التباس الحكاية في رواية «عين الفرس» للميلودي شغموم

 

يعتبر الميلودي شغموم واحدا من أهم الروائيين المغاربة، إذ ساهم، بشكل كبير، في إرساء دعائم الكتابة السردية بالمغرب بنصوصه الكثيرة والمتميزة، كما أنه أصبح يفرض صوته الإبداعي على الساحة الإبداعية منذ نصوصه الأولى كـ “الضلع والجزيرة” و”الأبله والمنسية وياسمين” وغيرهما. ولم تعرف مسيرة شغموم الإبداعية، في أي لحظة من اللحظات أي نوع من أنواع الفتور أو الغياب، قط، بل ظل منتظما دؤوبا، ووفيا لسؤال الكتابة إلى أن راكم عشرات النصوص التي أغنت المشهد الأدبي.
اختار شغموم، منذ نصوصه الأولى، طريقة غير معتادة في الكتابة تقوم على خرق خطية السرد والمزج بين الواقعي والسحري، والحكي والميتاحكي، وغيرها من التقنيات الحديثة التجريبية التي تولدت مع الرغبة في اجتراح كتابة جديدة تتحرر من إسار مواثيق الكتابة التقليدية. وسأحاول في هذه الورقة الوقوف عند واحدة من أهم الخاصيات التي تميز نصوصه، وهي خاصية الالتباس التي تطبع محكياته الروائية، وهي خاصية تتواشج مع شكل جديد للكتابة الروائية بدأ يفرض نفسه في المغرب خاصة مع كتابات أحمد المديني ومحمد عز الدين التازي ويوسف فاضل وغيرهم.
تلقي رواية “عين الفرس” بقارئها، منذ البداية، في عوالم غرائبية لا تربطها بالواقع إلا وشائج واهية، فالسارد يصرح، منذ الوهلة الأولى، أن الوقائع التي سيضطلع بروايتها حدثت سنة 2081 في إحدى الإمارات الكئيبة. وانطلاقا من هذه المؤشرات الأولى يتضح أننا أمام نص يقوم على جماليات مغايرة تعتمد الخرق لكل ما هو مألوف في الكتابة السردية. أما السارد فيقول عن نفسه: “… ولدت سنة 661، ومتّ بعدها بعشر سنوات، ثم ولدت سنة 842، ومتّ بعدها بعشرين سنة، ثم ولدت سنة 1830 ومتّ بعدها بثلاثين سنة..” (ص 5). هكذا يتضح أنه منذ البداية يدرك القارئ أنه أمام نص ملتبس لن يسلمه نفسه بسهولة ويسر، بل عليه أن يبذل الكثير من الجهد كي يمسك بخيوطه المتشابكة والمعقدة.
تتحدث هذه الرواية عن راو دعاه الأمير كي يحكي له وحاشيته حكاية من حكاياته ، غير أن الراوي لم يعد شابا كما كان، بل صار “شيخا ضعيف الذاكرة والعقل والخيال، هرما ميالا إلى الخلط بين التواريخ والأحداث، وكذلك بين المصادر والأسماء، ناهيك عن الزمان والمكان…”(ص6). ورغم توسله لكبير مؤنسي الملك كي يتدخل لإعفائه من هذه المهمة الشاقة إلا أن أوامر الأمير تبقى غير قابلة للنقاش ليجد نفسه أمام خيار واحد إما الحكي أو الموت شأنه شأن شهرزاد ألف ليلة وليلة.
تعتبر المفارقة واحدة من أهم خاصيات هذه الرواية، وتتجلى في الخلط بين الأزمنة والأمكنة والأحداث.. وكذا الخلط بين الحكاية والواقع. وقد نسج الكاتب خيوط هذه المفارقات بطريقة خلاقة لا تني تفاجئ القارئ بل تربكه في الكثير من الأحيان.
