«البرتقالة المرة»… من أجمل تمظهرات الذاكرة الحلوة!

 

لست متأكدا تماما، هل كانت بداية الألفية فترة ذهبية للأعمال التلفزيونية المغربية تعكس نضجًا فعليا؟ أم أن تأثير الطفولة كان حاضرا؟ الأكيد أن الإنتاجات التلفزيونية في تلك الفترة كانت أعمالًا مميزة، نذكر منها عويشة الدويبة ، حروب النسا ، الكبش ، و البرتقالة المُرّة.
الرابط الذي جذب اهتمام المشاهد المغربي وأعجبه حتى اليوم بهذه الأعمال دون غيرها، هو كونها نقلت قصصًا نابعة من صميم خصوصيات المجتمع المغربي، ورسمت لها مكانًا في الذاكرة الجمعية التلفزيونية.
فيلم البرتقالة المُرّة ، الصادر سنة 2007 من إخراج بشرى إيجورك، يتأسس -كما هو معروف- على قصة حقيقية لفتاة تُدعى فاطمة القنيطيرية، أصابها الجنون بعد فراقها عن خطيبها الشرطي. لكن المخرجة، إلى جانب كُتاب السيناريو، أفلحوا في إضافة عناصر تخييلية جعلت الحبكة الدرامية قوية، وتضمّنت العديد من القضايا التي كانت تَسم المجتمع المغربي في تلك المرحلة.
إذا صرفنا النظر نحو الأمكنة، نلاحظ احتفاء بصريًا بالغًا بالفضاء الشعبي، بدفئه، وحكاياته، وحركيّته، وإيقاعه، في تقاطع واضح مع أبرز أعمال عبد الله فركوس؛ السقاية مثلًا فضاءٌ للاجتماع، مشحون برمزية الإنسان المغربي التوّاق دومًا للتواصل وتبادل الأخبار، وكذا الأجمل: الصدف وسوء الفهم التي قد تغيّر مسارات الحياة جذريًا، كما حصل حين التقطت صديقة البطلة خبرًا موهمًا إياها بتحقيق حلم الزواج من المرغوب: الدركي.
بالانتقال إلى فضاءات أخرى، مثل ضريح لالة منانة وفكرة المبيت بغرض العلاج النفسي، يتجلى حال الإنسان المغربي المغمور بالخرافة، المشبّع بالفكر الشعبي في التعامل مع مشاكل صحية تستدعي زيارة الطبيب واستدعاء العقل والعلم. وهذه من أبسط شروط التمدن التي لم تترسخ في الذهنية المغربية رغم الهجرة الواسعة نحو المدن في نهاية التسعينات وبداية الألفية.
لا شك أن كل مغربي يستحضر فيلم البرتقالة المُرّة يتذكّر معه الموسيقى التصويرية وموسيقى الجينيريك، التي شكّلت لوحةً فنيةً أصيلة من إبداع مجموعة «كلمة» الشبابية الراقية. شأنها في ذلك شأن الصورة، واختيار الملابس، والكثير من التفاصيل البصرية المؤثثة للفيلم.
أما على مستوى الشخصيات، فقد حاول العمل مقاربة عدّة نماذج مركبة تتقاطع صفاتها ومصائرها. نأخذ مثلًا شخصية ربّ الأسرة العصبي المتسلّط لكن المحب، وهي سِمة ربما تمثل شريحة واسعة من الآباء المغاربة في تلك الفترة.
أما شخصية «عواطف»، فتعكس وضعية خادمات البيوت اللواتي يُعاملن كما لو كنّ آلات؛ لا يملكن من حياتهن سوى الأنفاس التي تتدافع في صدورٍ مثقلةٍ بالهموم، بعيدًا عن حقوق «سريالية» كالتعليم، والحرية، والكرامة، والمساواة، والمشاركة، والتعبير.
الهدر المدرسي في شخصية البطلة، ثم نظرة الإنسان المغربي لرجل السلطة، وعلاقته المضطربة معه، كلها قصصٌ شكّلت نسيج الفيلم بتناغم ملحوظ.
يتبنى فيلم البرتقالة المُرّة فكرة تعنّت الأقدار بشكل غير مبرر في كثير من الأحيان، وكيف يمكن أن يفقد البعض مسارات حياتهم تبعًا لذلك. لكنه يُصوّر أيضًا العديد من التحوّلات العميقة في قيم وأعراف المجتمع المغربي، في علاقة الأنثى بالرجل من جهة، وبالحب من جهة أخرى. كما يُبرز موقف الإنسان المغربي من الحب كقيمة إنسانية لا يتم التعامل معها على هذا الأساس. فإلحاح الأم المغربية على الزواج، لا ينبع من الحب بل من مبرّرات اجتماعية تبدأ من نظرة الآخر، وتتجلى في الإصرار على استمرار النسل تحت غطاء: «بغيت نشوف أحفادي».
أما النهاية، فهي -كحال معظم الصور الاجتماعية التي يعرضها الفيلم- موجعة؛ فعندما يحنو القدر أخيرًا بلقاء البطلين، اللذين سلكت بهما الأقدار كل المسالك دون أن يتقاطعا، لا يحصل ذلك إلا بفاجعة: حادث سير يودي بحياة البطلة، ويوحي بأن النهايات، في السينما كما في الحياة، ليست دائمًا سعيدة.


الكاتب : عبد اللطيف أجدور

  

بتاريخ : 24/06/2025