التاريخ الديني للجنوب المغربي سبيل لكتابة التاريخ المغربي من أسفل 16- الصراع الداخلي في زاوية المعدر يفضي إلى تأسيس الزاوية الإلغية الدرقاوية (2/2)

تسعى هذه المقالات التاريخية إلى تقريب القارئ من بعض قضايا التاريخ الجهوي لسوس التي ظلت مهمشة في تاريخنا الشمولي، وهي مواضيع لم تلفت عناية الباحثين فقفزوا عليها إما لندرة الوثائق أو لحساسياتها أو لصعوبة الخوض فيها. ومن جهة أخرى فإن اختيارنا لموضوع التاريخ الديني للجنوب المغربي راجع بالأساس إلى أهميته في إعادة كتابة تاريخ المغرب من أسفل وهو مطلب من مطالب التاريخ الجديد الذي قطع أشواطا كبيرة في فرنسا.

 

ظهرت قوة “علي الالغي” الروحية وغزارة رأسماله الرمزي بعد موت شيخه “سعيد بن همو المعدري” سنة 1882م، ورغم انتقال الولاية إلى شخص آخر ، هو زميله “الحسن التامودزتي” الذي اختلف معه في بعض الركائز المنظمة للطريقة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ومهما قيل عن هذه الفترة الحرجة من تاريخ الصراع الداخلي الدرقاوي بسوس، فإن الأمر لا يعدو أن يكون متعلقا برغبة الشيخ في تأسيس زاوية خاصة به وبعيدا عن أي تبعية لخليفة الشيخ المعدري. وقد برر المختار السوسي القطيعة التي حدثت بين أبيه والتامودزتي، بالصفعة التي تلقاها الإلغي من مريد مقرب لزميله التاموديزتي حينما كانوا في حضرة الإنشاد الديني، حيث أن عليا كان مواليا لطقس ديني يسمى “أمعرا” (المراكشي إبن المؤقت، الرحلة المراكشية، دار المعرفة، ثلاثة أجزاء، الجزء الأول، ص : 159. نقلا عن الجيلالي العدناني، مرجع سابق)الذي يمارس بإمساك درقاوة يدا بيد، وهو تقليد عند درقاوة المغرب وهذا ما لم يستسغه التامودزتي واعتبره بمثابة تجديد في الطريقة، مما يجعلنا نتساءل، هل تصرف الإلغي كان تلميحا لبداية الانفصال عن التامودزتي ووضع قطيعة معه؟ أو ذريعة لإعلان قيام زاويته بإلغ دوكادير؟ مهما كان الجواب فإن الدرقاوية في سوس ستشهد تنافسا كبيرا لن يكون مجانيا بين القطبين التامودزتي و الإلغي، حيث انعكس خصامهما إيجابا على المسار الادبي للطريقة وذلك بإنتاجهما لمؤلفات و إنتاجات أدبية و فقهية للتعريف بالطريقةولاكتساب المشروعية الدينية من جهة أخرى. ولعل رسالة “عقد الجمان” التي ألفها الإلغي سنة(1305هـ )دليل على هذا التنافس الصوفي الحاد. هذا فضلا عن مجموع الرسائل التي بعثها الشيخ إلى مريديه من عامة وخاصة المجتمع المغربي، وترجمته للربع الأول من مجموع الشيخ الأمير المصري إلى الامازيغية (نشر سنة1986 في 600 صفحة، انظر الجيلالي كريم، مدرسة سوس في التصوف الدرقاوي…مرجع سابق،ج1،ص،222.الهامش74.)، والتي كانت تعبر عن خطاب صوفي غير عادي، اعتبر بمثابة آداب صوفية ما تزال إلى يومنا هذا وازنة في الحقلين الديني والأدبي. كما أن المريدون دخلوا بدورهم دوامة هذا التنافس وألفوا بلسانهم الأمازيغي ما أبهروا به تلامذة ومريدي التامودزتي. فبالنسبة لعلي الدرقاوي فقد ترجم كتاب “الأمير” المتطرق للأحكام القضائية و”الحكم العطائية” للمتصوف إبن عطاء الله (Eladnani (J), op,cit,p:71)، أما التاموديزتي فلم يبق مكتوف الأيدي بل بادر هو الآخر إلى مماثلة ما قام به غريمه الإلغي فترجم كتاب “تعليق الحوض” لمؤلفه “أزناك السوسي” (السوسي محمد المختار، سوس العالمة، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر بنميد، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1984/1404. ص،204. نقلا عن الأستاذ العدناني الجيلالي، م.