البعد الإقليمي لنزاع الصحراء : 9 – الجزائر والمغرب وموريتانيا في مواجهة المخطط الأسباني في الصحراء

لكل نزاع إقليمي مرجعيته وإحالاته التاريخية والقانونية والسياسية، ولكل نزاع إقليمي أيضا بهاراته الخاصة. وتشريح أسس أي نزاع لن يستقيم دون وضع كل مكوناته على طاولة التحليل، بيد أن نزاعات القارة الإفريقية وصمت بالفعل الاستعماري، الذي مزق القارة بمقص ترك آثاره في النسيج الإثني إلى يومنا هذا في عدد من المناطق، وانعكس ذلك في خريطة النزاعات اٌلإقليمية، الشيء الذي جعل « الوحدة الوطنية» عرضة لكل الحسابات الإقليمية والدولية. ولنزاع الصحراء نكهته الخاصة، إذ ربط بين 3 أبعاد إقليمية:
المطلب المغربي في وحدته الترابية والوطنية، وهو عامل شيد ما عرف في تاريخ المغرب الراهن ب»الإجماع الوطني»، الذي لعب دورا كبيرا في تلاحم المؤسسات المغربية، وتخفيف التناقضات السياسية الداخلية ، مع مد وجزر بين الفينة والأخرى، وشكل الموقف الوطني المغربي الموحد تجاه نزاع الصحراء ورقة سياسية، تأخذ بعين الاعتبار في تقييم الدول لمواقفها في نزاع الصحراء.
إشكال بناء الدولة المدنية في الجزائر والفشل في انتقال مؤسسات الدولة من نظام عسكري مشبع بالفكر الاستعماري الفرنسي، وبواجهات سياسية واقتصادية «متحورة»، إلى دولة مدنية تستند إلى السلم والأمن وبناء الطمأنينة والسلم تجاه الشعب الجزائري، وأيضا مع دول الجوار الست، حيث حولت الحدود إلى مناطق عسكرية خالصة، وأصبح النظام العسكري امتدادا للنظام الاستعماري الفرنسي في المنطقة. والشعارات التي يرفعها الشعب الجزائري في مظاهرات الجمعة والثلاثاء ضد «الدولة العسكرية»، واضحة بما فيه الكفاية لإدراك أزمات شمال غرب إفريقيا.
الموقف الموريتاني تجاه نزاع الصحراء من حيث التقاطع معه ترابيا وسياسيا واستراتيجيا، فتضارب الموقف الرسمي تجاه نزاع الصحراء منذ الستينات إلى يومنا هذا، وإعلان موقف مناقض للواقع السياسي في المنطقة من حيث الاحتماء بالحياد. ترابيا، هناك رغبة في إبقاء الوضع على ما هو عليه ، فوضع المنطقة الممتدة من الكركرات إلى الكويرة، يشكل إحراجا في علاقات الدولة الموريتانية بالنزاع الإقليمي. وأبانت أحداث الكركرات الأخيرة، ودور الموقعين الموريتانيين الزويرات وبولنوار كقاعدتين خلفيتتين للبوليزاريو حساسية الموقف الموريتاني في نزاع الصحراء،وتحاول بعض المواقف الدبلوماسية القفز على هذا الواقع من حين لآخر.
في هذه المقالات، التي تشكل فصولا من كتاب قيد الإعداد، نحاول الإمساك بالبعد اٌلإقليمي لنزاع الصحراء انطلاقا من وثائق الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية والجامعة العربية المستندات الرسمية للمملكة المغربية، ووثائق رسمية للدولتين الجزائرية والموريتانية، إضافة إلى وثائق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومنظمة إلى الأمام وجبهة البوليزاريو.

 

