البحث عن المعنى.. ألذ من تحصيله!

يميل النقد المنشغل بالمتن الأدبي العربي إلى الجنس السردي، ويميل من بين أنواعه إلى الرواية أكثر، كما لو أن الجميع بات يسلم لآن «أنها ديوان العرب الحديث»(سعيد يقطين، قضايا الرواية العربية الجديدة).ويستهلك الجهد الأكبر في البحث عما تقوله الرواية، وفي كثير من الأحيان قد يقوّلها ما لا تقوله، تحت ذريعة اقتناص المعنى المنفلت أو المتواري.
لاشك أن الرواية تقيم علاقة أو علاقات مع لحظتها التاريخية والواقعية التي تولد في أحضانها، فلا أحد يستطيع أن ينكرعلاقة الأدب ببيئته أو بيئاته حتى إذا لم يتمكن له أن يثبتها، وحتى أكثر النظريات تطرفا في إقصاء خارج-النصي لا تنكروجوده، بل ترفض إقامة دعائم تحليل أوتأويل على أساسه لا أكثر..
فالعالم الذي تبنيه الرواية وعلاقته بالواقع المعيش للروائي هو جوهر العمل الروائي، ولكنه ليس معطى جاهزا، بل إنه مبني على أساس العلاقات التي حاكها الكاتب لتسريد معطيات الواقع وحبكها وفق منظوره الخاص، فشكل العلاقات الذي يخلقه الكاتب، ماهو إلا مسلك إلى إنتاج المعنى، فالعلاقة أو العلاقات لولب محوري في دواليب تشكل المعنى الروائي..
ومعلوم أن جوهرالعمل الروائي، إشكال طرح على مدى عقود تتالت؛ أهو عمل تخييلي أم خيالي أم انعكاسي أم تجريبي؟وفي جميع الأحوال، لابد أن نجد للواقع حضورا – رمزيا أوواقعيا أو واقعيا فجا- في العالم الروائي. ومعلوم كذلك «أن مخلوقات الروائي في أي رواية تظل مثل أنصاف الآلهة في الأساطير الإغريقية. نصف منها مرجعي والنصف الآخر متخيل»(محمد أمنصور، خرائط التجريب الروائي) .. وهنا تكمن قيمة القراءة النقدية؛ إنها تنظر إلى تصرف الروائي لجعله ملائما لمقاس قصديته، فليس المعنى المتحصل نقديا إلا الوجه الثاني لقصدية محينة روائيا في النهاية، أو على الأقل هذا ما ينبغي أن تكون عليه..
إن الواقع من هذا المنظور، ليس مجرد مهد حاضن لأحداث وشخصيات.. إنه نسق من السجلات المختلفة: الأنثروبولوجية، النفسية، الاقتصادية، العرقية، القيمية.. وإن منطق العلاقات التي تنظمه ليس ظاهرا للعيان، بل باطن خفي. والرواية لا تكتفي بتقديم العالم كما يظهر في الواقع..فذلك شغل الحرفي، بل إنها تستبطن الباطن وتصعده حتى يعود مرئيا (التشخيص)، لتكشف المنطق الذي من أشغال القراءة النقدية، البحث في طبيعته ونظامه.
لذلك ينبغي للقراءة النقدية أن تبحث- عن المعنى- في مستوى تال، في منطق التنظيم العميق الذي تقيمه الرواية لما يبدو سطحيا «وكل عنصرداخل العالم المحسوس هو عنصر داخل ثقافة، وأي استعمال للأشياء وللكائنات هو استعمال ثقافي» (سعيد بنكراد، سميائيات الصورة الإشهارية) يدل من خلال رده الى نص الثقافة الذي ولده، والروائي كالحائك الذي يجمع بين «الفصالة» والخياطة في نفس الآن، إنه يقص ويحدث التمفصلات في الثوب، ثم يقوم بإعادة تركيب القطع وفق تنظيم مغاير، وإلا فسنكون أمام نفس الثوب بنفس الشكل، فما الحاجة إلى الحياكة إذن!
فالعلاقات بطبيعة الحال أساس العمل السردي، فما يميزالعمل –السردي التخييلي- هو التركيب، أي العلاقات التي يبتدعها المبدع بين شخصياته وأمكنته وأزمنته وأحداثه، فالإجابة عن أسئلة من قبيل: كيف نظم الكاتب علاقات مكوناته الروائية داخل الرواية؟ما هو البرنامج السردي الذي صرف وفقه مقصديته؟ سؤال جوهري في تتبع سيرورة تشكل المعنى وتحصيله..
هكذا، من جهة، فالرواية في استثمارها للواقع إنما تحدث فيه تقطيعا عموديا لكشف بنيته التحتية، ولا تعيد تكريره وإنتاجه، وإلا فستكون حرفة وعملا وليست فنا، ومن تم قدرتها على التحول من بنية بالغة التعقيد والتجريد إلى وجه تشخيصي لها،يكشف حتى القسمات الخفية وغيرالمرئية لهذه البنية، على شكل معنى «روائي»، وهذا التحويل هو الذي يجب على القراءة النقدية، المنشغلة بالمعنى، تتبع محطاته نحو المعنى الروائي..
