البلاغة في حداد

لم يكن الدكتور الحسين بنو هاشم مجرد باحث في البلاغة فقط، بل كان شاهدا عن آلام وآمال طبعت تاريخ جيله حيث انهيار المعنى في المعرفة كما في الحياة، ومقاوما ضد اختزال الخطاب بكل أنواعه إلى زخرفة مصطنعة وإن ادعى العلمية، ومجددا في الحجاج لا بوصفه جدلا، بل قيما مستعادة، ومبادئ تقاوم، ومشروعا جماعيا حلم به جيل بأكمله :أن تكون الدولة حقا، وأن تكون الديمقراطية فعلا، وأن تكون العدالة الاجتماعية الضمير الجمعي المحتكم إليه.
لقد فهم د. الحسين بنو هاشم أن البلاغة كالسياسة والفن ..ليست حيادية، وأن الحجاج ليس مجرد لعبة إتقان لغوي أو مجرد صناعة تمتلك آلياتها بل هو تموقع أخلاقي وموقف من العالم ومعركة ضد تواطؤ الخطاب في هيمنته أو تبعيته ، وضد التجميل بل ضد كل خطاب يخفي القهر خلف المنطق أو يؤسس لآخر يمنح للامعنى المعتم شرعية التأسيس.
في ترجمته لـ»الإمبراطورية الخطابية « لم يكن ينقل مفاهيم بيرلمان بل كان يعيد بناءها من موقع المثقف والمترجم والمفكر لأبعاد الترجمة في علاقتها بمشروع ثقافي وعلمي مطابق لرؤيته الفلسفية في البحث الأكاديمي، وفي النضال الذي أرغم عليه وهو يفكر في دلالات الاختفاء القسري والاعتقال السياسي …وفي كل الخطابات ذات العلاقة.
كان يعيد بناءها من موقع الباحث الاكاديمي الذي يرى في اللغة أداة للتحرير، وفي الترجمة فعلا سياسيا مؤسسا للانفتاح وللتلاقح والحوار، وفي البلاغة حجاجا قيميا ..كان مشروعه الاكاديمي امتدادا لنضاله، لا يفصل بين قاعة الدرس وساحة الاحتجاج، ولا بين المفاهيم البلاغية والمطالب الاجتماعية، كل مصطلح عنده كان يقتضي سبر أغوار الذاكرة، وكل تحليل كان فضحا لبنية الإقصاء وعنف سلطة الخطاب في خطاب أية سلطة، كانت سياسية أو دينية أو « تداولية»..وكأنه يعيد الاعتبار لكل ما له علاقة بفلسفة الحق حين يقصى هذا الأخير من اللغة.
أسمح لنفسي في رثاء حالة الصدمة أن أقول إن الفقيد سي الحسين بنو هاشم لم يؤمن بالحجاج القيمي – لأن الأمر لا يتعلق فقط بترجمة إبداعية تحسب له أو انبهارا بفيلسوف صاحبه طيلة دراسته الجامعية – بل آمن به كأفق للأنوار لا تأتي بالضرورة من الغرب ولا من الماضي ، وإن كان في صلب حقل دراسته، بل من كل فعل يعيد للإنسان كرامته وللخطاب وضوحه وصدقه وللعدالة معناها.
كان سي الحسين شبيبيا في روحه، حقوقيا في لغته، فلسفيا في مقارباته، يرى في الديمقراطية أملا يستدعي إعادة صياغة اللغة وماهية الخطاب بتفكيك البلاغة السلطوية وإعادة بناء الحجاج من موقع الملتزم الأنواري، تنظيرا وممارسة.
أيها الراحل، عفوك إن حشدت كل هذه الكلمات في خطاب قد تعتبره قسري البناء، عذري أنك كنت كل هذا طيلة أطوار حياتك وأن رثائي لك كان من أثر لقائنا الاخير حين فاجأتني بقدومك النبيل أثناء مشاركتي في الدورة الثالثة للقصة القصيرة بطنجة ، أكتوبر الماضي، كأنك كنت تحدس لأن اللقاء سيكون الاخي، وأن الوعود الذي تبادلناها ستظل معلقة كأفكار تنتظر من يواصلها، كمشروع ترجمات، كدولة حلمنا بها لم تتحقق بعد لكنها كتبت فينا بأثر حبر الماضي المشترك.
روحك أيها الراحل عنا في غفلة منا مستمرة لا محالة في كل من آمن من رفاق مشروعك الفكري والثقافي أن البلاغة يمكن أن تكون رهانا، وأن الحجاج يمكن أن يضيء، وأن الانوار ليست حلما ماضويا بل وعدا ثاويا فينا كما في كل نص وفي كل فعل وفي كل حلم لم ينجز بعد؛
أيها الراحل
لترقد روحك في سلام
أنت الحلم وأنت الأنوار.


الكاتب : المصطفى سكم

  

بتاريخ : 11/09/2025