الباحث في التاريخ المغربي المصطفى الريس: كيف ساهمت مجلة «الفتح» المصرية في دعم احتجاجات المغاربة ضد «الظهير البربري»

من بين الأرشيفات المفيدة في كتابة تاريخ فترة الحماية بالمغرب وحركة النضال الوطني ضد الاستعمار، أرشيف عدد من بلدان المشرق العربي نظرا لما تحفل به من مادة تساعد على تركيب جزء من الحقيقة.
في هذا الإطار يسعى الباحث في التاريخ المغربي المصطفى الريس عبر كتاب «السياسة البربرية الفرنسية في المغرب.. من خلال مجلة الفتح (1926-1948)»، الصادر عن منشورات «باب الحكمة»، إلى المساهمة في تعميق المعرفة التاريخية ببنية نظام الحماية الفرنسية وما ارتبط به من توجهات وأجهزة وقضايا سياسية واقتصادية وإدارية وقانونية.ويتعلق الأمر أساسا بقضية «السياسة البربرية الفرنسية» التي مثلت ضمن الاستراتيجية الاستعمارية مدخلا فعليا لزرع بذور الشقاق في صفوف المجتمع المغربي، كما شكلت وسيلة لتوطيد دعائم الوجود الاستعماري بالمغرب.
في هذا الحديث مع وكالة المغرب العربي للأنباء، يكشف المصطفى الريس سبب اختياره الاشتغال على أرشيف مجلة الفتح المصرية ودورها في رصد احتجاج المغاربة ضد الظهير البربري

 

– اخترتم تسليط المزيد من الضوء على قضية «الظهير البربري» من خلال البحث في أرشيف مجلة الفتح المصرية. لماذا هذه المجلة بالضبط؟
– بداية، لا بد من الإشارة إلى أن صدور هذه المجلة (1926-1948) تزامن مع مرحلة الغليان الفكري والسياسي العنيف الذي شهده العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن 20. لقد ذاع صيت هذه المجلة في معظم أنحاء العالم الإسلامي، إذ تولت مهمة التعبير عن التوجهات الفكرية والعقائدية والسياسية للجمعيات والتنظيمات السياسية والرواد الممثلين للتيار الإسلامي على اختلاف مشاربهم. أما مؤسس المجلة محب الدين الخطيب فقد كان ضمن طليعة رواد الصحوة الإسلامية المعاصرة الذين مارسوا العمل السياسي والإحياء العربي الإسلامي من بوابة النضال الصحفي. إضافة إلى ذلك، ورغم أن صدور مجلة الفتح تزامن مع ظهور مجلات عديدة ذات توجه إسلامي صدرت خلال النصف الأول من القرن العشرين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، إلا أن هذه المجلة، التي استمرت في الصدور على مدار 22 عاما، تصنف كواحدة من أبرز الصحف وأقواها وأبعدها أثرا في العالم الإسلامي وأكثرها انتشارا في مختلف الأقطار. هذه المجلة ترصد وتعالج شتى القضايا المطروحة آنذاك، مما جعل منها موسوعة عامة للتطورات السياسة في العالم الإسلامي كله وثروة فكري ة نالت إعجاب القراء العرب والمسلمين، بالنظر إلى العدد الضخم لأعدادها والذي قارب 865 عددا.

– ما الذي ميز مجلة الفتح عن باقي الصحف الصادرة حينها؟
– تميزت المجلة عن باقي المجالات والصحف المشرقية التي جايلتها، لأنها عالجت مواضيع وقضايا لا حصر لها. وتبقى قيمتها الأساسية كامنة في الجانب الفكري. كان من أبرز القضايا التي عالجتها مجلة الفتح قضية التبشير، حيث قامت برصد أخبار الأنشطة التبشيرية في البلاد العربية والإسلامية، كما اضطلعت الفتح منذ أعدادها الأولى بالرد على الفرق الباطنية المنتسبة للإسلام، وخصصت حيزا مهما من أعمدتها لقضايا الإصلاح والقومية العربية والرابطة الإسلامية.
وإلى جانب الاهتمامات الفكرية والسجالات والصراعات العقائدية التي رصدتها على أعمدتها، أولت «الفتح» عناية فائقة للخبر والتحليل السياسي للأحداث الجارية في العالم العربي وفي بعض الدول الإسلامية. واهتمت المجلة برصد أوضاع البلاد العربية في ظل الاحتلال الأجنبي، وضمنها قضايا شمال إفريقيا مثل قضية التنصير بتونس، وقضية الظهير البربري بالمغرب، والاحتلال الإيطالي لطرابلس الغرب. كما انخرطت «الفتح» في الجدل الفكري الدائر في المحيط العربي والإسلامي حول التجربة الكمالية بتركيا. نتيجة لهذا الاهتمام الواسع انتشرت مجلة الفتح في أنحاء كثيرة من العالم فكانت ت وز ع في البلدان العربية، من الشام إلى المغرب الأقصى وجنوب إفريقيا والهند وأندونيسيا وسنغافورة والبلقان وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من البلدان. وبسبب خطها التحريري تعرضت «الفتح» إلى عدة مضايقات كمنعها من الدخول إلى بعض البلدان العربية والإسلامية.

