التاريخ السري للسقوط .. هوامش حول «مرستان الأقنعة» لأنس الرافعي

مارستان الوجوه/ ركح الأقنعة، تغادر الأقنعة احتفاليتها الشامانية الكرنفالية، لتتماهى وأعطاب الوجود. عند بداية القرن التاسع وفي مستشفى الأمراض العقلية شارونتون، قالت باحثة فرنسية في كتاب لها بأن المجانين كانوا يضعون فوق رؤوسهم القبعة الثلاثية مثل قبعة نابليون، وفي قمة جنونه كتب نيتشه في رسالة لكوزيما فاجنر: [كل أسماء التاريخ أنا]. نتذكر أيضا قناع زعيم قلعة ألموت الذي أسس جماعة قتلة انتحاريين، جماعة الحشاشين حسن بن الصباح الذي كان يخطب في أتباعه واضعا على وجهه قناعا من الذهب، الأتباع كانوا يطلبون منه إزالته لرؤية وجهه وكان يخبرهم بأنهم لن يتحملوا نوره، حين أزالوا قناعه عنوة أثناء تمردهم عليه وقتله، تبين بأنه كان يضع القناع لإخفاء وجهه المريض بالجذري. احتفالية الأقنعة لا تلغي مأساويتها، هذا ما توحى به الماكنة السردية الجديدة التي صنعها السارد الشاماني والخرائطي بامتياز أنيس الرافعي بعنوان «مارستان الأقنعة – تاريخ سردي موجز لإعادة اختراع البهلوان». هناك اشتغال على ابتكار البهلوان مجددا في زمن يعرف هيمنة [الكثير من البهلوانيين اللئام، لكن من دون تمتعهم بمناقب البهلنة الشريفة، وخصالها النبيلة. إنه بامتياز زمن البهلوانيين من دون بهلنة] (106). منذ البداية يتموقع أنيس الرافعي إزاء البهلوانيين البشعين المزيفين، ضد هؤلاء ومع بهلوانيين نزهاء ونبلاء، أولئك الذين رسم بورتريهاتهم رسامون هامون وكتب عنهم كتاب مبدعون مثل جان جوني، وهنا بالتالي نعثر على تفسير لعنوان هذه الماكنة السردية الجديدة، [مارستان الأقنعة] كما لو أنه يتبنى قول النفري في [موقف الاختيار]: [أوقفني في الاختيار وقال لي كلهم مرضى]. الأمر يتعلق بمارستان يأوى أعطاب الوجود، يتوجد داخله اللئام والنبلاء، لكل بهلوان بهلنته. الأقنعة تخفي الفراغ. من يرتدي قناعا يفقد جوهر وجها نيته visagéité تماما. أتباع حسن بن الصباح اكتشفوا بعد التمرد على زعيمهم وإزالة قناعه، وجها فككه الجذري ومحاه، اكتشفوا غياب الوجه. كل شيء عند أنيس الرافعي يبدو بسيطا عاديا كما الحياة اليومية. الدهشة تأتي من هذه التفاصيل اليومية المألوفة مثل شراء حقيبة جلدية من مهاجرين مغاربة يبيعونها في سوق أسبوعي قروي في الضواحي. لكن الحقيبة ليست حقيبة بل عالم مديني بأكمله بساكنته، مبانيه، إداراته وحيواته المتناسلة، مدينة كل ساكنتها في البهلوانات التي هي عبارة عن دمى متحركة، هكذا يبدأ اللعب الوجودي والخرائطي، لعب بقطع ليغو خادعة، تفاقمت أعداد القطع ومعها البهلوانات، ساحت المدينة، كما يحدث مع الأحياء والتجزئات في الضواحي العشوائية، وهو التوسع الذي يسهر عليه حيتان العقار، مدينة بأكملها آهلة بالمهرجين، مدينة احتلت شقة، يسميه أنيس الرافعي، اجتياح [ارتعت من استفحال هذا الاجتياح، الذي لا تحمد عقباه، فعكفت، طيلة ساعات مجهدة، على دس وإضمار معمار المدينة وساكنيها المزعجين في باطن الحقيبة]. (17). ساحت الملكية الخاصة خارج حدود الشقة، المدينة