في ظل فترات الانفتاح بين دول المغرب الكبير، وفي الفترة الممتدة من 1969 إلى 1973، تحركت دول المغرب وموريتانيا والجزائر لمواجهة مخططات الاستعمار الاسباني في الصحراء، امتدادا لموقف المغرب خاصة، وتجاه الانتصار لإجلاء الاستعمار عن «الصحراء الإسبانية» بصفة عامة. واعتبر المغرب حينها وبعد أن ظل الوحيد الذي طرح لأول مرة في الأمم المحتدة مسألة استعمار اسبانيا للصحراء وفي سياق استعادته للمنطقة الخليفية في شمال المغرب، ثم طرفاية (1958) وسيدي إفني (1969)، وبعد اعترافه بموريتانيا في نفس العام، جند المغرب كل قوته لطرح قضية الصحراء في إطار إقليمي. في هذا السياق انعقدت قمة بين المغرب وموريتانيا والجزائر في مدينة نواذيبو بموريتانيا في 14 شتنبر 1970. يحيل البلاغ المشترك إلى روح» اجتماعات واتفاقات ومعاهدات إفران وتلمسان والدار البيضاء..» وبالتأكيد على «العلاقات الأخوية» القائمة بين البلدان الثلاث، التأمت القمة للدراسة المستفيضة «للحالة السائدة في الصحراء الواقعة تحت السيطرة الاسبانية، وتقرر» مضاعفة التعاون الوثيق القائم بينهم للتعجيل بإنهاء استعمار المنطقة، وذلك عملا بقرارات الأمم المتحدة المتصلة بالموضوع». من قرارات هذه القمة إنشاء لجنة تنسيق ثلاثية مهمتها متابعة، على الصعيد السياسي والدبلوماسي، عملية إنهاء استعمار الصحراء. وبرز من خلال هذه القمة ضرورة «الاستكثار» من الاتصالات على جميع المستويات بين الدول الثلاث، وتنسيق السياسات إن على المستوى الإقليمي أو الدولي. ويؤشر البلاغ في خاتمته إلى «الاتفاق التام في وجهات النظر، قرر رؤساء الدول الثلاث الاجتماع مرة أخرى لتقييم تطورات الحالة في المنطقة».
تعتبر قمة نواذيبو أول لقاء مشترك جدي في مواجهة أسبانيا، علما أن هذه الأخيرة كانت لها علاقات متميزة مع الدول العربية لموقفها المنتصر للقضية الفلسطينية، وأعقب القمة تأسيس لجنة وزارية ثلاثية مكونة من وزراء الخارجية.
اجتمعت هذه اللجنة الوزارية بعد 15 عشر شهرا تقريبا من زمن انعقاد قمة نواذيبو، في الجزائر العاصمة بتاريخ 4 و5 يناير1972. وحضر الاجتماع عبد اللطيف الفلالي، وزير خارجية المغرب، وعبد العزيز بوتفليقة، وزير خارجية الجزائر، وحمدي ولد مكناس، وزير خارجية موريتانيا. في البلاغ الصادر عن القمة الوزارية تم الترحيب ب «إيجابية تطور العلاقات القائمة بين بلدانهم على المستويين الثنائي والإقليمي»، وب «ارتياح كبير الاتفاق التام في وجهات النظر الذي تميزت به المناقشات التي جرت بينهم…» وتم التنصيص على سياسة الأخوة وحسن الجوار وروح التضامن …» دون نسيان «المصير المشترك»، مصطلحات ومضامين ستجل الاستثناء في تاريخ الدول المشترك خاصة بين الجزائر والمغرب. كان بيت القصيد من اجتماع اللجنة الوزارية في هذا التاريخ بالذات هو ملف الصحراء، إذ تسارعت الأحداث على صعيد المنطقة خاصة من لدن إسبانيا في محاولة لاستباق الأمور ووضع الاختيارات الاسبانية كواقع مفروض. من هذا المنطلق نص بيان القمة الوزارية في الجزائر على الحاجة الى تقوية جبهة الدول الثلاث : لدراسة المشاكل ذات الأهمية المشتركة، وبالأخص المشاكل المتعلقة بإنهاء استعمار الصحراء لتي لا تزال واقعة تحت السيطرة الاسبانية». ونص البلاغ المشترك على «تنسيق ومواصلة الجهود» للتعجيل بتحرير الصحراء. مع الإشارة إلى العلاقات الخاصة التي تربطهم باسبانيا من «القضاء على جميع عوامل التوتر الذي قد يعرض للخطر الوفاق والاستقرار والأمن في المنطقة».
في هذه القمة أيضا تم الاتفاق على برنامج عمل كان من المفروض أن يعرض على رؤساء البلدان الثلاث في الاجتماع الذي تم تحديد زمنه في النصف الثاني من مارس 1972.
كان هذا آخر اجتماع وفاق بين الدول الثلاث مشتركة، فلم تلتئم القمة في مارس 1972، وجرت أحداث كثيرة في المغرب في هذه السنة، وكان المغرب منشغلا بترتيب بيته الداخلي في العام 1972، لكن محادثات جرت بين الدول الثلاث في يونيو 1972.
القمة الوزارية المغاربية
9 ماي 1973

عادت اللجنة الوزارية للدول المغاربية الثلاث للاجتماع مرة أخرى في تاريخ 9 ماي 1973، في سياقات جديدة أبرزت التباعد بين المغرب وموريتانيا من جهة والجزائر من جهة أخرى، في حين كانت اسبانيا تحاول الركوب على الاختلافات القائمة بين الدول المغاربية بغية توجيه المسار السياسي والتاريخي للمنطقة في اتجاه حضور دائم في الصحراء، وذلك عن طريق خلق دولة جديدة في المنطقة. في نفس الزمن بدا للدولة الجزائرية مسار آخر باللعب على تناقضات داخلية في الصحراء، ومحاولة كسب امتدادات داخل النسيج السياسي والمجتمعي داخل الصحراء، وباختيار نظام بومدين الفرصة لسحب ملف الصحراء من المغرب، مع تبني خطابا وحدويا حول الموضوع.
كل المصلحات والكلمات التي أثث بيان 9 ماي 1973، تظهر دون لف أو دوران أن التصدع بدأ يظهر في مواقف الدول المعنية، ولذا ذكر هذا البيان، أن كل وزير أعرب في «جو من الصراحة والصدق والوضوح» عن وجهة نظره فيما يتعلق بتطور جميع مشاكل المنطقة..» وأن النقاش بين الوزراء الثلاث انصب على «تطور الحالة في الصحراء التي لا تزال تحت السيطرة الاسبانية، وأعربوا عن قلقهم بشأن مواقف ونوايا الحكومة الاسبانية من إنهاء استعمارها» للمنطقة. كما أعرب الوزراء الثلاث عن «شجبهم للمناورات التسويفية التي تعتمد إليها الحكومة الاسبانية للتهرب من الالتزامات الملقاة على عاتقها ومن قرارات المراجع الدولية ذات الصلة بالموضوع» ويضيف البلاغ: «كما يؤكدون من جديد عزم حكوماتهم على تضافر ومضاعفة الجهود الرامية لإحباط مناورات الحكومة الاسبانية، وتعجيل إنهاء استعمار الصحراء إنهاءا حقيقيا، وتنفيذ المبادئ التوجيهية التي قررها رؤساء دولهم انسجاما مع روح الاجتماعات المنعقدة في انواذيبو في شتنبر 1970، والمحادثات التي دارت في الرباط في يونيو 1972».
وتقرر في هذه القمة الوزارية البقاء على اتصال دائم فيما بينهم لمتابعة الوضع في الصحراء. كما نبهوا إلى ضرورة انعقاد قمة لرؤساء الدول الثلاث « لرسم خطة للعمل في ضوء الحالة الجديدة التي خلقتها اسبانيا من طرف واحد، وأنه سيتم تحديد زمن هذه القمة الذي تقرر عقدها في الرباط».
كان لابد من صياغة دبلوماسية للتعبير على أن الاختلاف في وجهات النظر حول الصحراء لا يعني أن القضية أصبحت خلافا بينهم، ولذلك ختم وزراء الخارجية بلاغهم بالتأكيد على « جو الصراحة» الذي أتاح توضيح المواقف و» تصحيح جميع ما تروجه بعض الدوائر عن عمد من تفسيرات خبيثة لموقف كل من البلدان الثلاث من الصحراء». بيد أن هذه الصيغة وما ورد قبلا، يؤكد أن التصدع واختلاف السيناريوهات نحو خلق مرحلة جديدة ستؤسس لزمن ما سيأتي؟
القمة المغاربية بآكادير يوليوز 1973

انعقدت هذه القمة في آكادير، وبدعوة من الملك الحسن الثاني، يومي 23 و 24 يوليوز 1973، وحضرها الرئيسان ولد داداه وبومدين. وتضمن البيان ما ينبئ عن الإحساس بالمنعطف التي تمر منه المنطقة، فأكد على «الروابط الأخوية وعلاقات الصداقة والتعاون وحسن الجوار التي تميز العلاقات القائمة بين البلدان الأشقاء الثلاث» و«ترسيخ التعاون الراهن مع توسيع آفاقه في جميع المجالات».
وإذا كانت الجزائر والمغرب « توحدان صفوفهما من أجل مواجهة المخطط الاسباني، بحسابات مختلفة، بخلق دولة في المنطقة»، فإن موريتانيا انخرطت في هذه القمة بإعلان سياسي من لدن ولد داداه بانخراطه في بناء «المغرب العربي»، وهذا ما تضمنه بيان آكادير، إذ رحب الملك الحسن الثاني والرئيس بومدين «ترحيبا كبيرا بالرغبة التي أبداها في هذا الاجتماع صاحب الفخامة الرئيس مختار ولد داداه في أن يرى بلده مندمجا في المغرب العربي ويسهم في بنائه صرحه ويقوي أسس منظماته..» إنه رسالة إلى اسبانيا بأن الدول الثلاث لها اهتمام خاص بما يجري في المنطقة، وأن موريتانيا جزء من مستقبلها، وجاءت الفقرة الموالية في البيان حول ما يجري في الصحراء كبيت القصيد في هذا البيان وسبب اجتماع آكادير، فقد أكد البيان على إعطاء اهتمام خاص لتطور مسألة الصحراء التي ما زالت «تحت سيطرة الاستعمار الاسباني، و «أكدوا من جديد تمسكهم الذي لا يتزعزع بمبدإ تقرير المصير وحرصهم على ضمان تنفيذ هذا المبدإ في إطار يكفل إتاحة الفرصة لسكان الصحراء للتعبير عن إرادتهم تعبيرا حرا وحقيقيا، عملا بقرارات الأمم المتحدة الخاصة بهذه المسألة».
في هذا البيان على الأقل نرى فكرة جعل الصحراء نواة لبناء كيان مغاربي كبير، والتنصيص، على رغبة موريتانيا في الاندماج داخله دليلا على الأولويات للدول الثلاث كي لا تسقط الصحراء إلى الأبد في يد اسبانيا، لكن كان لكل دولة حسابات خاصة. اقترحت القمة فكرة تحويل الصحراء إلى نواة الاندماج الجهوي، وفي هذا السياق قرر رؤساء الدول الثلاث إنشاء طريق رئيسي بين آكادير وتندوف وأطار. هذا يعني جغرافيا إدماج الصحراء في هذا المشروع.
نلاحظ أيضا غياب مصطلح «الشعب الصحراوي» في كل بيانات رؤساء الدول الثلاث، وأن تقرير المصير « لسكان الصحراء» كانت الورقة الأساسية التي أشهرها المغرب منذ الستينات، بل كان المغرب من المدافعين على هذا المبدإ في مواجهة الخطط الاسبانية، وسيفسر الملك الحسن الثاني لبعثة الجمعية العامة لتقصي الوضعية في الصحراء، مفهوم تقرير المصير. ومع ذلك كله، كان الملك الحسن الثاني منفتحا نحو الاندماج الجهوي عبر بوابة الصحراء من أجل «تحقيق التشابك بين مصالح المناطق الإفريقية» وتقوية علاقات التعاون الإقليمي. بل إن بيان آكادير يتحدث عن ربط غرب القارة الإفريقية بمنطقة المغرب الكبير. هذه أهم نقاط لقاء آكادير، والبيان في عمقه، ورغم الاختلاف الخفي في مواقف الدول الثلاث، دعوة إلى مواجهة المشروع الاستعماري الاسباني في الصحراء. وعلى هامش انعقاد هذه القمة قام رؤساء الدول الثلاث بافتتاح سد يوسف بن تاشفين، ولاختيار اسم مؤسس الدولة المرابطية مغزى كبير في هذا الحدث.
لا يمكن أن نغفل في هذا السياق التاريخي حدث تأسيس «جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب» ولاختيار هذا الاسم معنى ودلالة واضحة في انسجام الجبهة مع توجهات الدول الثلاث في طرد الاستعمار الاسباني من الصحراء.
تصدع جبهة دول المغرب الكبير

بين يوليوز 1973، ويونيو 1975، جرت أحداث كثيفة كشفت أن الدولة الجزائرية تخطط لتنفيذ ما عجزت عنه اسبانيا في الصحراء، فمع ولادة جبهة البوليزاريو في ماي 1973، تكفل النظام الجزائري بهذه الحركة ليعزلها عن أي اتصال مع النظام الليبي، ثم لتوظيفها في سياق «عقدة الدولة المحورية» لفرض الأمر الواقع على المغرب وموريتانيا واسبانيا.

 

 


الكاتب : الموساوي العجلاوي

  

بتاريخ : 23/04/2021