«البيست سيلر»

 

أحتاط دائما من الكتب الأكثر لمعانا. الكتب البيست سيلر. تلك التي تقضي معظم وقتها في صالونات الحلاقة والتجميل، تمشط شعرها وتحلق ذقنها وتشفط شحمها وتتخلص من الشعر الزائد.. وقد تتزين بالأوشام والبيرسينغ، لأنها مقتنعة أن الشمس قدرها، وأن ما يتوجب عليها القيام به هو التأنق والبقاء على استعداد تام لأي تتويج محتمل.
هذا النوع من الكتب الخاضع للحمية لا يناسب مزاجي، ولا يلبي حاجياتي الثقافية والمعرفية ما دام يتغذى على «الشيبس» و»الكونفليكس» والفاكهة الإيكزوتيكية وحساء الذرة.
هذا النوع من الكتب لا يُصفي حسابه مع نفسه فقط، بل يراقبها جيدا بالتمرن في مراكز الفيتنس، ويتحكم في وزنها حتى لا يغوص في الزحام مثلي.
لا تعجبني «الكتب المانيكان». الكتب المخفورة بمقاس 38، التي تتعامل مع القارئ كبوديوم محاصر بالكاميرات والأضواء وصرخات الإعجاب والأفواه الفاغرة. ما أتحيز له، وأتأهب، هو الكتب المكتنزة التي تغرقني في «شواكلها» وتجعلني أصطرع بفرح على ظهر كثبانها. وبالقدر نفسه، تفتنني الكتب الهزيلة، البارزة العظام، تلك التي تجعلني وجها لوجه مع رائحة المرض والأفكار السيئة. الكتب التي تتوفر على انحناءات وتقعيرات ونتوءات واستدارات تتفق مع المفهوم العميق للانحراف.
هناك كتب عميقة لا أحد يلتفت إليها، لأنها اختارت أن تمشي عارية خارج السياق. وهناك كتب أخرى يكتبها الفهلويون الذين يجيدون رصف الكلام على عواهنه، كما يجيدون تسخير الأبواق للقضاء على ذكاء القراء.
هناك كتب يتعذب بها أصحابها، وهناك كتب أخرى تؤهل أصحابها للانخراط في السلك الديبلوماسي. كتب علاقات عامة، تكتب بوصفات جاهزة، وبتوابل قوية، لتصل إلى أكبر عدد من الناس. والسر هو الإبقاء على حالة من المرح القسري، والبحث بشكل مستدام عن الشاذ والغريب، واستنساخ الأحداث والعوالم والحبكات، وترجمة البعيد عن الاختبار.
لقد نسي الباحثون عن الكتب « النقية» و»الكاملة» أن الجرح هو حقيقة الكتابة، وأن «الجمال» لا تصنعه الأفكار الطيبة، بل أحيانا تصنعه «دور النشر» التي تهزأ دون تردد بالفن، إذا كان الثمن هو كسب مؤيدين وقراء جدد. ويكفي أن نلقي نظرة ثاقبة على تاريخ الأدب لنتأكد بما لا يدع مجالا للارتياب أن دور نشر عالمية كثيرة رفضت إصدار أعمال أدبية فارقة، ولولا وجود محررين آمنوا بها وأصروا على ذلك وغامروا بسمعتهم ووظيفتهم ما كنا لنسمع عنها شيئا، مثل «أمير الذباب» لوليام غولدينغ، و»حارس حقل الشوفان» لجي. دي. سالنجر، و»مزرعة الحيوانات» لجورج أورويل، و»لوليتا» لنابوكوف، و»وادي الدمى»’ لجاكلين سوزان.. وغيرها.
إن ما يصنع الكتب ليس هو المزاج العام أو الوصفات الجاهزة أو السياسات التسويقية. هذا هو التوجه الذي ينتقده بقوة شديدة وبسخرية لاذعة كتاب «عزيزي الكاتب» لريكاردو بوزي الذي قدم لنا رسائل متخيلة ساخرة من دور نشر رفضت أعمالاً خالدة. رسائل تعلل هذا الرفض وتقترح الحلول وتدابير الوصول إلى «الجودة». نعم ثمة قوة في حجة الناشرين: البحث عن الربح. غير أن الاحتكام إلى المنطق التجاري هو سلوك متقن للقضاء على الفكر والأدب.
هناك دائما فرق بين الكتب التي تُفرغ أحشاءها علينا بقدر كبير من التلاعب، فنقابلنا نحن بأحضان مفتوحة، وندعو الجميع إلى الاستمتاع بها. وهناك كتب أخرى مستعصية وشديدة الصرامة، لا تمنح نفسها بمنتهى السهولة؛ وفي أقصى الحالات تدخلك في اشتباك مع قناعاتك، ومع كل ما تعودت عليه. الكتب التي لا يمكن قراءتها دفعة واحدة، لأنها تجبرك على التباطؤ، والبحث عن أسرارها الكامنة في الشقوق والصدوع والحفر. لا يمكنك أن تقرأ هذا النوع من الكتب إلا بحذر. دوّامات عنيفة ومعارك كثيرة بانتظارك. لا يمكن التنبؤ بمزاجها أو تبدلاتها، ولا بأي منقلب ستقودك إليه. لا تبيع سرها بسهولة، وقد تستدرجك بإشارات غامضة إلى ثقل غيومها. ستفرض عليك هذه الكتب، إن أحبتك، أن تمطر، وأن يصبح مزاجك القرائي بسرعة الريح واتجاهاتها.
هناك كتب ملعونة أنجبها بإصرار وجودُنا الرث وسمح لها بأن بالحصول على أقلية ضئيلة من القراء، تتضاءل باستمرار؛ وهناك كتب ستلعن أصحابها، لأنها ستدرك، مع الوقت، أن ليس بإمكانها التألق على الدوام، وأن يوما واحدا من الوقوف تحت الشمس سيفقدها وزنها وتبرجها. هذه ليست حياتها، ولهذا تعرف أن قدرا كافيا من الندم سيتجمع داخلها كلما تقدمت في العمر.
أيا كان الأمر، لا يمكننا أن نتصور اندلاع معارك ضارية أو دموية بين هذه الكتب وتلك. الطموح مختلف والأفق ليس واحدا؛ فبقدر ما تسعى الكتب المتأنقة إلى الحصول على المزيد من الأتباع، وتتمكن من ذلك في أغلب الأحوال حد الاستنزاف، أي حتى لا يتبقى منها شيء، تكتفي الكتب الملعونة بتطوير تعقيداتها دون القيام بأي تمييز بين قرائها. إنها تتطور بهم ويتطورون بها. الكل متساو، ولا أحد يجبر الآخر على انتظاره أو قول شيء ما. ما يميز هذه الكتب بالفعل، كما أتخيل، هو أنك لا تستطيع أن تتوقع أنها قادرة على الامتلاء بأفكار جديدة كل يوم، وأنها عصية على التآكل. وبمعنى من المعاني إنها كتب ابتكرت نظاما وجوديا غير قابل للتفسخ بفضل كل القراء الذين يصبحون، على مدار الزمن، موردا حيويا أساسيا يغني هذه الكتب ويؤمن لها الطاقة للعبور المفتوح.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 11/03/2024