المفترضة المكونة من مجسمات مهرجين صارت شعبا من المهرجين، يهتفون باسم بطل القصة، صار له شعبه فهو في نهاية المطاف صاحب هذه المدينة، مالك مصيرها، والمتحكم في رقاب سعب المهرجين، وكما في ماكينات أنيس الرافعي السردية الخلاقة تحضر تقاطعات ثقافية عالمة (بكسر اللام) وكونية فالأقنعة شبيهة بتلك التي تستعمل في مسرح النو الياباني وهو مسرحهم تجريدي، تأملي يشير مثل عراف معبد دلف Delphes أكثر مما يقول، اختلط الأحياء بالموتى، ضمن منظومة من التغيرات الجهنمية. وكأننا نخلق الماكنات الكارثية التي تسحقنا وسرعان ما انذغمت تلك المخلوقات في سيرورة سادية عنيفة، في التوحش والقتل، الموتى يقتلون وسرعان ما يعودون كشخصيات «المانغا» اليابانية إلى الحياة. لا أحد يموت نهائيا. لم يجد بطل الحكاية في النهاية غير الحقيبة الجلدية التي ضمت سلفا مجسمات المهرجين ليختبئ فيها، وحين فتح عينيه بعد عبور نفق عتمة حالكة ألفي نفسه، كما بطل فيلم (Scarface) تحت الأضواء الصارخة لغرفة عمليات، لقد صار جزءا من كائنات الحقيبة التي اشتراها. الكون السردي هنا عموماً كأنه صيغة مصغرة لما يحدث هنا / الآن في العالم، المهرجون والمهرجات الذين تخلفهم ماكينات سياسية دولتيه بارانوية هم أنفسهم من يفترسونها حين يبلغون درجة قصوى من الدموية والهمجية والتوحش. يلزم أيضا التذكير بأن حلم إنسان ما بعد الحداثة وما بعد – الحقيقة هو أن يصير جزءا من منظومة اللوغاريتمات التي ابتكرها والتي تحاصره الآن، توجه حياته وتتحكم فيها. أي يصير الإنسان – الماكنة الذي تتدلى منه [أسلاك كهربائية عارية]. 19. هنا بالذات تبرز وتتجسد فرادة وتميز أنيس الرافعي سرديا، وذلك في الانطلاق من وضعية سردية عادية ومحلية شراء حقيبة من سوق قروي لخلق تواشجات وتقاطعات مع مسائل وهموم كونية. ما ينطرح هنا هو التساؤل عن العنوان [حقيبة الأبدية]، هل هي أبدية الاقتتال والموت وسلطة المهرجين، داخل الحقيبة – العالم؟ ينكتب نوع من الرعب داخل هذا السرد الماكني [لأننا في الحقيقة نجابه ماكنة الحقيبة] ولكنه رعب مفكر، معقلن مثل ذاك الذي نجده في أفلام هتشكوك أو في أفلام ديفيد كرونبيرغ. يأتي الاختفاء في ورق تغليف مليء بصور البهلونات التي غادرته للرقص في الشقة. داخل ورق التغليف تعاش التحولات والحيوات، داخل الجدار وبعد الاختفاء المبهم للشخصية الرئيسة عادت الزوجة الرديئة للاستقرار في الشقة، [فكانت تقف كل يوم أمام ورق التغليف، راسمة على شفتيها ابتسامة هازئة تسطع بالضغينة القاتمة لتجاهي، كما لو كنت قربانها الطوطمي … أو خطيئتها الأصلية … ترنو طويلا إلى الجدار، ترنو تماما مثل ذئبة مسحورة، بآذان منتصبة وأسنان حادة تسيل بلعاب مهتاج، ثم تبدأ في افتراسي].29. المرأة / الذئبة تـــحقق بــــرنامج هوبز (الإنسان ذئـــب لأخيه الإنسان). طـــالت الصيرورة حـيوان le devenir onimal والزوجة – الذئبة… أتخيل أحيانا بأن أنيس الرافعي يكتب سردياته هذه عند منتصف الليل، الساعة الحاسمة حيث تحدث التحولات والصيرورات الكبرى، يكتبها entre chiens et loups كما