– كيف رصدت المجلة احتجاج المغاربة ضد الظهير البربري؟
– لا أحد من أطر الإقامة العامة ومخططي السياسة الاستعمارية الفرنسية كان يتوقع حجم الحركات الاحتجاجية وردود الفعل العنيفة التي أعقبت صدور الظهير البربري. فقد تجاوزت أصداء حركة الاحتجاج والتعبير حدود المغرب وتجاوبت معها التنظيمات السياسية والجمعوية والثقافية على اختلاف مشاربها الإيديولوجية في كل من مصر والشام والعراق وفلسطين والهند وباكستان. كما تعاطف معها نخبة من المصلحين القوميين العرب ومن دعاة الجامعة الإسلامية وترددت أصداؤها على أعمدة الصحف والمجلات العربية من قبيل صحف «المنار» و»الهداية الإسلامية» و»الأهرام» و»اللواء» (مصر)، وصحيفتا «الهداية» و»الصراط المستقيم» (العراق) وصحيفة «الشورى» الفلسطينية ..وغيرها من الصحف والمجلات، وضمنها مجلة «الفتح» التي كانت من أوائل المنابر الإعلامية التي واكبت ورصدت حركة الاحتجاج والتنديد بالظهير البربري داخل المغرب وفي العالم الإسلامي.
لقد خصصت المجلة لهذا الغرض النصيب الأوفر من المواد المنشورة من مقالات إخبارية وتغطيات ومقالات الرأي والبرقيات الاحتجاجية والرسائل المفتوحة والعرائض والبيانات الاستنكارية. ولم تبق الفتح أسيرة صحيفة الخبر، بل اعتبرت نفسها معنية بالشأن المغربي بحكم توجهها الفكري وخطها التحريري، فقد انخرطت في عملية التعبئة والدعاية ضد الظهير البربري، وخاضت في هذا الصدد سجالات فكرية مع جرائد كانت تدافع عن سياسة التنصير الفرنسية مثل جريدة «الأهرام». كما رصدت الفتح حركة الغليان الشعبي، ومن بين ما تطرقت إليه وتابعته انطلاق «حركة اللطيف» من مساجد سلا بعد صلاة يوم الجمعة. وقدمت الفتح أيضا إفادات أخرى تخص أشكالا جديدة للاحتجاج اهتدى إليها الوطنيون منها مقاطعة استهلاك البضائع الفرنسية وإغلاق الأسواق والمحلات التجارية وإعلان حالة العصيان المدني. وقد طالت المقاطعة حتى الجرائد الموالية للإقامة العامة خاصة، جريدة «السعادة». كما توقفت المجلة عند رغبة المغاربة في إضفاء طابع المشروعية الدينية على احتجاجاتهم الممزوجة بالصيام والتصدق على الفقراء وتلاوة القرآن جهرا وبشكل مسترسل في المساجد . وأشارت الفتح إلى حالة توجس وارتباك إدارة الاحتلال وقواتها الأمنية والاستخباراتية من عملية توزيع المناشير التي استهدف من ورائها الوطنيون القيام بعملية تعبئة شعبية ضد الظهير البربري. أما بالنسبة للكتاب فقد اعتمدت المجلة في تحرير موادها على أبرز رواد الحركة الإصلاحية الإسلامية آنذاك، لكن أغلب المقالات التي كانت تتناول موضوعا لها المغرب، كانت توقع بأسماء مستعارة. ولعل تكتم المجلة عن أسماء مراسليها وكتابها المغاربة مرده بالأساس إلى حمايتهم من ردود سلطات الاحتلال الفرنسي. والراجح أن هذه الأسماء المستعارة كانت لرواد الحركة الوطنية المغربية الناشئة أمثال أحمد بلافريج ومحمد اليزيدي والحاج عمر بن عبد الجليل ومحمد الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني وعبد الطيف الصبيحي ومحمد بنونة، وكلهم من كتاب الرأي والتحليلات السياسية والتعاليق على الأحداث في مجلة «Maghreb» التي أصدرها أحد مناضلي اليسار الفرنسي المحامي Robert- Jean Longuet بباريس سنة 1932، ومجلة La nation Arabe ( الأمة العربية) التي أصدرها شكيب أرسلان بجنيف.


بتاريخ : 10/05/2022