عرف البحث التاريخي بالمغرب عددا من التحولات في ما يخص مجالات البحث. فمن تحقيق النصوص التاريخية في مرحلة أولى إلى المونوغرافيات والتاريخ المحلي والتاريخ العلائقي.
اليوم اقتنع المؤرخون باستحالة فهم السياقات المادية والمواقف السلوكية المباشرة للفرد وللجماعة، بدون تفكيك البنية الرمزية الحاضنة للأفكار وللقيم وللمواقف الذهنية، بغاية التحرر من قبضة المسلمات الكولونيالية، ما فتح الباب واسعا أمام بلورة رؤى مغايرة لنسق اشتغال عقل المؤرخ التقليدي، بالانتقال من الكتابة التدوينية الحدثية إلى الكتابة المشتغلة على الهامش.
حول هذه التحولات في أسئلة البحث التاريخي الراهن بالمغرب، تاريخ الهامش، البحث التاريخي الكولونيالي ومساوئه، كان لنا هذا الحوار مع الاستاذ أسامة الزكاري الباحث في تاريخ المغرب المعاصر.
p ألا تحتاج، في نظركم، التجربة البحثية الحديثة في تاريخ المغرب إلى قراءة نقدية تقويمية لمسار هذا البحث والوقوف على مكامن الثغرات والقصور؟
n هذه ضرورة علمية لا خلاف حولها. وأعتقد أن تقاليد «المدرسة التاريخية الوطنية» بالمغرب رسخت هذا النهج، بإنجاز تقييم دوري ظل يبرز في شكل إصدارات دورية، أصدرتها مجلات متخصصة مثل دورية «هيسبريس تامودا»، أو في شكل أعمال مستقلة، مثلما هو الحال مع ندوة «ثلاثون سنة من البحث الجامعي بالمغرب» والتي صدر قسمها الخاص بحصيلة البحث في تاريخ المغرب سنة 1989 ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وإلى جانب ذلك، بدأت تصدر أعمال تركيبية لاستثمار حصيلة المنجز، بشكل يتيح إمكانيات واسعة أمام تطوير هذه الحصيلة وأمام جهود خلق مسارات جديدة ومجددة للبحث وللتنقيب، قصد التخلص من دائرة الأسئلة المكرورة ومن رتابة فعل «التدوير المعرفي». على رأس هذه الإصدارات، يمكن الاستشهاد بالعمل الضخم الذي أنجزه «المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب» في شكل «تقويم وتركيب» لحصيلة المنجز الخاص بتاريخ المغرب، ثم العمل الثاني الذي صدر ضمن منشورات نفس المعهد في شكل تصنيف كرونولوجي لوقائع تاريخ المغرب، منذ البدايات الأولى لظهور الإنسان بالشمال الإفريقي وإلى يومنا هذا.
p تطرح مسألة النشر والتداول في هذا الشق من البحوث والدراسات مشكلا بسبب عدم استقرار وانتظام إصدار المجلات التاريخية المتخصصة. فعدد من المجلات التي تُعنى بالبحث التاريخي، لم تُعمر طويلا. هل من مداخل لتصحيح هذا التعثر؟
n باستثناء دورية «هيسبريس تامودا» التي تصدرها كلية الآداب بالرباط، ومجلة «أمل» التي يشرف عليها الأستاذ محمد معروف الدفالي، لم تستطع باقي الدوريات احترام سياق صدورها المنتظم، فكان مصيرها التوقف النهائي، إما بسبب العوائق المادية والعلمية والبشرية، أو بسبب ارتباط تجربتها بأشخاص معزولين اعتمدوا على إمكانياتهم الذاتية المحدودة. فكان أن توقفت هذه الدوريات باختفاء أصحابها، مثلما هو الحال مع دورية «الوثائق الوطنية» التي كان يصدرها محمد ابن عزوز حكيم، أو مع دورية «مجلة دار النيابة» التي كان يصدرها محمد الأمين البزاز وعبد العزيز التمسماني خلوق. أعتقد أن الانتقال نحو الإصدار المؤسساتي يظل مطلبا أساسيا لتحقيق النضج المطلوب والاستمرارية الضرورية لمثل هذا النوع من الإصدارات. وبطبيعة الحال، فإن ذلك رهين باختيارات الدولة وبرؤيتها تجاه الغايات الكبرى من وراء الاهتمام بتطوير المعرفة التاريخية ببلادنا، بما يستلزمه ذلك من إمكانيات علمية وبشرية ومادية هائلة.
p انتقد المؤرخون المغاربة باختلاف توجهاتهم ومدارسهم، تحامل الكتابة التاريخية الكولونيالية، داعين إلى إعادة صياغة تاريخ وطني من الداخل. ألا ترى أن بعض الباحثين لا يزالون حبيسي هذه الكتابة، خاصة على مستوى التأطير والمفاهيم والتأريخ الزمني الذي يكون مجانبا أحيانا للصواب؟
n أعتقد أن مؤرخي المغرب الراهن قد نجحوا في تجاوز منغلقات رصيد البحث الكولونيالي حول تاريخ بلادنا، بعد أن تحرروا من ضغط أسئلته النزوعية ومظاهره الوظيفية التي كانت ترمي إلى تكييف حقائق التاريخ مع ضرورات الغزو والاحتلال. وفي المقابل، تزايد الوعي بأهمية العودة للبحث في عناصر التجديد المنهجي التي حملتها الدراسات الكولونيالية على مستوى إثارة أسئلة الظل والهامش، وعلى مستوى العدة أو الأدوات المعتمدة في البحث وفي التنقيب. لقد تحرر مؤرخ اليوم من قبضة المسلمات الكولونيالية، بعد أن نجح في التخلص من مهاوي الانشغال المفرط بالرد على الأطروحات الاستعمارية، في مقابل الانتقال إلى تحويل هذه الأطروحات إلى وسيلة لإعادة إثارة الأسئلة المغيبة من بين متون الإسطوغرافيات العربية الإسلامية الكلاسيكية. وفي جميع الحالات، أضحت الحصيلة الكولونيالية «غنيمة حرب» حسب تعبير كاتب ياسين، وهو يتحدث عن اللغة الفرنسية وحضورها في المشهد الثقافي المحلي، لها ما لها، وعليها ما عليها. ولا سبيل لاستيعاب حصيلة البحث التاريخي الكولونيالي إلا بالتحرر من هوس التماهي مع خلاصاته في السعي للرد على أطروحاته وعلى أحكامه.
الآن، وبعد مرور أكثر من ستة عقود على حصول بلادنا على استقلالها السياسي، حان الوقت للتخلص من عقدة «الآخر» الذي وجدنا أنفسنا مطوقين بنزوع قاتل نحو إعادة طرح أسئلته وأولوياته وانشغالاته. لا يمكن التخلص من هذه العقدة عبر الاكتفاء بانتقاده وبإبراز ثغراته وأوجه تحامله، ولكن -أساسا- عبر إعادة قراءة عناصر قوته وتفوقه في مجال إثارة الأسئلة المغيبة بين متون الكتابات التقليدية المحلية المتوارثة. فلا سبيل للتخلص من عقدة البحث الكولونيالي إلا بتطويع نتائجه في أفق تحويل هذه النتائج إلى أدوات فعالة لاستثمار كل المادة المتاحة من أجل الارتقاء بالمعرفة التاريخية، وفق قواعدها العلمية المعروفة وبآفاقها التأسيسية الرحبة.