ثم من جهة أخرى؛ إن أشكال العلاقات التي يقيمها العالم الروائي بين مختلف مكوناته، وشكل أو أشكال التنظيم العميق التي يتبعها يسهم في بناء المعنى المخصوص.. فالمكونات عامة ومشتركة بينما العلائق خاصة، والكاتب يبحث لعمله عن الخصوصية والتفرد والأصالة كي لا يكون نسخة لغيره من الأعمال، فالنسخ لاموقع لها لأنها سرعان ما تتلاشى بين باقي النسخ، ووحده الأصيل ما يضمن خلوده، وتنظيم المكونات بشكل معين من العلاقات، هو المسار الذي يلتقط منه المعنى جزءا منه ويذر آخر، في كل محطة، حتى ينتهي إلى ماهو عليه، من خصوصية، في نهاية المسار السردي.
إن الرواية لا تنفصم عن عوامل الواقع الذي تولد فيه، بل تنتقل من المعطى العام (النماذج والخطاطات)وتحوله إلى شكل من أشكال التحقق الخاصة (التشخيص والتمثيل) لإنتاج المعنى والتعرف عليه، «وهو انتقال لا يشيرالى قطيعة بين العالمين،بل يؤكد الروابط الوثيقة بينهما، فعناصر العوالم الثانية مستمدة بالضرورة مما يتيحه الواقع لذلك لايمكن تصورعالم تخييلي يعج بكائنات وأحداث لانعرف عنها شيئا» (سعيد بنكراد)وإلا لما تمكن للمعنى أن يُتداول ويُتشكل، في سيرورة – متواضع عليها ثقافيا- بين المبدع والنص والمتلقي!
والقارئ الهاوي يلمس ضربا من التناظر بين العالم التخييلي للرواية والعالم الواقعي للروائي.. بل يصدر ضربا من الحكم المتيقن أن هاته الرواية أو تلك، تقول الحقيقة، تطابق الواقع، تميط اللثام عن المستور.. وما إلى ذلك من الأحكام التي تشف عن إدراكه الحدسي المباشر لمعنى الرواية.
ولذلك،فإن الناقد – عكس الهاوي- ينبغي أن يشتغل على طرائق استثمار الرواية للواقع الذي تشكلت في رحمه، لأن الكاتب ينتقي عناصره من فسيفساء الواقع وينظمها بطرائق معينة، وعندما نتحدث عن هذه الطرائق لانقف عند حدود التوظيف الواعي، بل نتجاوزه إلى دائرة الاستعمال غيرالواعي لمعطيات النسق وسننه الثقافي، المساهِمة في تشكل معنى المقروء..
وعليه، فاستثمار الواقع الثقافي بكل فسيفسائه في العمل الروائي، يعني تقطيع الواقع الثقافي واجتراح المكونات منه لبناء النص. فالواقعة النصية لاتدل من خلال كليتها إنها تخبئ أسرارها في جزئياتها وتفاصيلها وعلاقاتها غيرالمرئية، وانتقاء هذه الشخصية بهاته الصفات،وتلك الشخصية بتلك الصفات، وهذا الحي دون ذاك، وفي هاته اللحظة التاريخية دونما سواها.. هو ما يبني العالم الروائي ويميزه، وينتج معناه..
وبناء المعنى الروائي، هو طرائق تنظيم هذه العناصر، من خلال طبيعة العلاقات التي يقيمها الكاتب بينها، فالعناصرقد تكون ذاتها في هذه الرواية وتلك، لكن التنظيم الذي يتبعه الروائي والعلاقات التي ينتقيها لشخصياته وأحداثه وفضاءاته هو مايعد «سمات مميزة» لعمله الروائي أولا، ثم هو ما يبني معناه ثانيا.
استنادا إلى ماقيل، فإن قراءة العمل الروائي النقدية، لا ينبغي لها أن تشير على القراء بمعنى يتيم، يأخذ بتلابيبه القارئ بسذاجة، بل يجب أن تحيله على المعابر والمسالك التي درج منها المعنى وكل محطة ترك فيها عربة من عرباته أو أضاف أخرى، وكل الإجراءات التي خضع لها في طريقه، قبل أن يصعد المنصة أمام الجمهور، أو تسلط عليه الأضواء في منتهى كماله، حتى يستمتع القارئ متعة مزدوجة؛ بالنص الروائي وبنقده، وبالمعنى المتحصل، وسيرورة تشكله وتحصيله..

*كاتب من المغرب


الكاتب : زهير اسليماني

  

بتاريخ : 31/12/2021