عرف البحث التاريخي بالمغرب عددا من التحولات في ما يخص مجالات البحث. فمن تحقيق النصوص التاريخية في مرحلة أولى إلى المونوغرافيات والتاريخ المحلي والتاريخ العلائقي.
اليوم اقتنع المؤرخون باستحالة فهم السياقات المادية والمواقف السلوكية المباشرة للفرد وللجماعة، بدون تفكيك البنية الرمزية الحاضنة للأفكار وللقيم وللمواقف الذهنية، بغاية التحرر من قبضة المسلمات الكولونيالية، ما فتح الباب واسعا أمام بلورة رؤى مغايرة لنسق اشتغال عقل المؤرخ التقليدي، بالانتقال من الكتابة التدوينية الحدثية إلى الكتابة المشتغلة على الهامش.
حول هذه التحولات في أسئلة البحث التاريخي الراهن بالمغرب، تاريخ الهامش، البحث التاريخي الكولونيالي ومساوئه، كان لنا هذا الحوار مع الاستاذ أسامة الزكاري الباحث في تاريخ المغرب المعاصر.
p القارئ والمطلع على كتاباتكم الأستاذ أسامة الزكاري، يتوقف منذ الوهلة الأولى عند اهتمامكم الكبير بتاريخ منطقة الشمال. هل ترى أن الكتابة التاريخية الحديثة لم تنصف هذه المنطقة؟
n لعل من مميزات تراكم الإسطوغرافيات التقليدية العربية الإسلامية في تعاطيها مع قضايا كتابة تاريخ المغرب، تركيزها المبالغ فيه على رصد تحولات المركز وعلى التوثيق لوقائع صناعة القرار فيه على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ظل المركز يشكل القاطرة الموجهة للأحداث الكبرى للبلاد، وظلت نخب المركز تنفرد بعناصر الريادة على مستوى انبثاق الوقائع المفصلية في مواقف الدولة والمجتمع على حد سواء. في هذا السياق، لم تكن الأقاصي تبرز إلا كعناصر مستكينة لمنطق الإخضاع، ولشروط التبعية المطلقة لقرارات المركز، على الرغم من أنها ظلت تضطلع -في أحيان كثيرة- بمهام محورية في الدفاع عن وحدة البلاد وفي التصدي لحملات الغزو الخارجي. وعلى المستوى الداخلي، كانت للأقاصي أدوار موجهة في بلورة أنماط التعبد المحلي الذي دأبت الإسطوغرافيات الكولونيالية على وصفه ب»الإسلام المغربي»، بما ارتبط به من تراث رمزي وروحي خصب ومتنوع.
في هذا السياق، ظلت منطقة الشمال واجهة المغرب المتوسطية المنفتحة على «الآخر» باختلاف تلاوينه، الآخر الغازي، و»الآخر» الحامل للقيم الحضارية، و»الآخر» المتساكن على الضفاف المتوسطية حيث التلاقح والتواصل الذي طبع مسارات العالم القديم. تبرز منطقة الشمال كنقاط جغرافية مشعة باحتضانها للمؤثرات الحضارية المتوسطية التي حملتها موجات الغزو المتلاحقة، وخاصة منها الفنيقية والقرطاجية والرومانية والبيزنطية، إضافة إلى المؤثرات التي أفرزها الجوار المتوسطي مع حضارات مؤثرة وفاعلة في المسار العام لتاريخ العالم القديم، مثلما هو الحال مع الحضارة الفرعونية المصرية أو مع الحضارة الإغريقية أو مع التراث القوطي الإيبيري. وتعزز هذا الانفتاح خلال كل المراحل التي أعقبت الفتح الإسلامي للشمال الإفريقي واستقرار العنصر العربي، بما تبعه من ارتدادات واسعة أثرت على التوازنات الجيوستراتيجية بكل أمصار منطقة الغرب الإسلامي المكونة من أجزائه المغاربية والأندلسية. واستمر تأثير منطقة الشمال في الأحداث العامة للبلاد مع انفجار ظاهرة الغزو الإيبيري الذي ضرب بلادنا مطلع العصر الحديث عند احتلال مراكز عديدة من منطقة الشمال، مثل احتلال سبتة سنة 1415، والقصر الصغير سنة 1458، وأصيلا وطنجة سنة 1471، ومليلية سنة 