قال دولوز، سرد شامانى جدير بأن يكون دون خوان أو كارلوس كاستانيدا بطله. مؤكد أن الرافعي يحلق عاليا في سماء السرد مثل نسر في أعالي التراهومارا… من حقيبة الأبدية، بهلوانات بوتيرو إلى متحف السيمولاكر أي داخل ثيمة أفلاطونية محضة مرتبطة بمسالة السيمولاكر. يعرفونه بأنه ما لا يمتلك سوى مظهر (أي ما يدعي أنه هو وأنه كينونته). السيمولاكر، النسخة الزائفة التي تروم/ تدعي تعويض الأصل وترتبط بأسطورة الكهف الأفلاطوني، لكن الأمر هنا يتعلق بمتحف السيمولاكر الوطني، القصد من دعوة المواطنين لإرسال إحدى صورهم الشخصية، هو منحهم [فرصة التعرف على سلسلة محاكاة مصطنعة وزائفة لصور وجوههم الحقيقية، على أساس اختلاق نسخ جيدة منها وغير متشابهة الغايات جمالية محضة] (36)، حين قرأت هذا استدعيت اشتغال الرسام الإنجليزي فرانسيس بيكون على الوجوه والبورتريهات الشخصية التي يقوم بتفكيكها، تحويلها إلى شظايا مركبة متجاورة، استحضرت أيضاً وجوه بيكاسو التكعيبية، وخصوصا وجوه وبورتريهات أندي وارول Andy warhol مبتكر البوب آرت Pap Art فــــي ستينيات القــــرن الماضي في الـفــن التشكيلي، الروك مع فرقة The velvet underground، ومطربها -الظاهرة Lou Reed، تذكرت خصوصا وجوه مارلين مونرو المتعددة / المتناسلة التي رسمها. سافر بطل الحكاية للرباط، ولج المتحف المليء بكائنات غرائية. [تلك البهلوانات لا نهائية العدد]37، ليلقي نفسه داخل الأسطورة الأفلاطونية، الأشباح العالقة على جدران الكهف ظلال مرعبة مشوهة يرسمها الضوء، يكتشف البهلوان، النسخة البشعة التي يصيرها الإنسان حين يتجسدن مطولا في تاريخ من النذالة والقبح، حين يصير السيمولاكر بكل زيفه وبشاعته هو جوهره الأصل، تعوض النسخة الأصل. صيدلية أفلاطون احتوت ما يسمى الفارماكون الذي هو الداء والترياق، وبالتالي سيكتشف بطل الحكاية بهلوانيته التي هي منه الأصل، الكهف عالم الكهف هو العالم، الوجوه معلقة على جدران عالم افتراضي في مخزن يليق بأن يكون داخل جحيم دانتي، مخزن الوجوه البديلة، هذا لأن الوجه ليس حقيقة ثابتة، لا علاقة للوجه بالحقيقة، ما هو زائف فيه هو حقيقته وأصله، البعض قد يعثر على وجه يخفى فراغه والبعض الآخر لا يعثر على وجه بديل، يظل سجينا [داخل خواء الأبدية]،40، كأن يوما ما آخر سينضاف إليها من داخل روزنامة الزمن السديمي. تلك في العمق حكايتنا، أسطورتنا الما بعد – حداثية في الزمن الافتراضي الذي تحتشد فيه الوجوه – السيمولاكرات. في ماكينات أنيس الرافعي السردية قد يسقط بهلوان ضخم بحجم عمارة على منطقة جبلية أصابها للتو زلزال مدمر. سقط البهلوان كما تسقط عمارة ضخمة. تقاطرت كائنات كثيرة على مكان سقوط البهلوان المارد، العديد من المشاهير لأخذ سيلفيات، وهناك لابد أن تتذكر المئات من الكائنات العالقة بالشبكة العنكبوتية، أشباه الصحافيين والمناضلين وفقهاء الجماعات الدينية الذين تساقطوا من كل حدب وصوب على منطقة زلزال حوز مراكش لأخذ سيلفيات مع الضحايا، تحول البهلوان الذي سقط إلى نوع من اللعنة التي تم تعميدها وصارت مدرة للبركة، أصبح