س، ص:71.). والجدير بالذكر أن العدوى انتقلت في فترات لاحقة إلى المدارس العتيقة، هكذا اشتد التنافس بين المدرستين التيمكديشتية والإلغية فكان نتيجة لهذا التنافس -الذي تحول إلى صراع فيما بعد بين رؤساء المدرستين- إنتاج زخم كبير لا يحصى من المؤلفات حيث ناظر وجابه بها كل طرف الطرف الآخر (السعيدي المهدي، المدارس العتيقة وإشعاعها الأدبي والعلمي بالمغرب، المدرسة الإلغية بسوس نموذجا، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،مطبعة فضالة المحمدية،الطبعة الأولى ،1427هـ -2006م.ص: 166.) المعادي له.
لقد كان لتأليفات وترجميات الإلغي والتامودزتي والتنافس الحاد الذي نتج عنهما دور كبير في تطوير الدرقاوية في سوس وإعطائها نكهة خاصة بها مقارنة مع الدرقاوية في شمال وشرق البلاد، إذ لا يخفى على أحد أن المختار السوسي جمع زخما كبيرا من المادة التاريخية والتي لا تزال منذ وفاته إلى يومنا هذا مادة خام في حاجة إلى تنقيتها من الشوائب والترصد لها بالتحليل والدراسة الهادفتين. إن الملاحظة التي نسجلها على الرجل أن كل هذه المؤلفات تدافع عن إثبات ولاية أبيه وإسقاطها عن غريمه التامودزتي، ومع ذلك نجد السوسي يغفل النقد اللاذع الذي وجهه المؤرخ الإكراري لكل من التامودزتي والإلغي، حيث اعتبر تركهما لشيخهما، العربي الادوزي الناصري الطريقة-عالم المنطقة-، واستبداله بآخر أمي هو سعيد بن همو المعدري، وصمة عار على سوس. أما هذه المشاحنات فهي لم تنج الدرقاوية كطريقة بديلة من انتقادات انتهت بتصنيف الطريقة في خانة الطرق المبتدعة، لكن الأمر لم يكن كذلك لأن التجانية هي الأخرى لم تنجو من رماح الناصرية الثاقبة. فالناصرية كطريقة قديمة وأصيلة بالمنطقة لم يعد دورها كما كان في السابق، وبالضبط لما ارتمت في أحضان المخزن ومثلته أحسن تمثيل في المنطقة. هذا الفراغ الروحي الذي تركته الناصرية في نفوس المعتنقين لها جعل الطريقتين الحديثتي العهد تملآنه، وقد تم التشهير بالدرقاوية على أنها طريقة مبتدعة في المواسم الكبرى، ويعزز السوسي ذلك بقوله ناقلا كلامه عن الراوي سيدي بلعيد أحد مريدي الشيخ علي بن أحمد الدرقاوي:”… فوصلنا أدوز من متوع النهار فصادفنا فيه العابد الذاكر. مقدم الطريقة الناصرية الأكبر سيدي الحاج محمد أبراغ وسيدي محمد بن عمر، والفقيه البعقيلي والفقيه أحمد دعكير المعدري وهو الذي يحمل دائما راية الإنكار على الطريقة الدرقاوية، وهو الذي كان يتولى النداء في المواسم بأن العلماء يقولون لكم أيها الناس إن الدرقاويين مبتدعون” (السوسي محمد المختار، من أفواه الرجال، الجزء الثالث، المطبعة المهدية،1383/1968، تطوان، ص:18.). لهذه الأسباب سنحاول أن ننتقل إلى نقطة من شأنها أن تفسر لنا سبب نجاح الفكر الدرقاوي مع الحاج علي الدرقاوي الإلغي وإخفاقه مع آخرين، فمن هو الحاج علي الإلغي الدرقاوي؟


الكاتب : ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 13/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *