الباحث في تاريخ المغرب المعاصر، ذ. أسامة الزكاري: على الباحث أن يتجنب عملية «تدوير» المعرفة التاريخية 3/2

عرف البحث التاريخي بالمغرب عددا من التحولات في ما يخص مجالات البحث. فمن تحقيق النصوص التاريخية في مرحلة أولى إلى المونوغرافيات والتاريخ المحلي والتاريخ العلائقي.
اليوم اقتنع المؤرخون باستحالة فهم السياقات المادية والمواقف السلوكية المباشرة للفرد وللجماعة، بدون تفكيك البنية الرمزية الحاضنة للأفكار وللقيم وللمواقف الذهنية، بغاية التحرر من قبضة المسلمات الكولونيالية، ما فتح الباب واسعا أمام بلورة رؤى مغايرة لنسق اشتغال عقل المؤرخ التقليدي، بالانتقال من الكتابة التدوينية الحدثية إلى الكتابة المشتغلة على الهامش.
حول هذه التحولات في أسئلة البحث التاريخي الراهن بالمغرب، تاريخ الهامش، البحث التاريخي الكولونيالي ومساوئه، كان لنا هذا الحوار مع الاستاذ أسامة الزكاري الباحث في تاريخ المغرب المعاصر.

 

– موضوع النخبة، الهوية، التعدد الإثني واللغوي، أثار جدلا واسعا بين الباحثين في التاريخ، وشغل حيزا هاما من كتابات مؤرخي المرحلة الكولونيالية. هل ترى أن هذا الموضوع لاتزال له جاذبيته اليوم كمجال للبحث؟

– من البديهي أنه لا يمكن قول الكلمة الأخيرة في قضايا البحث التاريخي. فكلما جد في الأمر جديد، من قبيل ظهور وثائق دفينة، أو الكشف عن مخلفات أثرية، أو استيفاء روايات شفوية، أو تجميع مخلفات رمزية لامادية،… إلا واضطر المؤرخ لإعادة مراجعة خلاصاته، ولا أقول أحكامه. أضف إلى ذلك، أن التجديد المنهجي وتطوير ملكة النقد التاريخي واستغلال عطاء العلوم الأخرى، كلها مؤثرات تجعل المؤرخ مستعدا -في كل وقت وحين- لإعادة مساءلة إواليات بحثه وخلاصات نبشه. وفي هذا المقام المرتبط بالقضايا التي أثرتم، مثل الهوية والتعدد اللغوي، يسعى المؤرخ للابتعاد عن ضجيج التدافع الإيديولوجي الذي يستثمر أحكامه الجاهزة من أجل اختلاق تاريخ افتراضي يتماهى مع المواقف الإيديولوجية للفرد وللجماعة. ولعل في أشكال التعاطي مع ملفات الهوية والتعدد اللغوي على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، خير دليل على مستوى الإسفاف الذي أضحى يطبع المجال. وحمدا لله أن المؤرخ الوفي لأدواته الإجرائية العلمية المعروفة، ظل بعيدا عن ضجيج مثل هذا النوع من السجالات، بعد أن اختار الانزواء بعيدا عن حلبة «صراع الديكة»، منصتا لحسه النقدي الصارم ولمعول منهجه الذي لا ولاء له إلا لضوابطه العلمية ولا شيء غير ذلك.

-اشتغلتم كثيرا في كتاباتكم على موضوعة الذاكرة التاريخية وضمنها الذاكرة الجماعية. ألا ترى أن جزءا من الذاكرة الوطنية التحررية يحتاج إلى جهد أكبر من خلال التوثيق، خاصة في الجانب السيري منه؟

– يشكل هذا الموضوع أحد أهم الانشغالات الكبرى التي يهتم بها مؤرخ اليوم في سعيه للتأصيل العلمي لمنطلقات البحث في دهاليز ما أصبح يُعرف اليوم ب»التاريخ الراهن» أو «التاريخ الآني». استطاع المؤرخون المغاربة المعاصرون تقديم رؤى متقدمة بهذا الخصوص شكلت اجتهادات علمية رائدة اكتست شهرة أكاديمية رفيعة داخل المغرب وخارجه، مثلما هو الحال مع أعمال الأستاذ عبد الأحد السبتي، وخاصة في كتابه الصادر مؤخرا تحت عنوان «الذاكرة والتاريخ- من عام الفيل إلى عام الماريكان» أو في كتابه المعنون ب»أوراش في الذاكرة»، وكذلك مع أعمال الأستاذ الطيب بياض وخاصة كتابه الصادر أخيرا في شكل استقراء لذاكرة مبارك بودرقة،… ينهض البحث العلمي على استحضار تمييز منهجي ضروري بين مفهوم الذاكرة الجماعية من جهة أولى، وبين مفهوم الذاكرة التاريخية من جهة ثانية. تشكل الذاكرة الجماعية مجالا مشرعا لإنتاج المواقف المشتركة، ولتأثيث ما نسميه بالهوية المشتركة وبالعواطف الموحدة وبالمواقف المنسجمة. يغيب المنحى العلمي الصارم في التوثيق داخل قضايا الذاكرة الجماعية، في مقابل الحرص على استثمار عطاء هذه الذاكرة للاستجابة لضرورات المرحلة ولنزوات الأفراد والجماعات والأحزاب والهيآت، مثلما هو الحال مع سيل مذكرات الفاعلين السياسيين، ومع أشكال التعبئة الجماعية التي تقتضيها سياقات التدافع في المواقف وفي الرؤى وفي المبادرات، حيث تتحول الذاكرة الجماعية إلى وسيلة لتبرير هذه المواقف والرؤى، بل ولاختلاق البطولات والزعامات والأساطير، ولدغدغة عواطف «الجمهور» بمنزع شعبوي فاقع. أما الذاكرة التاريخية، فلا ولاء لها إلا لضوابط الكتابة العلمية التاريخية الصارمة، بأسلحتها النقدية الدقيقة، وبحسها الاستشرافي الأكاديمي بأدواته العلمية المميزة، مثل النقد الداخلي، والنقد الخارجي، والتحقيق، والطوبونيميا، والنوماستيك…

– عرف البحث التاريخي بالمغرب عددا من التحولات في ما يخص مجالات البحث. فمن تحقيق النصوص التاريخية في مرحلة أولى إلى المونوغرافيات والتاريخ المحلي والتاريخ العلائقي، إلا أن ما يلاحظ هنا هو أن أغلبها اشتغلت فقط على القرن 19. هل للأمر علاقة بندرة الوثائق والمادة التاريخية والأرشفة، وإلى أي حد يمكن أن تكون الوثيقة معادلة للحقيقة؟

– يجسد التطور الذي أشرتم إليه علامة فارقة على الطفرة المنهجية الكبرى التي يعرفها البحث التاريخي الوطني، إذ لم يعد يحصر نفسه داخل التصنيفات التحنيطية لهاته المدرسة أو تلك، لهذا التيار أو ذاك. فإذا كانت الأعمال المونوغرافية المؤسسة قد شكلت نموذجا لنضج «المدرسة التاريخية الوطنية» من خلال أطاريح مؤسسة ومرجعية، مثلما هو الحال مع أطروحة جرمان عياش حول حروب الريف التحريرية، أو أطروحة أحمد التوفيق حول قبائل إينولتان خلال القرن 19، أو أطروحة علال الخديمي حول منطقة الشاوية، أو أطروحة حسن الفكيكي حول قبائل قلعية أو أطروحة علي المحمدي حول قبائل أيت باعمران، أو أطروحة عبد الرحمان المودن حول قبيلة إناون،… فإن الملاحظ أن جاذبية القرن 19 سرعان ما توارت خلف التجديدات المنهجية التي حملتها تيارات «مدرسة الحوليات»، ثم مع منزع «التاريخ الجديد»، وأخيرا مع مطلب «عودة الحدث». وفي الحقيقة، فإن الانبهار بهذه التقليعات المنهجية يجد تفسيره في توسيع مفهوم الوثيقة حسب ما حددنا معالمه أعلاه، إلى جانب ترسيخ الانتقال من وظيفة ما سماه عبد الله العروي ب»الأراخ» المهووس بالسياقات الحدثية الكرونولوجية، إلى وظيفة المؤرخ بحسه النقدي الصارم وبقدرته على استثمار أرقى النتائج التي تقدمها سيرورة تطور المدارس التاريخية العالمية. يأخذ المؤرخ من كل منهج ومن كل مدرسة ومن كل صيحة أرقى ما يفيده في دراساته التركيبية، ولا يفضل هذا المنهج على حساب ذاك، إذ أن قوة كل منهج إنما تكمن في فعالية أدواته الإجرائية في البحث وفي التحليل وفي التفكيك، ثم في إعادة التركيب. وعلى هذا الأساس، بدأ بريق القرن 19 يتوارى خلف تجديدات «الزمن الراهن» بعد أن استنفد أسئلته الكبرى، وبعد أن بدأ الباحثون يمارسون – في ثناياه- عملية «تدوير» للمعرفة التاريخية المنجزة إلى اليوم، وفي ذلك نكوص علمي لا يمكن إلا أن يعيق مسار التراكم النوعي الذي حققه المؤرخون المغاربة خلال عقود النصف الثاني من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي. أما بخصوص التطابق المفترض بين «الوثيقة» و»الحقيقة»، فالأمر واضح داخل سياق البحث العلمي، ذلك أن مفهوم «الحقيقة» يظل نسبيا في جميع الحالات، كما أن صدق الوثيقة يظل رهينا بمستويات التفكيك والتحليل التي تفرضها أدوات النقدين الداخلي والخارجي الكفيلة – لوحدها- بغربلة الوقائع وتصنيفها وتقييمها قبل استثمارها.

– نلاحظ في السنوات الأخيرة «دينامية بحثية» داخل الجامعات المغربية، وهو ما يظهر في تزايد عدد الأطروحات الجامعية حول المادة التاريخية. كيف تقرأون هذا الإنتاج الذي لا يخضع في جله للضوابط العلمية والمصداقية التاريخية؟

– شخصيا، أحاول – قدر المستطاع – تتبع مجمل الأطاريح التي تُقدم لنيل شهادة الدكتواره في مجمل الجامعات المغربية بالنسبة للدراسات التاريخية. وانطلاقا من تتبعي المتواضع، أستخلص أن الغالبية الساحقة من هذه الأطاريح لا تُقدم أي إضافات نوعية أو قيم مضافة لحصيلة التراكم العلمي. لقد أصبحت الأطروحة مجرد «شهادة إدارية» لتحقيق الاستقرار المهني، في حين أن الأمرلم يكن كذلك خلال المراحل السابقة. يتقدم اليوم باحثون بالعشرات، بل ربما بالمئات، للدفاع عن أطاريحهم خلال الفترة الحالية، لكن، ما هي القيمة المضافة التي يمكن أن تشكل مصدر إغناء للحصيلة المنجزة؟ أقول هذا الكلام وأنا أستحضر – على سبيل المثال لا الحصر- مستوى التحول الذي حملته أطاريح رائدة اكتست قوتها العلمية غير المتنازع حولها، ولاتزال تحاصرنا بعمقها الأكاديمي المؤسس على الرغم من مرور عدة عقود زمنية على تقديمها، مثلما هو الحال مع أطروحة عبد الله العروي حول الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية، وأطروحة جرمان عياش حول جذور حرب الريف، وأطروحة محمد القبلي حول الدين والمجتمع في المغرب الوسيط، وأطروحة أحمد بوشرب حول الاحتلال البرتغالي لمنطقة دكالة، وأطروحة محمد مزين حول فاس وباديتها خلال العصر الحديث، وأطروحة عبد العزيز خلوق التمسماني حول سيرة أحمد الريسوني بالشمال، وأطروحة محمد الأمين البزاز حول تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب، وأطروحة محمد حجي حول الزاوية الدلائية،… لا مجال للمقارنة بين قيمة هذا النوع من الأطاريح، وبين ما يتم إنجازه اليوم بالجامعة المغربية في سياق البحث عن «الشهادة الإدارية».


الكاتب : حاورته: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 05/09/2023