مسرح أحداث الرواية هي مدينة إيمزورن الواقعة في جبال الريف شمال المغرب، حيث تسود التقاليد الاجتماعية والأعراف التقليدية، والسلطة الذكورية شديدة القيادة الأحادية الجانب في البيت، والانضباط والولاء والطاعة العمياء في تطبيق تلك الأعراف والعادات، وغياب دور المرأة الكلي، وتجاهلها المطلق، إلى حدّ تحريم خروجها من البيت، فهي من المهد إلى اللحد أسيرة المنزل. هذه التقاليد بصرامتها وحدّة تطبيقاتها وقسوتها على الواقع، والتفاف قيودها حول أعناق الجميع، وخاصة النساء، وهو ما يعيق حركة المجتمع وتطوره، مع وجود المرأة (النصف الآخر) وتغييب دورها.
تدور الرواية حول قصة حبٍّ بين فتاة من عائلة موسرة ذات مكانة وصيت، وهيبة واحترام داخل بيئتها، وبين فتىً من الطبقة الفقيرة، حيث الاختلاف في المستويين الاجتماعي والاقتصادي، مما يفضي إلى الصراع الطبقي الصارم ذي اليد الطولى في العلاقات العامة بين الأفراد والعائلات، وحتى الأقارب، وهو الحَكَم، في مدى الاقتراب والابتعاد في ما بينها، وفي الموقف التقليدي في تحريم وتجريم هكذا علاقة إنسانية (الحبّ) قبل الزواج ؛ انطلاقا من تفسير معنى الشرف، وقيمته العظيمة لدى المجتمعات المذكورة. بحيث تؤدي هذه الظروف القاسية، والأعراف إلى كوارث ونهايات مأساوية، التي تقع أحياناً بسبب خطأ حاصل، مثل إشاعة كاذبة خبيثة الغاية، أو تأويل غير صحيح أعمى لا يقبل النقاش، وسط هكذا بيئة منغلقة أحاديّة النظرة والموقف المتشنّج الصلب مع أنّ هذه العلاقة الإنسانية قد أقرّتها الأديان، والمجتمعات البشرية، والقوانين الوضعية. ففي قصة أبينا آدم وأمنا حواء وعلاقتهما خير دليل على هذا. فقد قال سبحانه وتعالى أنه خلق منْ أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها:
«وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (الروم 21).
إذن خلق الله الأزواج لنسكن إليها، ولتكون بيننا وبينهن مودةً ورحمةً. فقد خلق سبحانه وتعالى المرأة من ضلع آدم. وفي الحالة هذه هما من نفس واحدة، يكمل الواحد الآخر، ليواصل النوعُ الإنسانيُّ مسيرته الحياتية في هذا الكون، وبمشيئة إلهية، قال تعالى:
«يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَاحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا» (النساء 1 ).
وهذا الخلق من آياته العظيمة، فقد خلق الذكر والأنثى من نفس واحدة، لذا جاء الأمر باتقاء الله في صلة الأرحام. وفي هذا الباب جاء الحديث الشريف:
«مَنْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر ِفلا يؤذِ جارَهُ، واستوصوا بالنساءِ خيراً، فإنهنَّ خُلقْنَ مِنْ ضلعٍ… وإنْ أعوَّجَ شيءٌ في الضلعِ أعلاه ، فإنْ ذهبْتَ تُقيمُه كسرْتَهُ ، وإنْ تركتَهُ لم يزلْ أعوجَ ، فاستوصوا بالنساءِ خيراً «
وقد وردّ أيضاً في التوراة (العهد القديم) أنّ حواء خُلِقت من ضلع آدم، وقد جاء هذا في الإصحاح الثاني من كتاب التكوين الآيات 21/22 :
«21 فأوقعَ الربُّ الإلهُ آدمَ في نومٍ عميقٍ ، ثُمَّ تناولَ ضِلعاً مِنْ أضلاعِهِ وسَدَّ مكانَها باللَّحمِ ، 22 وعمِلَ مِنْ هَذِهِ الضِّلعِ امرأةً أحضرَها إلى آدمَ.»
لكنَّ هذا لا يعني التغاضي عن الانحراف والعِوَج والخطيئةِ والتمرُّدِ الأهوج، بل في محاولة التقويم بالحسنى ، وبالخير والعدل ، وحلّه حلّاً إنسانياً لا يغمط الحقوق، لا بالذهاب إلى أقصى غايات القسوة والظلم. وقد كرّرَ الرسولُ الأعظم وصيته بالنساء، وهو مِنْ بابِ التأكيد.