البهلوان ضريحا، وحين أوشك على الاستيقاظ من هجعته والعودة إلى الحياة، قرر «أصحاب الوقت» أن تختفي الأسطورة، أن يموت البهلوان نهائيا بعد قتله ورتق جراحه المميتة .. [لقد اطمأنوا، أخيرا، بأنه لن يفيق على الإطلاق من غيبوبته الأزلية، وتيقنوا إلى الأبد من ديمومة وهمه العظيم]،46. سرد أنيس الرافعي قد يبدو للبعض تجريبيا أو عجائبيا، لكنه ليس كذلك، إنه واقعي، سرد ملموس ليس في انطلاقه من أوضاع وأمكنة ومواقف مرتبطة بالحياة اليومية فقط، بل يمكن اعتباره قراءة / قراءات مغايرة للواقع، تفكيك له بأدواته، لأن القول هكذا بأن الرافعي سارد «تجريبي» يعني في نهاية المطاف وضع عنوان جاهز لاشتغاله السردي، اشتغاله كسارد يبتكر كل مرة أدوات لقراءة الواقع هنا / الآن، وهنا يلزم التذكير بكافكا واستحضاره، الذي اشتغل سرديا على ماكينات قد تبدو تجريبية عجائبية وغرائبية، ولكنها، كما يقول دارسوه ومؤولوه الكبار، اشتغال يدخل في صلب القراءة الملموسة للواقع الملموس، هكذا تتخلق سرديات البركة عنوة بمباركة السلطة [أصبح موضع خسفة البهلوان العملاق المنكوب محجا للمفتنين بنزعة مشاهدة الجماليات المكشوفة والاستعراضية للموت، يدر أموالا طائلة على المنتفعين بهذا المهرجان الفرجوي القائم في الهواء الطلق، على مرأى من دوريات قوات الدرك، التي ألفت أن تصلها الإكراميات السخية المخصصة، وعلى مسمع من الهيئات الإدارية والبلدية، التي استمرأت الأرباح التي تفجرت مثل ينابيع فياضة في ربوع الإقليم. بل أدهى من هذا، صار البهلوان العملاق ضريحا ذا بركة ومواهب فوق طبيعية، يؤمه المرضى، والعاقرات، والعاهرات، والعانسات، والمعاقون، وحاملو العاهات والأمراض الجلدية المعدية، والممسوسون بلوثات الخبل والجن…]،44. كأنني أقرأ التاريخ السري والأنثربولوجي لميلاد العديد من الأضرحة والقباب الخضراء التي تعلو كل ربوة في البلاد كما أشار إلى ذلك بول باسكون، أو تاريخ ابتكار بركة الأولياء كما أرخ لها تيري إيكلمان عند إحدى قبائل الريف (إقرعيين)، تذكروا سيدي شمهاروش، بويا عمر وللاعايشة البحرية، بهذا المعنى قلت بأن أنيس الرافعي وعكس ما يذهب إليه الكثيرون ليس تجريبيا، إنه سارد متمكن وعارف وواسع الإطلاع على الثقافة الكونية، سارد يمارس شأن بورخيص إعادات قراءة متجددة لظواهر معينة انطلاقاً من تقاطعات معرفية متنوعة، إنه سارد كوني وكونيته تكمن بالذات في اشتغاله الألخيميائي على محليته. كل شيء ينهض على الصيرورة – بهلوان، بحيث لا يصير هناك فرق بين الإنسان العادي و[البهلوان المتسلسل المتسلل]64. انصهرت الأقنعة في جوانية الوجود وصارتها في أحد المارستانات [تلك التي شيدتها القواعد المتقشفة لفن العمارة الوحشية، كما لو أنها جزيرة نائية من الخرسانة القاسية]73. فقدان الوجوه صورة الحياة الراهنة، صورة الكائنات الآلية (الربوات) الخاضعة لبروتوكول خاص، وسط كونفدرالية كبرى للأرواح المذعنة. إنها نوع ما صورة ما بعد – حداثية للاستيلاب، حين يصير الوجود شبيها بحديقة حيوان، وذلك ضمن إستطيقا البشاعة التي هيمنت على كل شيء، وفي سيناريو كانيبالي يليق بالقبائل البدائية في غينيا – بابوازيا، صارت الأقنعة – الوجوه المتعفنة، البشعة المنظر تلتهم بعضها البعض، اللعبة الكانيبالية صارت لعبة جماعية، ضمن منظور هوبزي (نسبة إلى هوبز) محض. Homo homini lupus. الكل في هذه الأزمنة الصارخة الحداثة الساطعة التوحش، صار مجرد قناع كانيبالي. إنها سلطة الأقنعة، في زمن صار فيه الزائف هو معيار الصحيح كما قال غي دوبور في كتابه الشاماني: [مجتمع الفرجة]. إنه زمن [تلاقي الأرواح الركيكة]27، كما يرى أنيس السارد الشاماني، راصد التحولات الوجودية السرية. لكن كل شيء مجرد حلم، الحلم الذي يجعل الليل مستحيلا. ما أني أوغل في هذا المتن السردي الهائل، المتعدد، الذي يمعن صاحبه في رسم خرائط غارقة، طاعنة في مهاوي لاقرار لها، وأكتشف شيئا فشيء بأن موجة العمق في (مارستان الأقنعة) متعلقة بإستطيقا السقوط، الكثير من البهلوانات ولاعبي السيرك يتهاوون يسقطون بين دفتي هذا الكتاب المشغول بتحولات الأجساد والأرواح، ظني أن سرديات أنيس الرافعي تفترض فاعلية التأويل وجدله أكثر مما تحتمل النظريات والمفاهيم المسبقة. نصوصه السردية تشبه متاهة مرئية من الكلمات والوقائع، وداخلها تكمن متاهة خفية تشبه ما ذكره بن عربي في (الفتوحات المكية) حين قال بأن هناك داخله كتاب خفي مظنون به على غير أهله. هناك دائما داخل نصوص أنيس المرئية نصوص خفية hidden texts. لنأخذ مثلا (تأثير الفسيفساء)، العنوان مستمد من الخبراء في حرائق الغابات التي تبدو من أعلى كفسيفساء متناثرة. العنوان يشبه أليغوريا ترتبط بإستطيقا السقوط، كما لو أن الساقط من الأرجوحة يرى أمكنة بدت له متناثرة في إحداها يكمن خلاصه رأى [البقع الفالتة مروجا خضراء ومساحات عشب وشجر، وهو يتهاوى إلى الأسفل، مشاهدا إياها بأم عينيه، وفق مسار مستقيم أو متعرج أو لولبي، فرأى مواعيد له في «سامراء» يحضرها هو، ولا يحضر صاحب تحديد أجله]81، علما أن الحكاية حول الموعد في «سامراء» تقول بأن صاحب تحديد أجل الشخص استغرب وجوده في سوق ببغداد وهو على موعد معه أو مع نهاية أجله تحديدا في سامراء. العنوان يرتبط بحلم النجاة والجسد طاعن في السقوط الحر، أما النص فمتعدد مخاتل، ومتاهي. هناك خطوط سردية متعددة، هناك خط العلاقة مع الرفيقة والعشيقة التي عرفت الانفصال، [فهو قد وثق على الدوام، في قبضتيها الماسكتين الحازمتين اللتين تعودتا أن تتلقفا قبضتيه في ذرى الجو، أو عند منطقة الانطلاق الشاهقة على الأرض]79، الخط الآخر هو نوعا ما حط الحبكة البوليسية لأن أمر السقوط القاتل فعل إجرامي مدبر ومفكر فيه سلفا من طرف الرفيقة / العشيقة. [وحيث تدري شريكته جيدا أنه لم يضع عند خصره، الحزام الجلدي المتصل بحبال النجاة، كما لم يكترث لغياب شبكة الحماية ولبد التصادم، وهو يدور… ويدور.. ويدور في الهواء، مثل عجلة متدحرجة بسرعة خارقة، خاطفا أنفاس جميع الحضور.. وبعد أن تعمدت أصابع عشيرته الخائنة التخلي عن أصابعه، كي يخسف في اتجاه الدرك الأسفل من الخواء، رأى سلطان الأرجوحة نفسه داخل غابة عمودية، قبل أن تندق أطرافه على الأرض، في المسافة الفاصلة بين إخفاق السقوط والكسر الانضغاطي للنخاع الشوكي لظهره]80. تم خط حكاية «تأثير الفسيفساء» الذي بدا معه، إبان السقوط، بأن النجاة ممكنة. «مارستان الأقنعة» هو نوعا ما تأريخ جينيا لوجي للسقوط والافتراس والتوحش، نوع من التأريخ المعاصر لزمن يسوده التوحش. الأدب الخلاق والشاهق في إبداعيته كثيرا ما يقول شروخ الحاضر، كوارثه وزلازله دون شعارات إيديولوجية لتمجيد شعب مفترض. الشعب الوحيد الذي تصفه / تترصده / تتربص به هذه الماكنات السردية الدوائر هو الشعب الكائن هنا / الآن، شعب التوحش والافتراس، والأقنعة والبهلنة المفرطة والإسرافية. البعض يعتقد واهما أن سياسة المواقف والشعارات هي سياسة الكتابة، التي لا تنشغل سوى بالتأريخ الأركيولوجي السري للانكسارات، الإخفاقات، المهاوي والهزات الصامتة. حينها يكف بصر الكاتب وتنفتح بصيرته 82. هكذا هي الحياة تستفيق أو تتوهم الاستيقاظ مرتديا بيجاما بذيل نمر، تعتقد بأن صك غفران حولك إلى ناج من الجحيم وعذاباته، وتكتشف أنك داخل لوحة لبوش بكائناتها الاختلافية، أعضاء الأجساد المتناثرة الأرواح المحلقة لوحة سوريالية ابتكرت عالمها، أو العالم كما رآه بوش، كــ [مهرج ضائع في «حديقة المسرات»] وسط الأقزام الذين ربما اختطفوا خديجة التي تنحدر من قبيله «اولاد سعيد» بمنطقة الشاوية. قراءة لوحة بوش لا تستقيم بدون قراءة الواقع، انهيار منظومة اجتماعية سلوكية واختلال التوازنات الاجتماعية [لكن في وقت لاحق من هاته التجربة الفظيعة، تهدم سلوكهم الاجتماعي، مثل بناية مفخخة، حينما انخفض تناكحهم، ثم ظهر فيهم تسلسل هرمي تناقصي مكون من طبقات]87. هكذا سيلفي بطل الماكنة السردية الرافعية نفسه وسط القبائل الكانيبالية ليفر بجلده. لربما كان هذا النص السردي استعادة ليوم ما من أيام الخلق، وبهذا المعنى قلنا سابقا بأن سرد أنيس الرافعي كوسموغوني، سرد ينشئ أكوانا خاصة به. أقلية من الساردين الكبار يمكن تصنيفهم في هذا المقام، مقام السرد المنشئ لأكوانه الخاصة، نستطيع أن نذكر كافكا، خوليو كورتازار، رايمون كارفر، وقلة من الكتاب عبر العالم. الحديث على أن أنيس الرافعي يكتب «القصة القصيرة»، هو طبعا من قبل الكسل المعرفي والتأويلي، لقد طلق هذا المراكشي الماكر القصة القصيرة بالطلاق البائن منذ سنوات، ليبني عقيدة السرد وحدها، عقيدة كونية لكنها متجذرة في تربية المحلية، «محليتها». لننجز الآن جردا للأمكنة: أحد أسواق الضواحي الأسبوعية، مدينة الدار البيضاء، كافة أرجاء البلاد، أحد المداشر المغربية الجنوبية (الحديث طبعا عن قرية في حوز مراكش)، ساحة الهديم بمكناس الصفارين بفاس ساحة «جامع الفنا» بمراكش، ساحة «الحمام» بالدار البيضاء ، بلدة «امسكالة» في ضواحي مدينة الصويرة سيدي المخفي… الذي يذكرني بسيدي شاشكال … إلخ. «سيدي المخفي» نص تفكيكي للنمط الذي وفقه تتشكل البركة وترفع قباب الأولياء. وهي كلها سرديات عجائبية غرائبية. في ضواحي الصويرة حيث تربض برارينا وبيتنا القروي، توجد أركانة ضخمة وشاهقة