فحكاية “الولد الضال والرجل الطيب” التي رواها السارد أمام الأمير وحاشيته ستصير أحداثها أحداثا حقيقية وشخوصها من لحم ودم يعيشون نفس المصير الذي تحدثت عنه الحكاية. وبهذا الصنيع تتحول الكتابة عند شغموم إلى نوع من اللعب الخلّاق يخلط فيه بين الخيال والحقيقة بطريقة هزلية ساخرة لا تخلو من إيحاءات. كما أن الحكاية التي اعتقد الراوي أنها ستجنبه بطش الأمير ستصير هي سبب ما تعرّض له من تعذيب ونفي وحكم بالموت.. ألم يسبق له أن سمى الحكاية ب “رأس الحية”(ص 7).
تتجلى بنية اللعب أيضا، في هذه الرواية، في كون أحداثها انبثقت من دعابة أطلقها حميد زعم فيها أنه في أعماق البحر توجد باخرة أمريكية مليئة بالبسطيلة والمشوي. وقد تحولت هذه الدعابة إلى حافز لأهل هذه الإمارة الفقيرة (عين الفرس) للمغامرة بحيواتهم بحثا عن هذا الأكل الشهي؛ لذلك أصبح الناس يختفون تباعا الواحد تلو الآخر مما خلّف وضعا مربكا لأهل الولاية ولسلطاتها التي لجأت إلى اعتقال السارد والتحقيق معه فيما يجري في هذه الإمارة وكأنه هو المسؤول عما يقع !
إن رهان شغموم على شكل جديد للكتابة هو في نفس الآن رهان على قارئ مختلف لا ينتظر المعنى الناجز والجاهز، بل قارئ يساهم بدوره في صنع هذا المعنى. ذلك أن عالم شغموم الروائي، من التعقيد والالتباس، مما يجعل القارئ العادي الذي تعود على الكتابة الخطية والمسترسلة عاجزا عن مسايرة عالمه المليء بالمنعرجات والمقالب وممرات التيه والغموض. إنها كتابة اختارت طريقها وراهنت على التجريب كاختيار جمالي لا يهاب المغامرة كتابة وتشكيلا.
وتتجلى بعض مظاهر هذه المغامرة في اعتماد “عين الفرس” على بعض النصوص التراثية إلى جانب القالب الروائي الحديث. ومن بين هذه النصوص التراثية التي تحظر كنص غائب في ثنايا هذا النص هناك نص “الخبر”. فالخبر واحد من أهم الأشكال السردية التراثية الذي يتميز بجملة من الخصائص كطابعه الشفوي ومزجه بين الهزل والجد، الألفة والغرابة، الخارق والواقعي وغيرها من الخاصيات. يتجلى الانفتاح على نص الخبر، في هذا النص، في اعتماده على السند في رواية الأحداث والوقائع. فالخبر الذي رواه محمد بن شهرزاد في حضرة الأمير أخذه عن محمد النفال الذي نقله بدوره عن المهدي السلوكي. ولعل انتقال الخبر، بهذا الشكل، من شخص إلى آخر هو الذي جعل أحداثه تتأرجح بين الحقيقة والزيف، وهذا ما استشعره الراوي قبل الشروع في رواية حكايته عندما قال: “… إلا أنني، في كلتا الحالتين سأكون شيخا ضعيف الذاكرة والعقل والخيال، هرما ميالا إلى الخلط بين التواريخ والأحداث وكذلك بين المصادر والأسماء، ناهيك عن الزمان والمكان، وعن الباطن والظاهر، وعن الحلم والواقع وعن الحقيقة والوهم…” (ص 6).
وليس المحكي الرئيسي وحده، في هذه الرواية، الذي اعتمد هذا البناء، بل نجد المحكيات الصغرى المتخللة للمحكي الإطار، هي الأخرى، تعتمد نفس الصياغة. ففي حكاية الطاهر المعزة الذي اختفى بعد ما رواه له حميد ولد العوجة عن البصطيلة والمشوي الموجودين بسفينة في أعماق البحر، نجده يؤكد أن ما يرويه عن الطاهر لم يشاهده بأم عينيه، بل رواه له الصياد مبارك بوركبة والذي رواه بدوره عن أحد أصدقائه الصيادين وهكذا دواليك. كما أن أحد رواة هذا الخبر يؤكد: “الحقيقة أني لم أشاهد ذلك بما تسميه أنت شهود عيان، وإنما رواه لي صديقي الصياد مبارك بوركبة، فشاهدته بعد ذلك… في ما يشبه الحلم أو الرؤيا أو التذكر.”ص34 غير أن بنية الخبر في هذا النص ستشذ عن وظيفته التراثية ليغدو خبرا ينبئ بما سيقع وليس بما وقع !