1497،… وعلى الرغم من شدة وقع الحملة الاستعمارية البرتغالية والإسبانية لثغور الشمال، ظلت المنطقة واجهة لتحصين سيادة البلاد، الأمر الذي وجد تعبيرات جمة عنه من خلال وقائع حاسمة ومسؤوليات جسيمة جعلت من الشمال الدرع المركزي لحماية البلاد. ولعل في الانتصار الكبير الذي حققه المغاربة في معركة وادي المخازن سنة 1578 أمام جحافل الغزو البرتغالي التي قادها الملك دون سباستيان قرب مدينة القصر الكبير، خير دليل على الدور الكبير الذي قامت به أقاصي الشمال في صيانة وحدة البلاد وسيادتها. وفي المجال الثقافي والعلمي، ظلت مراكز الشمال بؤرا مشعة للإبداع وللعطاء العلمي الذي أنجب أسماءً وتجارب خالدة خلال العصر الوسيط، مثلما هو الحال مع القاضي عياض وابن بطوطة والإمام الأصيلي…
وعندما تعرض المغرب للاستعمار بعد فرض نظام الحماية الاستعماري سنة 1912، اضطلعت منطقة الشمال بأدوار مركزية في المعركة الكبرى من أجل الحرية والاستقلال، سواء من خلال تجارب الكفاح المسلح مع روادها الكبار من أمثال محمد أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، أم من خلال تجارب النضال السياسي الذي اختزلته سير كل من حزب الإصلاح الوطني بزعامة عبد الخالق الطريس وحزب الوحدة المغربية بزعامة محمد المكي الناصري. وفي المجال المدني، استطاعت منطقة الشمال خلق الكثير من علامات التميز، مثل إنشاء أول جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان بمبادرة من الحاج عبد السلام بنونة، وإنشاء شبكة من المدارس الحرة وعلى رأسها «المعهد الحر» الذي أُنشأ كقلعة تعليمية وطنية واجهت المشروع الكولونيالي الإسباني الهادف إلى تدجين أبناء المنطقة واستقطابهم. وفي المجال الإعلامي، عرفت المنطقة بروز عدة صحف ومجلات كان لها دورها البارز في تأطير الساكنة داخل مشروع مواجهة المد الكولونيالي، مثلما هو الحال مع صحف «الحرية»، و»الريف»، و»الأنوار»، و»الحياة»، ومجلة «السلام»، ومجلة «الأنيس»،…وتعزز مسار هذه المنابر الإعلامية ببروز شبكة واسعة من الجمعيات الثقافية والإبداعية التي كان لها إسهامها في تعميم الوعي بالقيم العليا للحركة الوطنية، الأمر الذي وجد له امتدادا واسعا عبر كل أرجاء البلاد، وخاصة بالمنطقة السلطانية التي كانت تحت النفوذ الفرنسي.
ومع كل هذا التميز، ظل البحث التاريخي الوطني – في الغالب الأعم- منشغلا بتفاصيل صناعة القرار على مستوى المركز، ولم يكن يُذكر الشمال إلا في سياق أدوار ثانوية خاضعة لتوجيه المركز كمنطلق وكمنتهى. فكل مبادرات العمل الوطني ظلت تنبعث من مراكز المنطقة السلطانية مثل فاس ومراكش وسلا، والباقي مجرد توابع بأدوار وظيفية فرضها صناع القرار بالمركز، وساهم المؤرخون التقليديون في تبرير مشروعيتها، ضدا على منطق التاريخ، واستجابة لرؤى يعقوبية بالغت في تضخيم أدوار نخب المركز في مقابل تغافل غير مبرر لنبض التحول الذي ظلت تصنعه قوى المجتمع المحلي بالأقاصي في انسجام تام مع ثوابت تدبير الشأن العام المحلي، حيث تتكفل القبيلة بأمورها الخاصة بعد أن جعلت أمرها الجهوي «شورى بينها». لذلك، أصبح البحث التاريخي الوطني المعاصر ينحو أكثر من أي وقت مضى نحو تحقيق المصالحة الضرورية مع ذاكرة منطقة الشمال باعتبارها عنصرا لاحما ومركزيا داخل مكونات الذاكرة الجماعية لمغاربة العهود التاريخية المتعاقبة.