مغايرة للأشجار الأخرى في الغابة، بنى القرويون من أبناء عمومتنا حولها سورا سموها «للا خضرا» وشرعت النساء تعلقن النذور على أغصانها الشوكية النساء العاقرات والمصابات بمس والباحثات عن زوج … إلخ. البهلوان الراكب مقلوبا في «فولوبيليس» على ظهر قصير أدهم هو نفسه بهلوان «التريتيل» الغامض حليف الغوغاء وسط هرج ثورة 1465 الذي اغتال آخر ملوك دولة « المرينيين»، وهو بهلوان «أهل الله» المدفون في فاس في قبر غامض والذي تسميه ساكنة فاس «سيدي المخفي» وتتبرك بقبره، جثت مجهولة الهوية عديدة دفنت عبر تلال وهضبات البلاد وبنيت فوقها قباب خضراء وصارت جزءا من بورصة «البركة». عند مدخل مدينة الصويرة يوجد ضريح ولي اسمه «سيدي مكدول» ظل أصحاب الحال يقيمون له موسما على مدى سنوات، إلى أن نبههم أحد الباحثين بأن الأمر يتعلق بجثة طيار إنجليزي سقطت طائرته هناك، ودفنه العامة وتبركوا بعدها بقبره، ومنذ ذلك الوقت تتذكر ساكنة موغادور، لم يعد الموسم يقام. البركة تبنى في النهاية على قبر جثة مجهولة لشخص نكرة ولكنها في لاوعي الساكنة ترتبط برأسمال رمزي هو البركة التي تلعب دورًا أساسا في معتقدات الناس لكنها تظل مجرد خفاء وفراغ يعيد إنتاج نفسه. أتذكر بأن أمي الراحلة التي أقامت سنوات في بيتنا القروي الذي يتوسط سهبا حجريا مليئا بالأفاعي والعقارب، قالت لي مرة في ما يشبه الالتماعة: (لولا بركة أولياء الله الصالحين لما صمدنا في هذه الأرض القاسية). بقيت فاغرا فمي أنظر إليها. لو شئنا لأطلقنا على كل الأولياء وأضرحتهم اسما واحدا هو «سيدي المخفي». الاسم مرتبط بالحلقة المفرغة للزمن، لأن [للزمن طباع وخصال – من أبرزها كونه دائرة حازمة، تلتف مثل ربطة العشق «الزغبية» أو حول نفسها كالأفعى فليس ثمة من حدث ابن ساعته، وإنما هي وقائع لامتناهية، ستحدث، وتعاود الحدوث، مرة أخرى، بشكل لا محدود كما حدثت وتابعت الحدوث، في دورات زمنية ماضية، وفق طبائع وخصال زمنية مغايرة، ذات طراز مؤتلف، أو منوال منشطر] 90/91 … الزمن هو ثعبان كوتلزكواتل الأزتيكي الذي يعض ذيله. لذا تظل جداريات لاسكو مسكونة بشرطيتها الحداثية. إنها بركة بهلوان فولو بيليس. وكما يمكن لحقيبة أن تتحول إلى مدينة ضاجة بالبهلوانات يمكن للأبواب أن تفضي إلى أبواب أخرى خفية والخزانات إلى أخرى مندغمة داخلها، كلعبة الدمى الروسية، والشقق إلى شقق أخرى موازية. يكفي أحيانا أن ترتدي بدلة بهلوان لتكتشف العدم وتسقط مثل بهلوان زرادشت من فوق حبل مشدود في الفراغ أو من شرفة في طابق علوي: [لا شيء على الإطلاق، سيطويه قناعك المتأكل فأنت اللحظة، لا شخص فأنت اللحظة، فضلة وجود]101. هكذا تنرسم خرائطية مارستان الأرواح الركيكة والأقنعة المتعفنة والبهلوانات الساديين، وهو بالتأكيد مارستان الأزمنة الحديثة …/.

ملحوظة:

المقال دراسة حول «مارستان الأقنعة» (إعادة اختراع البهلوان) وهو كتاب سردي لأنيس الرافعي صدر سنة 2025 عن دار خطوط وظلال في الأردن، وقد أشرنا إلى أرقام الصفحات داخله.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 12/09/2025