إلى جانب بنية الخبر نجد بنية “الليالي” بدورها حاضرة في ثنايا هذا النص، سواء من خلال اسم السارد محمد بن شهرزاد، أو من خلال علاقة الحكاية بالموت، أو من خلال علاقة الحكاية الإطار ببعض الحكايات المؤطرة. فالحكاية التي أنجت السارد من الموت كانت هي السبب فيما آل إليه، ناهيك عن استثمار محكيات تتواشج في غرائبيتها مع محكيات “الليالي” كحكاية أهل ولاية “عين الفرس” الذين كانوا يقيمون حفلات ليلية لاستحضار الغائبين من رحم البحر، وهي حفلات تشبه تلك الطقوس البدائية التي كان الناس فيها يقدمون قرابين للآلهة كي تقيهم شر الطبيعة ومصائب القدر. وبسبب هذه الطقوس المتتالية بدأت بعض النساء يتحدثن عن زيارة أزواجهن لهن ليلا محملين بالعطور واللآلئ. ومنهن من أعلنت أنها حامل. أما خطيبة حميد فقد كانت تستجدي السارد لاستثمار معارفه قصد تسخير العفاريت التي تسكن البحر لتساعدها على استعادة خطيبها.
لقد أضفت هذه النصوص التراثية على نص “عين الفرس” نوعا من التعدد والتناسل والدينامية سواء فيما يخص سجلاته اللغوية أو بنيته الحكائية. وعلاقة شغموم بالتراث السردي القديم لا تتجلى في هذا النص فحسب، بل نجدها في الكثير من نصوصه الروائية. فهو يعمل دائما على المزج بين السرد التراثي والقالب الروائي الحديث.
وإلى جانب هذه المكونات التي تلحم بنية النص وتنصهر في ثناياه، هناك أيضا التأملات الفكرية، أو ما يسمى بالميتاسرد التي نجدها في أغلب أعمال الميلودي شغموم.
ففي هذا النص مثلا، نجد أغلب التأملات تتساءل عن معنى الحكاية والغاية منها وعلاقتها بالواقع. وهو ما يدفعه دائما إلى اعتماد مبدأ الخرق كمبدأ أساسي في تشييد عوالمه السردية. وهذا ما يدفع به إلى تجريب طرائق جديدة باستمرار، إذ أنه لا يركن إلى شكل قار وثابت. وإلى جانب تأملاته حول ماهية الكتابة والحكاية بشكل عام، نجد تأملات عن علاقة السارد كمتعلم “مثقف” بالناس البسطاء والعاديين وعجزه عن تقديم أي شيء لهم يساعدهم على مواجهة قساوة الفقر وبطش السلطة، يقول: “فالأميرال لم يكن يهدف إلى عزلي في المكان والزمان، وإنما عزلي فكريا وشعوريا بوضعي بين أناس لا أستطيع أن أفعل من أجلهم أو معهم أي شيء…” (108).
يتبدى،إذن، من خلال هذا العرض أن عالم الميلودي شغموم عالم يتسم بالكثير من التنوع والغنى والتداخل بين المحكيات والأزمنة والأمكنة وغيرها. وقد ظل وفيا ومخلصا لهذا الاختيار طيلة مسيرته الإبداعية الشيء الذي يجعل منه واحدا من الأسماء التي بصمت الحقل الروائي المغربي طيلة حقبة من الزمن.


الكاتب : عبد المجيد الحسيب

  

بتاريخ : 17/06/2022