المنهجية الفنيّة في الرواية:
لقد اختار الروائيُّ مصطفى لغتيري قصة الرواية هذه من تجارب الواقع الاجتماعي السائد والمعاش، في البيئة التي يسيطر عليها قانون التقاليد العشائرية المتوارثة الشديدة الانغلاق؛ بفعل الظروف التي تخلقها هذه البيئة، وتفرضها عُرفاً لا يُحاد عنه، ليصبح مِنْ صميم العلاقات الفردية والمجتمعية قانوناً تُضفى عليه الشرعية والقدسية، بحيث يكون الخروج عنه، أو المساس به، كفراً وذنباً لا يُغتفَر إلا بالدم. وهنا نتحدّث – كما الرواية – عن عاطفة الحبّ خارج لوحة التلوّث والانزلاق عن السواء، والعراقيل التي تقف دون تحقيق غايته في الجمع الطبيعي بين المُحبَّينِ، وإيصال العلاقة إلى برّ الزواج. لكنْ حين تقف التقاليد التي مررْنا عليها حائلاً وسوراً حصيناً مانعاً، عندها ربما تقع العلاقة الإنسانية هذه بعاطفتها السامية النبيلة في منزلق الخطيئة، وهو ما نراه في هذه الرواية، والذي أوصلنا إليه السارد الروائيّ كنتيجة حاصلة لكلّ تلك الموانع؛ ليقول أنَّ هذه هي النتيجة منَ الجدار الحديدي الفاصل في جمع المحبين، عُرفاً كان أم صراعاً طبقياً. مع أنَّ الراوي أبرز لحظة الخطيئة على صورة العواطف المتأججة والرغبة الجنسية الطاغية التي تفلتُ كثيراً عن منطق التعقُّل والتحكُّم، وكأنّ لسان حاله يريد أن يقول: هي لحظة أوصلت إليه كلّ تلك العراقيل التي وقفت مخيفةً ثابتة متصلبة مانعة من جمع الرأسين بالحلال. فكلُّ هذه الموانع والأشواك والسكاكين الحادّة الصارمة الجاهزة للذبح هي الجانية الحقيقية والأكبر في خطيئة آدم وحواء إذا وقعت.
البطلة (شامة) ابنة العائلة ذات المقام الكبير في المدينة، صاحبة السمعة والشرف الرفيع، وقعت أسيرة حبّ الشاب الفقير (يوسف) السائق صاحب سيارة الحِمل القديمة، والمكافح منْ اجل لقمة العيش، المحبوب والمحترم لرفعة أخلاقه وسمعته وسيرته الحسنة، وثقة المحيطين به، وصديق أخيها عُمَر المقرّب، وهو الذي كانت العائلة تستعين به وبسيارته في أداء أعمال لها. والنقطة الوحيدة التي تؤخذ عليه هي أنه لم يكنْ من أبناء المدينة الأصلاء، إذ كان غريباً، جاء والده ليقيم فيها بين ظهراني أهلها، الذين أكرموهم، وعاملوهم بالحسنى، وباللطف والاحترام والمحبة، وهو مِنْ أثر ما كان يوسف وأهله يمتازون به من صفاتٍ كريمة.
إضافة إلى هذه الحكاية عن الأسباب الاجتماعية من أعراف وتقاليد والمكانة، والتي كانت وراء تهيُّب يوسف من التقدم للزواج من شامة، يأخذنا الروائي لغتيري إلى عنصر مانع آخر، لا يقلّ أهميةً وقسوةً في المنع والتحريم، وهي حالته الاقتصادية، والفارق الطبقي بينه وبينها، لذا لعبَ به حلمُ التفكير بالهجرة إلى الغرب؛ لتغيير مستواه الاقتصادي إلى الأفضل، من خلال العمل ليل نهار ليجمع مالاً ؛ كي يتمكّن من التقدّم لخطبتها، فلا يُرفَض منْ اهلها، مثلما هو حلم آلاف مؤلفة من شباب شمال أفريقيا. وهذا الفارق الطبقي الاقتصادي ولعبه دوراً كبيراً بارزاً مهماً أولياً في تقييم الأفراد والعائلات في هذه المجتمعات (مجتمعاتنا)، وعندما أراد الروائي أنْ يوصلَ إلينا هذه الفكرة والحالة، برزت شخصية أحد أبطال القصة الآخرين وهو (حسن): صاحب المال والجاه والسلطة، عضو المجلس البلدي ثم رئيسه، وهو سليل أغنى عوائل المدينة، والتي جمعت أموالها الطائلة من التجارة بالممنوعات قانوناً (التهريب والكيف) ، وهو الصديق الأقرب الى عمر شقيق شامة. حين تقدم للزواج منها قُبل دون تردد بل بفرح وابتهاج وفخر، وهو ما قاد الأحداث إلى نهايتها المأساوية المروعة.