p تاريخ الهامش وتاريخ التمثلات والذهنيات هو المجال الخصب الذي يشتغل عليه عدد من المؤرخين والباحثين بما يشكل اختراقات للمجالات البحثية التقليدية. هل نتحدث والحالة هاته عن كتابة تاريخية موازية أو مكملة لحجية النص المكتوب؟
n لعل من المعالم الكبرى لتطور الكتابة التاريخية المعاصرة، الحرص المتزايد على توسيع مفهوم الوثيقة أولا، ثم توسيع آفاق تفكيك جزئيات المحيط ثانيا. لم يعد النص المدون مصدرا وحيدا لإنتاج المعرفة التاريخية، بل انفتح المؤرخون على شواهد «جديدة» أضحت روافد أساسية داخل مظان البحث التاريخي، مثل الروايات الشفوية، والشواهد المادية، وأنماط التفكير الجماعي، ومنظومة القيم الأخلاقية للمجتمع، والإبداع الأدبي والفني والجمالي بتعبيراته المجردة الكثيفة. لقد اقتنع مؤرخ اليوم باستحالة فهم السياقات المادية والمواقف السلوكية المباشرة للفرد وللجماعة، بدون تفكيك البنية الرمزية الحاضنة للأفكار وللقيم وللمواقف الذهنية، أي مجمل أنساق التفكير المجرد مما لا يمكن القبض بتعبيراته وبتمظهراته إلا من خلال آثاره المادية الباقية. في هذا الإطار، أضحى الانفتاح على الكتابات الإبداعية، شعرا ونثرا وتشكيلا وموسيقى ومسرحا، مدخلا لفهم أنساق التفكير التي ينتجها المجتمع في سياق تطوراته التاريخية الطويلة المدى. لم يعد النص الأدبي مجرد استيهام تخييلي، بل بؤرة لفهم العقليات والذهنيات التي يفرزها المجتمع ويساهم -من خلالها- في تأطير نظيمة سلوكاته الاعتيادية، ومجمل تمثلاته تجاه ذاته وتجاه محيطه وتجاه معتقداته. وفي ذلك ثورة منهجية كبرى فتحت الباب واسعا أمام بلورة رؤى مغايرة لنسق اشتغال عقل المؤرخ التقليدي، بالانتقال من الكتابة التدوينية الحدثية إلى الكتابة المشتغلة على الهامش، حيث الطراوة، وحيث الخصب، حيث أحلام الناس البسطاء ومظاهر تطويعهم لمحيطهم، حيث المعتقدات والأساطير والخرافات التي تصنع عناصر التلاحم داخل المجتمع، وذلك في إطار ما أضحى يُعرف اليوم ب»التاريخ من أسفل»، أو التاريخ الذي يصنعه الفرد العادي خارج سلط المركز وأدواته المهيمنة سياسيا واجتماعيا وثقافيا. فبعيدا عن رهانات الفاعل السياسي والحاكم المباشر بالعاصمة، كان الفرد العادي يبدع في تدبير نظم حياته اليومية وأنساق تراثه الرمزي وتمثلاته الذهنية التي لم تكن إلا انعكاسا لواقعه المادي. لذلك، فتح مجال تاريخ الذهنيات الباب أمام تطوير القراءة الموازية لمسار حياة النخب المهيمنة، بالانتقال إلى التركيز على تفاصيل حياة المجتمع التي ظلت بعيدة عن اهتمامات المؤرخ التقليداني، وهي التفاصيل التي نسميها -اليوم- ب»المرآة المعكوسة»، حيث تنبعث عوالم على عوالم، وسياقات على سياقات، وإبداعات على إبداعات،… باختصار، تشكل هذه التفاصيل الوجه المنسي للإسطوغرافيات الكلاسيكية المتداولة في سعيها لبلورة الأسئلة الكبرى للبحث التاريخي المعاصر.