغداد كالذي حصل لأهل باريس مثلاً ثم انتشرت هذه الظاهرة اللغوية في فرنسا برمّتها . وأورد الدكتور رمضان عبد التوّاب (أستاذنا في آداب جامعة عيْن شمس بالقاهرة) فى تحقيقه لكتاب «لحن العوام» للزبيدي رأياً لمستشرق ألماني يُدعى « بيشت رسل» مفاده : أنّ أصل هذه اللثغة هي أجنبية فى الغالب ثمّ تعوّد عليها الناس فانتقلت فيهم من جيل إلى جيل ،لذا فأنت لا تجدها سوى فى الحواضر حيث الرّخاوة والطراوة، ولا يمكن أن تجد نظيراً لها فى البوادي، ولقد ذكر هذا المستشرق بعضَ المدن التي توجد فيها هذه الظاهرة اللغوية ، ومن عَجَبٍ أنه ساق بعض المدن التي سبق ذكرها آنفاً. وجاء فى هذا الكتاب أنّ (الأبلق)حللته اللغات الأوربية إلى لونين مختلطين فجعلتهما مستقلين فبعض هذه اللغات كالإنجليزية أطلقته على الأسود black ،فى حين أطلقته لغات أوربية أخرى مثل الاسبانية، والفرنسية ،والبرتغالية على الأبيض blanco). وجاء فيه أنّ (الكَبْل) يظهر فى الفرنسية والإسبانية والإنجليزية، Cable بنفس معنى الحَبْل أوّلاً ثم السلك المعدن ثم صار يعني البرقية منذ كانت البرقيات تُرْسَل بالأسلاك ،وفى العراق يسموّنها ( القابلو) تعريباً وجمعُه ( القابلوات) ولو سمّوه الكبل وجمْعه الكبول لجمعوا بين العروبة والتعريب،ومنه كبّله تكبيلاً أي أوثق يديْه بحبلٍ أو بكبلٍ أو ما أشبه. !
ومن الألفاظ الأمازيغيّة ( لغة أهل الرّيف) التي إستشهد بها المؤلف ، قوله : – أَمَنْ : (بالتحريك) بمعنى الماء، يقول : وفى المعاجم القديمة : يَمَنْ بمعنى الماء. – إثري : بمعنى النجم وتُجمع بإثران، يقول كان أثلها أثيرة ( من إسم عشتار البابلية) أو الثريّا. – تزيري : بمعنى القمر ( يقول : أثله السّاهور أوالسّاهرة أو الزائرة أو نحوها آتيا، أو لعلّها من أثيرة). – آرِيشْ : بمعنى الشّعر ويتفق هذا مع المعنى القديم للكلمة التي كانت تعني الرّأس أوّل الأمر ثم عموم الشّعر. – ومن أغرب ما مرّ بي فى هذا الكتاب لفظة طريفة يستعملها الأشقاء التونسيّون فى عامّيتهم بكثرة وهي ( بَرْشَا) بمعنى كثير ،ولمّا حِرْتُ فى معناها أجابني الكتابُ بالصّدفة قائلاً: « وأرض برشاء كثيرة العُشب مختلفة ألوانُه « !.
نبوءة شاعر النيل حافظ ابراهيم
وإذا كان المؤلف قد أرسىَ فى كتابه «مغامرات لغوية» (نظرية الترسيس) Racinisme، فإنه فى كتابه «تاريخهم من لغتهم» يفتح باباً جديداً فى عالم (فقه اللغة) و( التاريخ) حيث أوجد لنا وسيلة أخرى للتعرّف على بعض الظواهر اللغوية الغريبة ،كما انه اقتحم ميداناً كان وما يزال يعدّ من باب المباحث الميتافيزيقية نظرا ً لكونه يبحث فيما وراء حدود المعلوم ،ولكنّ عذرنا أنه يقدّم لنا حقائق مثيرة ،واستحثّ هِمَمنا نحو المزيد من البحوث اللغوية حتى نقف على حقيقة هذا الإرث المشترك الثمين الذي نسمّيه : اللغة . من أعماله الأخرى : (مجنونان)، و(حائرون)، و(طواغيت)، و( ثورة الخيّام) ،و(4 نساء و3 ضفادع) ،و(ملحمة قلقامش) ،و(مغامرات لغوية) ،و» ملكة اللغات» وسواها ،وأستعيرُ من المؤلف العبارة التي ختم بها كتابَه القيّم فأقول : ليت شاعر النيل حافظ إبراهيم كان يدري أيّة نبوءةٍ إعجازيةٍ كبرى قذف بها فى مَسْمَع الدّهر يوم حكىَ لنا أنّ اللغة العربية قالت عن نفسها :
أنا البّحر فى أحشائه الدرّ كامنٌ / فهل سألوا الغوّاصَ عن صدفاتي ..؟!