تمرّ الأحداث في الرواية متسارعةً، تشدُّ أنفاس القارئ شدّاً مُحكَماً الى نهايتها المرسومة، التي يريد الروائيّ بها أنْ يقول الكثيرَ مما أسلفنا. وقد استعان بكلِّ ما يمتلك مِنْ تقنية الفنّ الروائي، والإمكانية اللغوية الغنية، والتحكّم بخيوط الحكاية وأحداثها وشخصياتها، وتشابكها جميعاً في سلسلة متواصلة بإحكام، بحيث لا يفلت منها خيطً خارج لعبة القصة، ووحدة عناصر الرواية، وحبكتها المُتقنة، وتسلسل الأحداث المترابطة موضوعياً بسلسلة واحدة، مصاغة بمهارة الفنان المقتدر، الواعي لما يكتب ، وما يهدف إليه، وما خطّط له مسبقاً. فكلُّ حدث متعلق بما قبله مرتبط بوشيجة غير مفككة، وناتج عنه، ومُسبّب لما بعده، دون تفكّك أو نشاز، أو علّة غير منطقية لا رابط بينها وبين ما قبلها وما بعدها. الأحداث قلادة حكائية، خِرزُها تشكيلً معقودً بحذاقة ومهارةٍ وإحكام وتحكُّم، متساوية في الحجم والشكل والبريق، بحيث تخطفُ أبصار الناظرين وتثير دهشتهم وإعجابهم.
أحداث الرواية واقعية منطقية في تركيبها، وتعاقبها سبباً ونتيجةً، ليوصلها الروائي الى نهايتها المتوقّعة الطبيعية في هكذا بيئة دارت فيها، خارج ما يتمناه أو يتوقعه المتلقي. بمعنى النهاية المفاجئة والصدمة؛ لبيان بشاعة ما جرى، ويجري في هذه الواقع الذي نعيشه ونحياه.
لم يعمل لغتيري في روايته على مماطلة وتطويل وفضفضة وتشتيت الأحداث والشخصيات، من خلال متابعة شخصيات لا علاقة موضوعية منطقية لها مع الحدث الرئيس وقصته، وإضافة فصول أخرى، بحيث تكون الحوادث والمواقف لا رابط بينها، فلا تعتمد القصة على تسلسل الحوادث، وهذا ما نسميه في الفنَ القصصي (القصة ذات الحبكة/ العقدة المُفككة)، لكنّه اتجه في كتابته الى (الحبكة المتماسكة) وهي القصة التي تكون حوادثها مترابطة، يأخذ بعضها برباط بعض، وتمضي في نسق واحد، وخط مستقيم حتى تبلغ نهايتها. وهو ما نلقاه في روايتنا المقروءة هذه (حسناء ايمزورن) لأديبنا المبدع مصطفى لغتيري.
وبما أنّ الكاتب سلك في روايته هذه سبيلَ القصة ذات الحبكة المتماسكة، ورمى أنْ تكون الأحداث مترابطة متلاحمة تدور في بيئة واحدة موحَّدة الظروف الاجتماعية والتقاليد والأعراف السائدة والماسكة بخناق الجميع، لا محيد عنها ولا مهرب، خطّط أن تكون رواية قصيرة متماسكة (100 صفحة)، تدور في بيئة واحدة، وقصة واحدة، وأحداث تدور حولها وحول شخصياتها التي لها علاقة وطيدة فيما بينها، وبأحداثها وحيثياتها، وأسبابها ونتائجها. وهو ما اقتضى منه التركيز على ذلك، والتكثيف في سرد الوقائع، لا التطويل المُهَلهَل الفضفاض غير المعقول وغير المُقنِع، وعدم الانشطار فيها والتقسيم، والخروج عن سيرها وتسلسلها المنطقي المترابط سبباً ونتيجةً، فكان أنْ قادها الكاتبُ بوعيّ وفنٍّ ومنطقٍ الى خاتمتها.
وكما هو المعهود والمطلوب والمفروض في مثل هذه القصص والحكايات المستوحاة من الواقع، أنْ يعمد الكاتب إلى الإثارة والشدّ في الأحداث، والارتقاء بها إلى قمة الحدث وعقدته، لشدّ أعصاب المتلقي ولهفته وتفاعله لمواصلة متابعة القصة حتى نهايتها، من خلال ذلك، ومن خلال تلاحم البداية/ العرض، والوسط/العقدة، والنهاية/الخاتمة، وهو ما يربط بين العناصر هذه ثلاثتها في خطٍّ مستقيم متواصل في سير القصة (الحكاية) حتى خاتمتها. وهو ما أجاد فيه مصطفى لغتيري في روايته، مستنداً إلى تاريخه الإبداعي الزاخر بالعطاء الأدبي، وتجربته الثرية في فنّ القصة بأجناسها المتعددة.
* (ناقد عراقي)